الشاعر المحارب أو الشاعر الجندي
الكتاب المراجع
النص الكامل: 

عيدو بسوك. "شكوك وغراميات: يهودا عميحاي – سيرة حياة" (بالعبرية). تل أبيب: دار شوكِن للنشر، 2019. 485 صفحة.

 

تُظهر سيرة حياة الشاعر العبري يهودا عميحاي (1924-2000)، والذي يُعتبر الشاعر القومي لإسرائيل، ازدواجية وتناقضاً في مواقفه بين ميوله الإلحادية وتمسّكه بالدين في وقت واحد، وتمجيده لحروب إسرائيل، وفي المقابل أسفه على الضحايا التي تقع جرّاء الحروب.

مؤلف السيرة التي صدرت في كتاب في سنة 2019، هو عيدو بسوك الذي رافق الشاعر منذ طفولته في ألمانيا، ثم هجرته إلى فلسطين في عمر 12 عاماً، ومشاركته في حروب إسرائيل. وقد تتبّع حياته العاطفية ومَن مر من النساء في حياته، فضلاً عن مواقفه السياسية، وصعود نجمه كشاعر، والكيفية التي تُقُبّل بها شعره في بداياته، وصولاً إلى تتويجه شاعراً قومياً والمكانة العالمية التي بلغها.

يروي كاتب السيرة أن الشاعر قال يوماً أنه كان محبوباً، وإن كثيرين في المجتمع الإسرائيلي يُجمعون عليه، حتى أولئك الذين لا يقرأون الشعر (ص 310)، وأنه في شبابه كان يراوده إحساس بأنه خُلق ليكون شاعراً في الييشوف، ثم في الدولة الوليدة، لأن الشعر جزء من الحاجات الأولية لأفراد الشعب، فهو المعبّر عن أفراحهم، والمخفف عن آلامهم نتيجة حالات الثكل المترتبة على الحروب المتواصلة (ص 44 - 45).

أتوقف فيما يلي عند موضوعين لافتين: الأول هو موقف عميحاي من الدين، والثاني موقفه من حروب إسرائيل.

في الموضوع الأول نراه مبهماً حتى إنه يصف نفسه بأنه "عميل مزدوج". فقد كان علمانياً لكنه كان يشعر بوجود الرب، ولم يكن قادراً على التنازل عن هذا الوجود النفسي داخله، لأنه إن تخلى عنه فسيتخلى عن أمر أساسي في إنسانيته (ص 259). واعتبر العبادات الدينية بطقوسها أساساً للتفكير البلاغي – الرمزي لديه، وكان يشعر بالأسف لأنه لا يستطيع أن ينقل إلى أبنائه المخزون الثقافي الذي تلقّاه من أبويه المتدينين (ص 28 - 29). وفي مقابلة أُجريت معه في سنة 1985 قال أنه ينصح أي طفل يرغب في أن يصبح شاعراً بأن يتربى في بيت متشدد دينياً أو بيت شيوعي؛ بمعنى أن يكون تحت وصاية دين يستحوذ على كيان أبويه، ليتمكن بعدها من التمرد على هذا الدين، لكن يبقى محتفظاً بكنوزه (ص 29). وعندما سُئل الأديب مئير شاليف عن ماهية البصمة التي تركها عميحاي في الثقافة الإسرائيلية قال: إنها التوراة. فقد كان عميحاي، في رأيه، مفسراً للتوراة كأي مفسّر حقيقي معتمَد، وكان يقدم وجهات نظر "مدهشة" (ص 311). أمّا بالنسبة إلى شعبيته فيقول كاتب السيرة إنه كان مقبولاً من جميع أطياف الشعب الإسرائيلي: فالعلمانيون رأوا فيه حامل لواء الليبرالية ورؤيا "العيش السّوي"، بينما رآه المتدينون شاعراً يدير حواراً مع عوالم الفكر اليهودية، بل اعتبروا أن حتى إلحاده الصارخ عادي جداً، ولا يتجاوز كثيراً الحدود المشروعة لتدبّر شؤون الخالق (ص 310). وتدل قصيدة "توراة توراة، معكِ معكِ وتفاسير أُخرى"، من ديوانه الأخير "مفتوح مغلق مفتوح"، على ذلك، وهنا بعض أبيات من القصيدة:

خذ ابنك وحيدك الذي أحببت

واذبحه قرباناً، هذا ما قاله الرب لإبراهيم

ونحن نسميه أبانا إبراهيم. أي أب

هو لنا، والذي كان مستعداً للتضحيه بابنه وذبحه!

