بنت من شاتيلا
أكرم مسلّم
عمّان: الدار الأهلية للنشر والتوزيع، 2019. 160 صفحة.
هذه الرواية تبدأ بداية موفقة من حيث المنظور، إذ إن الكاتب يفترض أن القارىء يعرف من العنوان ومن الإهداء موضوعها: مجزرة شاتيلا في بيروت في أيلول / سبتمبر 1982. فهذه المجزرة ذات خصوصية لأنها من أولى المجازر التي كادت تُبثّ حية على الهواء مباشرة، فقد نقلتها قنوات التلفزة العربية والعالمية في نشرات الأخبار، ووُثّقت وقائعها في أكثر من كتاب بحثي أو فيلم وثائقي، فضلاً عن أنها لهولها الذي لن يسقط بالتقادم مهما يحفل "الوطن العربي" بمجازر ومآسي، حظيت بكتابات أدبية كثيرة من أبرزها نص جان جينيه الشهير: "أربع ساعات في شاتيلا".
اختار الروائي إذاً منظوراً موفقاً بافتراضه الصائب أعلاه، واختار أيضاً شكلاً خاصاً لروايته ذات الفصول الاثنَي عشر، المتناوبة مع ما يشبه فصولاً تمهيدية ذات طابع مسرحي واضح.
إلّا إن تلك الاختيارات الفنية المبتكرة، لم تقدر على التحرر من لحظة الكتابة، لحظة الآن الثقيلة بحمولتها، إذ بدت الرواية كأنها تجنح إلى ماضٍ نعرفه من التوثيق من جهة، وإلى حاضر مثقل بخطاب ثقافي استنباطي من قصص المذبحة وسياقها.
سينجح المؤلف إلى حد ما في إلقاء حمل الخطاب الثقافي الضخم على عاتق أحد أبطاله: الشاب الأنيق، حين يصوره منذ البداية شاباً مثقفاً وفاعلاً في الحقل الثقافي المعاصر، فهو طالب دراسات ثقافية عليا في جامعة بيرزيت، جاء إلى هامبورغ للمشاركة في برنامج تبادل أكاديمي. لكن نظراً إلى كمّ الأفكار والآراء الوفيرة، سيلجأ الراوي مسلّم إلى تخفيف العبء الثقافي عن "الشاب الأنيق" باللجوء إلى "دعسة ناقصة" لو صحّ القول، كأن يتكفل الراوي ببثّ تلك الآراء في ثنايا الرواية، أو بإخراجها ناصعة شديدة الحرفية على لسان كثير من شخصيات الرواية، الأمر الذي يمنع النقد من ألّا يقول ما يجب قوله: الراوي العليم هو "هفوة" الرواية الجميلة التي ابتكرت شكلها ومنظورها بعد تفكير عميق يأخذ في عين الاعتبار أساليب الكتابة الروائية الـ "ما بعد كولونيالية"، أي تلك الرواية التي تريد تفكيك ما هو تقليدي لتُوسّع القول وتلمّعه من جوانب أهملها نقد تقليدي يميل إلى التسلط.
توزيع الرواية إلى فصول قصيرة نسبياً، تتخللها وقفات "مسرحية" إن جاز القول، يسمح لأسلوب الفصل والوصل بأن يجلو موهبة أكرم مسلّم، فكل فصل يمكن أن يكون قصة بذاتها، لكنه ما إن يتصل بما قبله وما بعده، حتى يفصح عن حكاية شاتيلا مجزرةً وضحايا وبنتاً وحيوات مطبوعة بما هو أقوى من جرح غير مندمل.
يختار مسلّم لروايته مدينة هامبورغ الألمانية لتكون موضع مفارقات شتى: العجوز الألمانية التي ماتت بعد لقائها بجارها الشاب الأنيق؛ البنت المسماة حورية ألستا. فكل واحد من هذه الشخوص سيدل على فكرة، أمّا حورية ألستا الشخصية الرئيسية فسيلعب الراوي بمصيرها وروايتها كما لو أنها بؤرة لاستيلاد العقاب.
فهي الناجية الوحيدة من دون أمها وإخوتها في ليل شاتيلا، لكنها ناجية للفرجة، ليتفرج الناس وأصحاب الكاميرات والصحف على قصتها ناجية وحيدة. ثم يغير الراوي قليلاً، فيذكر أن لها أخاً نجا مثلها، إلّا إن الكاميرا لا تريده، و"لأن قصة الناجية الوحيدة أقلعت كقصة لامعة عن هول المجزرة، اختار الرواة لاحقاً التغاضي عن عودة الأخ. قرروا أن تظل ناجية وحيدة لضمان جودة الحبكة."
إذ بعد أن يزيل عنها صفة الناجية الوحيدة، يضيف إليها عبء حمل الخطاب الثقافي، من بعد أن يكون قد نجح فعلاً في رسم ملامح شابة فلسطينية تدرس الإعلام وتعمل في فرقة مسرحية ملتزمة وتجيد التعبير عن نفسها، ليصير الحوار بينها وبين "الشاب الأنيق" خطاباً ثقافياً موزعاً على الصوتين. ومع ذلك فإن شخصية حورية ألستا لن تتلاشى بسهولة نظراً إلى دقة أكرم مسلّم في الوصف غير المباشر الذي يمكن تلمّس ملامحه في إعجاب الشاب الأنيق بها.
