معتقل "عوفر" نموذج لروح النضال ورفض الاحتلال
التاريخ: 
24/03/2021
المؤلف: 
ملف خاص: 

كان يصرخ بأعلى صوته، تقطعت أوتاره الصوتية وهو يواجه عدوه، (فكْني ... ولك فكْني ... فكْ الكلبشااات)... هي كلمات كانت تهتف بها حنجرة أحد أسرى القسم ١١ في سجن عوفر، والمصاب بالرصاص الحي في قدمه قبل الاعتقال، موجهاً كلماته إلى أحد عناصر قوات القمع التي كانت تركله يميناً ويساراً، فلم يحتمل قيداً في اليد وألماً في القدم وهراوات على الجسم، في أثناء ذلك جاء الرد من أحد الضباط: "إحكي بحب إسرائيل بفكّك هسا"!

كيف يطلب ذلك من شخص قدّم نفسه أسيراً للوطن، وجريحاً للقضية؟ بالتأكيد سيكون الرفض قاطعاً، حتى وإن كان الثمن قيداً إضافياً في القدم يضاعف الألم الذي لا يُحتمل. هذا ما حدث، فبعد رفضه قول تلك الجملة عاقبه أفراد وحدات القمع بضربه بوحشية مستهدفين مكان الإصابة. الأكثر وجعاً أن ما باليد حيلة، فكافة الأسرى مقيدون لا يستطيعون أن يحركوا ساكناً. إنه أحد مشاهد غزو وحدة "الماتسادا" لسجن عوفر في 21 يناير 2019.

مرّ عامان على أبشع أيام الاعتقال، وكنت قد كتبت هذه الكلمات من مكان الجريمة في سجن عوفر، وأبت الظروف أن أنشر ما كتبت الى أن جاء اليوم.

معتقلات الاحتلال نموذج مصغر لسياسة ممنهجة

منذ عدة عقود يتعرض الأسرى الفلسطينيون، وبصورة متواصلة ويومية، لحملات تنكيل جبانة داخل باستيلات الاحتلال، سلبتهم إنسانيتهم وأنزلت بهم فنوناً عجيبة من المعاملة الوحشية والقذرة، ونظرت باحتقار إلى حياتهم وانتمائهم لقضيتهم، وكذلك لكرامتهم. فقد كانت فرق القمع التابعة لما يسمّى إدارة مصلحة السجون الأكثر عنجهية وغطرسة وعدوانية وإصراراً على تدمير ثقة الأسرى بأنفسهم واقتلاع قضيتهم من الذاكرة الإنسانية.

قام الكيان الصهيوني بنسخ طرقه البشعة في التنكيل بالأسرى من رحم فكرة "إسرائيل التاريخية"، واحتلال الأرض، واستبدال الشعب بالشعب، والثقافة بالثقافة، والتاريخ بالتاريخ، فاستنسخت وحدات القمع الحاقدة في السجون ما يطبقه أسيادها في الخارج، وتقمص أفرادها دور الأبطال، مستأسدين على مَن هو خالي الوفاض، مَن لا يملك إلّا الصدر العاري للمواجهة، إنهم الأسرى الفلسطينيون.

لم يحدث ذلك عبثاً، ولم يكن صدفة، بل خططت "مصلحة السجون"، وبأوامر من الخانات العليا، لشنّ هجمة مسعورة ضد أسرى عوفر. ليس هناك أدنى شك في أن ذلك الهجوم كان بقرار من نتنياهو- وحكومته اليمينية- في محاولة لإقناع الشارع الصهيوني، قبل انتخابات أبريل/نيسان ٢٠١٩، بمدى كفاءته وأحقيته في قيادة المركب، كل ذلك ليثبت أنه يُحكم السيطرة على كافة المعاقل والبؤر الثورية في شتى البقاع، وبطبيعة الحال السجون كمعاقل ثورية.

ساحة السجن نموذج ثوري لنضال الأسرى

لم يقبل أسرى عوفر أن يكونوا مادة دعائية لنتنياهو ولا أدوات تعرض من خلالها قوى القمع الفاشية في السجون عضلاتها وقدراتها، فلم يكن اقتحام القسم رقم ١٥ في عوفر من طرف ما يسمى وحدة (الماتسادا) حدثاً يمكن أن يمر مرور الكرام، إذ قاموا بإحراق ثلاث غرف في القسم، ونتيجة ذلك وقعت إصابات بين الأسرى المنتصرين للحق وبلغت أكثر من خمسين. كان ذلك سبباً كافياً لجعل  كافة الأقسام الأُخرى في المعتقل شعلة تنتفض في وجه إدارة السجن.

