مَن يكتب حكايته يَرِث أرضَ الكلام، ويملك المعنى تماماً
التاريخ: 
17/04/2021
المؤلف: 
ملف خاص: 

في يوم الأسير، السابع عشر من نيسان/أبريل 2021، يكون قد مضى عام على إطلاق مؤسسة الدراسات الفلسطينية مدونة خاصة تُعنى بقصص الحياة الاعتقالية، ونشرِها قصصاً من التجربة المُعاشة لعشرات الأسرى والأسيرات، الحاليين والمحرّرين، ومن ذوي الشأن من أُسَرٍ، أو لمحاميات ومحامين، أسبوعياً وبصورة منتظمة. وبهذا يشكّل موقع المؤسسة على الشبكة دفيئة غزيرة الإنتاج المبدع، ويقدم للجمهور الواسع ما أمكن من قصص الحركة الأسيرة والحياة الاعتقالية.

 

الفنان اللبناني إميل منعم، ١٩٨١، من أرشيف ملصق فلسطين

 

أكثر من خمسين قصة لغاية الآن، روت كلها تفصيلات الحياة الاعتقالية، كل قصة تحدثت عن جانبٍ من تجربة مَن عايشها، عن فرح، أو حزن وترح؛ منها ما يحمل القهر، أو التحدي وقهر القهر؛ وبينها ما يتحدث عن تفصيلات إعداد الطعام، أو إعداد الإضراب عن الطعام، أو عن فراق الأحبة، أو ولادة الحياة وتجددها بعد تحرير نطفة. وهناك صبية في مقتبل العمر وذروة الحلم الواعد يقابلها امتحان الحياة التي احتلها الاحتلال. الكثير من التفصيلات كُتب، تفصيلات صغيرة تكاد تفقد أي معنى لو واجهها إنسان خارج الأسر، لكنها من أسس عالم الأسير والأسيرة، فلا عالم في السجن من دون التفصيلات الصغيرة كي يخلق الأسير كل شيء من لا شيء. ولا توازن من دونها. كلها قصص صغيرة، لكن بها تكتمل القصة، ولا يمكن أن تكتمل من دونها.

اعتمدنا القصة المُعاشة، مبتعدين عن لغة الأساطير، مشددين على أنسنة حكاية الأسرى بحقيقة حياتهم وعالَمهم الأسير.أبطال وبطلات الأساطير يحققون النجاة بأنفسهم، أو يمضون في التاريخ وقد ضمنوا مكاناً في التراجيديا، ولا حاجة إلى أن يحرك أحد من القراء ساكناً. أمّا رواة قصصهم الاعتقالية الذاتية فإنهم يضعوننا جميعاً أمام مرآة المسؤولية، وهي المرآة التي يتبين منها التقصير، بل تقريب موعد الحرية. كما أن التقصير لا يعني انعدام الفعل أو بذل الطاقات، بل تكامل الأدوار والإرادات ضمن مشروع الحرية، وكي لا تذهب الطاقات هدراً ويُستنزَف فعل الشعب. لا يحرر الأسرى أنفسهم وإنما هذا دور الشعب وكل أنصار ونصيرات الحرية وقوى التضامن معه.

اعتمدنا القصة كي لا تضيع التفصيلات في ظلال البطولات المتخيَّلة والأسطورية. وكي يتحرر الشعب من فعل التعاطف إلى الفعل التحريري. وكي لا يكون مسعانا فقط لعدّ السنين وطقوس النياشين، وإنما نقل القصة التي تحمل حلم الحرية، وإلى حينه توازنات عالم الجدران. حتى في الواقع الفلسطيني البائس والمحيط العربي الأكثر بؤساً لا مجال لليأس، ولا متسع لفقدان الأمل، ولا تسليم في الاستعاضة عن العجز عن التحرير بالإكثار من خطاب التقديس والبطولة. لا يوجد أسير يفضّل أعظم النياشين على فسحة حرية.