وهناك أمر آخر، الرب لا يعرف محبة الأبناء

لكنه يعرف محبة الجبال

ومن بين جميع الجبال أَحبّ جبل المورياه

جبل وحيده، الذي أَحبّ، لذلك اختاره

ليتم الذبح عليه ولبناء الهياكل المقدسة.

أمّا الموضوع الثاني فهو موقفه من حروب إسرائيل، وهنا أيضاً نجد ازدواجية وتناقضاً في شخصيته الشعرية، وصفهما الناقد موشيه دور بقوله إنه علماني ملحد يتوق إلى رب لا حول له ولا قوة، كما أنه وطني ومحارب يعلن أن أقصى أمانيه "أن يموت على فراشه" (ص 239).

قصة عميحاي كجندي محارب بدأت منذ أن تطوع في الجيش البريطاني في إبان الحرب العالمية الثانية، إذ كان في مصر وعمل على تهريب السلاح واليهود إلى فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني (ص 85). لكن دوره كجندي حقيقي كان في حرب 1948، وقد سجل يومياته فيها عبر رسائل أرسلها إلى حبيبته روث التي غادرت حيفا إلى الولايات المتحدة، وبقي عميحاي يرسل إليها الرسائل على أمل أن تعود ويتزوجا. ونعرف من خلال الرسائل التي احتفظت بها حبيبته، أنه كان عضواً في "الهاغاناه" في حيفا، حيث شارك في تفجير بيوت عربية، كما شارك في وضع كمائن للسيارات العربية وإعدام مَن في داخلها رمياً بالرصاص، وبرّر ذلك بأنها كانت تقلّ "رجال عصابات" على حد تعبيره (ص 107). وبناء على أقواله، فان أهم معركة خاضها في حياته دارت حول قرية أسدود الفلسطينية في الجنوب ضد الجيش المصري. وكانت المعركة مهمة بالنسبة إليه إلى درجة أنه حين سُئل في أحد الأيام عن العبارة التي يريدها أن تُنقش على شاهدة قبره، أجاب فوراً أنه مثلما نُقشت على شاهدة قبر إسخيلوس عبارة أنه شارك في حرب ماراتون، فإنه يريد أن يُنقش على شاهدة قبره أنه شارك في معركة أسدود (ص 120).

يقول كاتب السيرة إن عميحاي خرج من حرب 1948 معطوباً نفسياً، بل إن بعض أعماله الشعرية يثير الانطباع بأنه كان مصاباً ، بهذه الدرجة أو تلك، بصدمة نفسية جرّاء الحرب (ص 135). ومع ذلك كان من المهم له طوال حياته أن يشدد على ماضيه العسكري، فقد أحب أن يتحدث عن إصابته الطفيفة في حرب 1948، بل جعل كل مَن يقدمه أمام الجمهور في مختلف المحافل، وخصوصاً في الولايات المتحدة وألمانيا، يشير إلى أنه شارك في 5 أو 6 حروب، فضلاً عن نعته بأنه جندي ومحارب وشاعر (ص 135).

ثمة سيرة أُخرى عن عميحاي، وضعتها شانا كرونفيلد (Chana Kronfeld)، أستاذة اللغة العبرية والأدب المقارن في جامعة بيركلي في كاليفورنيا في الولايات المتحدة، إلّا إن بسوك ينتقد واضعة تلك السيرة ويتهمها بأنها كانت متطرفة في تسييس شعر عميحاي، وإظهاره كأنه يتعاطف مع الفلسطينيين الذين طُردوا من بيوتهم، ويقول إن التفسير السياسي لبعض قصائد عميحاي مبني على تجاهل التعقيد، بل حتى "الازدواجية" في موقفه من حروب إسرائيل، ومن ضمنها حرب 1948. وبالتالي لا يمكن اعتبار عميحاي مجرد "داعية سلام" أو "يساري"، إذ بما أنه مواطن في الدولة، وبما أنه رأى أيضاً من الضروري إقامة دولة لليهود، فإنه تماهى مع حروبها "الدفاعية"، لكنه أيضاً تألم من الواقع البشري الذي يضطر الانسان إلى التضحية بالشباب كرمى لإله الحرب (ص 213).