يخطو الراوي خطوة كبرى كأنها قفزة في فراغ، حين يعود إلى ماضيها عبر لسان أبيها الفدائي الاستثنائي الشجاع، شبه المكتمل في الموهبة والمعرفة، ليخبر عن حب ماضٍ لشاب من عمرها تماماً: محسن - الشخصية الوحيدة ذات الاسم الصريح في الرواية. فنرى الأب كما لو أنه ارتدى ثوب الراوي العليم، ليرى ابنته تكبر أمامه تتدرب على السلاح وينالها جرح في وجهها، وتقع في حب محسن. يتفرج الأب على ابنته الناجية مغرومة بثمرة خطيئة الفدائي الذي بلحظة أقصر من مقطع قصير، يخون الأمانة، أمانة زميله في العمل الفدائي النبيل، حين تقوده الشهوة فجأة لا ليقيم علاقة مع زوجة زميله مثلاً، بل ليمر لدقائق في بيتها يقتنص شهوة تترك وراءها ابن الخطيئة في غفلة من كل شيء. كيف انتظر الأب ذلك الوقت كله متفرجاً على الحب بين ابنته الشرعية وابنه في الخطيئة ولم يتدخل؟ تدخّل فقط حين رتبت حورية ألستا حياتها بعيداً من ماضيها المأسوي هناك في هامبروغ. انتظر الأب ليكون عقاب البنت أقسى ممّا يمكن تصوره، وما لا يمكن تصوره تلك الطبقة الثقيلة الإضافية التي وضعها الراوي فوق كتفَي الأب، فمن بعد ما رسم له صورة شبه مثالية عن الفدائي، صيّره خائناً من شهوة عابرة، ثم "مثقفاً" مفتوناً بابن مقلة ومخطوطه الغامض وما فيه من معمّيات وألغاز يقع على عاتق البنت فك شيفرتها وقراءة معناها. واستعمل أكرم مسلّم لذلك أن يروي الأب بضمير الغائب، وهو ما زاد في قوة الراوي العليم على حساب شخوصه، وهذا الأمر سيتكرر ثانية في الحوار بين الأب ومساعده: "يقول المساعد أنه يحس بأن اللحظة غير واقعية، بل مقطع هارب من تراجيديا إغريقية، إذ يسوق القدر البطل إلى حافة موت مفجع، على يد أخيه، أو ابنه ربما." ثم يتكرر في الفصول الأخيرة على ألسنة شخوص عديدة، ويصير الأمر ثقيلاً حين يتكرر على لسان ضحية حبلت من كتائبيَّين اثنين تناوبا على اغتصابها:
يتصرف قاتل المجازر كإله، ينتزع أشياء من الجسد؛ يفكك الجسد إلى عناصره الأولى، يخلط أطراف الضحايا ويستبدلها، قد يقترح يداً مكان رِجل، والعكس، وقد يبدع رسمة من أجزاء طفل مقطع، لكن إله المجازر قد يمتلك قدرة غريبة على المرح! فبعد أن يطمئن إلى امتلاك الجسد، يختار تأجيل متعة القتل، أو على الأدق تأجيل "الذروة"، فيستعير جسد الضحية من نفسه استعارة طقوسية، ويطلب منه إمتاعه بشيء جمالي، الرقص تحديداً، يطلب من جسد الضحية الرقص، الرقص له ونيابة عنه، ويحدث أن ينتهي الأمر الجمالي على نحو مريع، لقد رأيت ذلك، رأيته ولن أنساه.
تفلت الرواية أيضاً، من وجود تلك الهوامش التي تحمل تفسيراً لكل شيء، فهي تريد من القارىء أن يعرف ما المقصود تماماً وبدقة من تلميح الراوي عن اغتصاب في عالم السينما، فيضع أكرم مسلّم في الهامش قصة فيلم "التانغو الأخير في باريس"، ويفعل الأمر عينه فيما يتعلق بمخطوط فوينيتش، فيضيف ثلاث صفحات من المخطوط النافل حقاً عن السرد الروائي.
لعل اللغة وحدها تخفف من وطأة العقاب الرهيبة في رواية "بنت من شاتيلا"، لكن اللغة لا تكفي البتة ولا تستطيع فعل شيء كثير أمام الراوي العليم المعجب بثقافته الواسعة وصاحب الحضور الكلي في حيوات الشخوص كافة. واللغة أيضاً لا تستطيع فعل الكثير حين يترك الروائي عن قصد أو من دونه عدة العمل الروائي من هوامش وقراءات واستنتاجات وأبحاث وملاحظات مبثوثة كيفما اتفق في جسد رواية سليمة المنظور، مشغولة بدقة، عاقبها صاحبها الراوي العليم.