ننقل قصص الحياة الاعتقالية لنقول للجميع كما لأنفسنا، لا تقل لم أعرف! ولنقل للجميع كما لأنفسنا إن مسؤولية إحقاق الحرية ليست محصورة في أهالي وعائلات الأسرى، بل يكفي ذوي الأسرى أنهم هم أنفسهم أسرى الأَسر، تكفيهم المعاناة النفسية والجسدية والمعنوية في كل يوم وفي كل لحظة. يكفيهم أنهم بقدر ما تطول سنوات أسراهم في المعتقل يكبرون ويهرمون ويضعفون. يكابرون على الحزن والألم والقهر والمرض كما يكابر أسراهم. فكم من أم وأب وأخت وأخ وابنة وابن قضوا بعد أن هرم الحلم فيهم ومات معهم، لتنكسر قلوب أبنائهم، ولا يجدون مكاناً للحزن في قلوبهم المقهورة. وكم من ابن وابنة وأخ وأخت انتقلوا من مرحلة الطفولة وباتوا آباء وأمهات، ولا يزال أسراهم يعيشون طفولتهم، معتقدين أنهم ما زالوا هناك. وكيف يشعر أقرب الأقرباء، القابضون على الحلم، حين يعلمون بأن ابنهم الأسير أصيب بمرض لا فكاك منه، وأن حياته في خطر، وأن علاجه سيكون تحت رحمة سياسة الإهمال الطبي التي لا تعرف الرحمة، بل قهر الروح والجسد.

إن قصة الأسرى ليست بجديدة، بل تمتد على مساحات قضية فلسطين، إنها استمرار لمسار طويل لم يتوقف يوماً. ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، التي تكرس جلّ حضورها في الشأن الفلسطيني، نشرت عشرات الدراسات والبحوث في قضية أسرى الحرية من الفلسطينيين والعرب في سجون دولة الاحتلال، كما نشرت مئات القصص والسرديات والنصوص لتغطية الجوانب المتعددة لتجربة الحياة الاعتقالية، والتي لا يُتوقع انتهاؤها قبل زوال الاحتلال وإحقاق الحق الفلسطيني بالعودة والتحرير وتقرير المصير.

يوم الأسير هو أكثر من مناسبة للاحتفاء بها أو إحيائها، ويتميز بأنه حالة فلسطينية مُعاشة كل يوم، ويكاد يخص كل بيت. فالحركة الأسيرة هي حركة كل الشعب، وحالها من حال الشعب، ومن روحه. كما أن اعتقال دولة الاحتلال أكثر من مليون فلسطيني وفلسطينية، فيه دلالة على مدى عمقها في الوجدان الفلسطيني. وحين ننظر إلى الصورة الواسعة نجد أن الحركة الأسيرة لا تنحصر في الأسرى والأسيرات الفلسطينيين وحدهم، بل أيضاً في أسرى قضية فلسطين من الوطن العربي ومن أرجاء العالم.

عدالة قضية الأسرى هي أيضاً من عدالة قضية فلسطين وشعبها، وهي قضية حظيت وتحظى بأوسع حركة تضامن عالمي من أنصار الحرية، الشركاء والشريكات في الطريق الى الحرية. فالتضامن العالمي هو سند أساسي للشعب الفلسطيني وأسراه، والتضامن ليس بديلاً من نضال الشعب، بل هو شريك له في تحمّل المسؤولية الإنسانية لنصرة ضحايا الاستعمار والاحتلال والعنصرية. ما تطمح إليه الحركة الأسيرة أبعد من التعاطف، إلى فعل سياسي هادف ومؤثر نحو إحقاق الحق، ويتعزز دور التضامن بتعزُّز نضال الشعب، كما يحثّنا الواجب الإنساني على أن نتضامن نحن أيضاً مع ضحايا القهر والغبن وتغييب العدالة.