في هذا المجال، أميل إلى رأي بسوك، إذ حين سألت فتاة عميحاي، خلال برنامج تلفزيوني، عن غربته والإحساس بعدم انتمائه عند الحديث عن حروب إسرائيل، أوضح لها الفرق بين موقفه كإسرائيلي وكيهودي يعيش في الدولة، ويتقبل ضرورة الدفاع عنها، وبين موقفه كإنسان وكمخلوق بشري لا يمكن له أن يتقبل هذا الهدر الفظيع لحياة البشر في أي حرب كانت (هامش 113). وكنموذج لقصائد لا تُحصى يتحدث أو يذكر فيها الحرب، ها أنا أوردُ القصيدة التالية وهي بعنوان "أقسم بحياتي. أقسم بحياتي" (من ديوانه الأخير "مفتوح مغلق مفتوح"):

ثلاث مرات شعرت بتشنجات فظيعة في ساقي

عندما انسحبنا في رمال أسدود، بين القذائف المتفجرة

وفي البحر في قيسارية، عندما سبحت بعيداً عن الشاطىء

وفي الفراش مع امرأة في علاقة غرامية في إحدى ليالي الصيف

ثلاث مرات كانت ساقي صلبة كالحجر

والقلب ليّن من الخوف، والقلب ليّن من الحب،

ثلاث مرات ظننت فيها أن موتي وشيك،

وساقي ثقيلة كشاهدة قبر في جسدي لجسدي.

لكني واصلت القتال، وواصلت الحب

وواصلت السباحة. أقسم بحياتي. أقسم بحياتي.

عندما اجتاحت إسرائيل لبنان في سنة 1982 اعتقد عميحاي أن الفرصة سانحة لحل القضية الفلسطينية، وبعد أسبوع من دخول القوات الإسرائيلية إلى لبنان، نشر مقالة دعا فيها إلى استغلال الفرصة والوضع الجديد المترتب عليها لإقامة كيان فلسطيني في الضفة وفي الأردن وفي الجنوب اللبناني. ومع مرور الوقت أصبح من أشد المعارضين لاستمرار الحرب التي شملت بقاء قوات إسرائيلية على الأراضي اللبنانية (ص 300). وفي حزيران / يونيو 1985 شارك في احتشاد جماهيري ضد بقاء القوات الإسرائيلية في لبنان، وقال في مقابلة صحافية أنه على الرغم من اعتراضه على استمرار الحرب، فإنه لا يتراجع عمّا ورد في مقالته "الفرصة سانحة" التي نُشرت في مستهل الحرب. وقال بالحرف الواحد: "كان هناك بارقة أمل [لو طُبّق ما تم اقتراحه] بأن نتخلص من لعنة الفلسطينيين، ويتخلص الفلسطينيون من لعنتنا" (ص 300).

غير أن عميحاي يبدو في قصائده كأنه يلعب على الحبلين، أو بلغة أرقى يعاني ازدواجية في موضوع الحروب التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين والعرب. وفي سياق متصل كان بسوك قد أورد أن عميحاي رأى في التراث اليهودي، وفي إقامة دولة إسرائيل، مؤشرين يدلان على وجود غريزة حياة كبيرة لدى الشعب اليهودي، بينما كان الآباء في المنافي يعانون غريزة موت متضخمة بفعل المجازر وحملات الإبادة (ص 259). لكنني لا أعتقد أن الوضع تغير، فغريزة الموت المتضخمة قائمة لدى الشعب اليهودي، أمّا الذي تغير فهو وجهتها، إذ بعد أن كانت موجهة إلى الداخل بسبب عامل خارجي قامع، أصبحت موجهة ضد خارج مقموع هو الشعب الفلسطيني. فالحرب أكبر مؤشر إلى وجود غريزة الموت، وعميحاي بدوره يورث ابنه هذه الغريزة، فها هو في قصيدة بعنوان "ابني يتجند" يخلط بين غريزتَي الموت والحياة:

لقد تجند ابني للجيش. أحضرناه إلى المحطة مع بقية الفتيان

الآن انضمَّ وجهه إلى سائر الوجوه التي تغادرني

في نوافذ الباصات والقطارات العابرة في حياتي

وجوه في المطر المنهمر، أو منبهرة العيون بفعل الشمس.

ها هو وجهه أيضاً في جانب النافذة، كطوابع البريد في الرسائل

[....]

أريد أن يكون ابني جندياً في الجيش الإيطالي

مزيناً ببعض الريش الملوّن على قبعته

يركض فرحاً، من دون أعداء، ومن دون تمويه.

عندما يتجند الابن فهذا يفترض مشاركته في حرب مستقبلية، لكن عميحاي يحاول، بأناقة يُحسد عليها، أن يتملص من هذه الحرب "متمنياً" أن تكون مشاركة ابنه فيها شكلية، وأن يكون جندياً في حرب وهمية بلا أعداء. لكن تبقى الحرب – أو بعبارة أُخرى "غريزة الموت" - هي الثيمة الأساسية التي يتوارثها الأبناء عن الآباء.

السيرة الشخصية: 

نسرين مغربي: كاتبة فلسطينية مقيمة في عكا.