إن كل الأخبار التي كانت تصلنا عن القسم ١٥، على الرغم من فظاعتها، لم تكن كافية لتخيّل حجم المأساة والضرر، لكن اقتحام الوحدة ذاتها للقسم الذي كنت أُقيم به (القسم رقم ١١) كان خير تعبير عن مدى عنصرية وفاشية وصهيونية هذه الوحدة.

إن ما حدث لهو شريط مصور لمأساة تعجز كل مخيلات الرعب عن محاكاتها، فكيف استطاع أفراد هذه الوحدة اقتحام الغرف، الواحدة تلو الأُخرى، وقيامهم بإطلاق الرصاص المغلف بالمطاط من مسافة صفر نحو جميع الأسرى في غرفهم، وتعمُّد إصابتهم في أماكن قاتلة.

أكوام الأسرى في ساحة القهر

لم يكفِهم ذلك بل كان يجب أن يكبَّل كل أسير بالقيود البلاستيكية التي تمنع دورة الدم في اليدين وتُفقده الشعور بهما بعد مرحلة الألم الصارخ، وتبدأ الصفعات من كل حدب وصوب، مستهدفةً الوجه والأطراف العليا من الجسد، وهم يدفعون بالأسرى نحو الساحة.

وهنا كانت الفاجعة، هنا تجردوا من إنسانيتهم بالكامل، حيث كوّموا مئة وعشرين أسيراً فوق بعضهم البعض ككومة قش في مساحة لا تتعدى الثلاثين متراً مربعاً، مقيدين ومصابين، ورائحة الدماء تحاصر الجميع، ولا يمكنك رفع رأسك لأن الهراوات جاهزة لتشويه جمجمتك إن فعلت ذلك.

الأرض باردة جداً والمياه المخلوطة بالدم تكسوها وتلف الأجساد، ومحظوظ جداً مَن رمت به وحدة القمع فوق أحد زملائه من دون أن يلامس الأرض، أمّا تكسير الغرف ومصادرة كل الأدوات الكهربائية البسيطة فيها، فحدّث ولا حرج، كل أسير خسر أملاكه الشخصية، وكل غرفة خسرت محتوياتها.

أكيال من الدمار داخل القسم  شهدتها الغرف الاثنتا عشر، وذنب هؤلاء الأسرى أنهم رفضوا ممارسات العدو الوحشية، ورفضوا إهانتهم بهذه الطريقة الفاشية.

مشهد يرافق 1200 أسير فلسطيني

مأساةٌ، بل ملحمة، أبطالها 1200 أسير فلسطيني تعرضت إرادتهم الصلبة لمحاولة إبادة، ومارست قوى البطش وآلات القمع بحقهم أقسى أنواع التعذيب والتنكيل وأبشع الجرائم، منتهكةً المواثيق والأعراف الدولية، وكاسرةً أقل حقوق الأسرى في العالم، ومتجاوزةً حقوق الإنسان والطبيعة...

إن التضليل الذي ينشره الإعلام الصهيوني كما لو أن الأسرى يعيشون في مدن ملاهٍ وليس في سجون، ليس تلميعاً بل هو ساتر وتغطية لممارساتهم الجبانة ضد الأسرى، بل إن ظهورهم بهذا المظهر الفاتيكاني المسالم أمام الرأي العام ليس إلّا دعاية بهلوانية صنعتها قوة الإدارة الإعلامية لديهم وروّجتها.

ذاك المشهد الذي رسمه الأسرى وهم مشبوحين في ساحات عوفر تكفر به كل الأديان، فقد لعبت السياط برقابهم، وقرحت الدموع أجفانهم، ونخر الرصاص المطاطي جلدهم، وفتك الجوع بأحشائهم، وشلّ البرد أبدانهم، فيا أيها الإنسان قل لي متى نال الأسير حقوقه؟ ومتى شعر للحظة بكيانه وكينونته؟

عذراً أيها العالم.

عن المؤلف: 

باسل مزهر: محام من مخيم الدهيشة، أمضى في سجون الاحتلال أكثر من ثلاث سنوات، منها عام ونصف العام تحت الاعتقال الإداري.