خير مَن يروي قصة الأسرى هم الأسرى السابقون والحاليون، ومَن يروي جانبها الآخر هم أُسَر الأسرى، الذين يعيشون الحالة، لتتكامل القصتان في حكاية واحدة هي جزء من قصة الشعب. المؤلم في هذا السياق هو تلك الآلاف من القصص التي غابت ولم يوثّقها أصحاب التجربة المباشرين، ولهذا تسعى المؤسسة للتوثيق بأقلام أسيرات وأسرى.

قد يبدو نشر قصة بقلم أسير مسألة نص وفحوى لا أكثر، لكنها بالنسبة إلى الأسير تشكل تحرير جزء من مشاعره وأفكاره، وإعادة اعتبار للمعنى الذي يجد أرضاً في ذاكرة الشعب بدلاً من ضياعه مع الأيام. السجن فراغ، فإمّا يملؤك الفراغ بالفراغ وإمّا يملأ الأسير الفراغ بالمعنى. فحين يكتب قصته يملك المعنى، وفي هذه المبادرة مسعى لتحاشي أي ضياع.

واجهتنا تحديات في تجميع القصص، وبالذات في استكتاب أصحابها، فهناك مَن استجابوا بسرعة وبذلوا كل جهد وأبدعوا، وهناك مَن تردد في الكتابة عن الحياة الاعتقالية التي يريد أن ينساها ويتحرر منها، وهناك مَن اعتذر بنبرة يأس بالقول: ماذا سينفعنا ذلك ما دمنا لا نتحرر، أو ما دام حال الثورة قد بات بائساً الى هذا الحد، لكن الحلم يبقى مشرقاً مهما كثرت العثرات. وكان الرد بأن الكتابة في هذه الحالة هي من أجل الذات، ومن أجل الأمل والحلم الواعد. لذلك لم نبحث عن بطولات أسطورية وإنما عن أنسنة الحكاية، وهذا ما يطمح إليه الأسرى أنفسهم.

المدونة المعنية بقصص الحياة الاعتقالية بكل جوانبها، هي مدونة مفتوحة للجميع، للأسرى والأسيرات الحاليين والسابقين والمحرَّرين، وللأُسَر التي تعاني وطأة اعتقال الأحبة. كما أنها مفتوحة لكل مَن يتواصل مع الأسرى من محامين ومحاميات ونواب، والذين يحملون الرسالة بأمانة.

في يوم الأسير نعود ونؤكد حكمة الصابرين بأن الدور المنشود من شعبنا، بقياداته ومؤسساته وتنظيماته، ليس في عدّ السنين، بل في تقصير أمد الأسر على طريق التحرير والفرج.

ولا بد من كلمة امتنان إلى مَن ساهموا في هذا الجهد ممن كتبوا، وكذلك طاقم المؤسسة الذي عمل في هذا الصدد، وأخص بالذكر محررة الموقع الإلكتروني رنا عناني، والأسير السابق بلال عودة. وهذا ما لم يكن ليحدث لولا مبادرة من مدير عام مؤسسة الدراسات الفلسطينية خالد فراج ومساندته.

وبهذه المناسبة نعود ونعرض مجمل ما كُتب من أدبيات في مجلة الدراسات الفلسطينية، وعلى موقع المؤسسة، ليشكل مرجعية معرفية وبحثية لكل المعنيين والمعنيات بالحركة الأسيرة.

ونؤكد ما قدمه شاعر السودان والعرب محمد مفتاح الفيتوري: "أصبح الصبح، ولا السجن ولا السجان باق". إنه صبح لا يأتي برتابة الطبيعة بل بفعل الإنسان، وهذا هو دورنا جميعاً.

الحرية للأسرى والأسيرات.

كل عام وشعبنا وأسرانا إلى الحرية أقرب.

 

* العنوان من قصيدة "لا أعرف الصحراء" لمحمود درويش.

عن المؤلف: 

أمير مخول: كاتب من حيفا.