ملحمة لرامة.. رواية لم ترو بعد في الخروج إلى النور
التاريخ: 
15/02/2021

شكّلت الروايات والأرشيفات العائلية الخاصة لسكان القرية، وتسليط الضوء على سيرة والدي وأرشيفه، الحجر الأساس للخروج بالرواية الجمعية المقترحة لقريتي الرامة، الواقعة في مركز الجليل الفلسطيني ما بين عكا وصفد، في سبيل تأريخ الذاكرة وجعلها سلاحاً معرفياً توعوياً لأبناء القرية بصورة خاصة، وللفلسطينيين بصورة عامة أمام محاولات الطمس والتجهيل التي تسعى لها الرواية الإسرائيلية. لكن هذه الرواية الحاضرة بقالب بحث تاريخي اجتماعي، مرت في مخاض طويل استمر عشرات السنين حتى صدرت في أواخر سنة 2020.

شرع والدي طبيب الأسنان أديب القاسم حسين (1929 – 1993م) بتأريخ هذه المنطقة من ريف فلسطين، التي تقدمت بشكل كبير نحو التحضّر وأمكن لها أن تكون مدينة مركزية وسط الجليل، بدلاً من مدينة كرمئيل التي أقامها الإسرائيليون سنة 1964، بالإضافة إلى عشرات المستعمرات في الجليل، بهدف مصادرة أراضي المنطقة وتهويدها، والحد من تطوّر القرى الفلسطينية. فدوّن وجمع منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين كل ما تمكّن من الوصول إليه من ذاكرة القرية، من صور ووثائق عثمانية وانتدابية، وأجرى عشرات المقابلات مع سكان القرية، وحافظ على المتاح من وثائق عائلتنا، مرتكزاً في عمله على تأريخ أنساب أبناء القرية، بدءاً من الجد الذي انتقل إلى السكن فيها وحتى العائلات التي قطنت فيها حتى سنة 1948.

كذلك أرّخ شكل بعض أحياء القرية ومراحل تطورها في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، عاملاً على رسمها وباحثاً في انتقال الملكيات، عن طريق ما توفر له من وصايا وحجج، ومدوّناً بعض القصص والأشعار الشعبية والوصفات الطبية التي استخدمت في مداواة الطب العربي. لكن هذا العمل الذي انتهى جزء منه، وبقي جزء آخر على قصاصات مبعثرة من الأوراق، كان قد توقف، وغاب في ظلمة درج مكتبه مدة أربعة وعشرين عاماً، عقب تعرضه لنوبة قلبية حادة، فارق في أثرها الحياة في أيلول/سبتمبر 1993م، من دون أن يخرج هذا التوثيق المهم إلى النور.

ونظراً إلى  رحيله وأنا في السادسة من عمري، لم يكن من السهل إصدار العمل آنذاك، الأمر الذي بقي مستعصياً حتى بعدما اطّلعت عليه في صيغته الأولى ككتاب أنساب، مع دخولي عالم الكتابة والنشر وأنا في الثامنة عشرة من عمري. فسعيتُ للحفاظ على الذاكرة وإخراجها إلى النور، بافتتاحي متحفاً تراثياً حمل اسمه (البيت القديم متحف د.أديب القاسم حسين) في سنة 2006، في بيت جدي الذي سعى والدي لترميمه والحفاظ عليه، والذي يعود بناؤه إلى أكثر من ثلاثة قرون. هذا البيت ببنائه الذي تتوسطه قنطرتان ثُبتت بينهما أخشابٌ، وينقسم إلى مسطبة البيت، والسّدة والإسطبل، هو نموذج للبيت العربي القديم، يجمع جزءاً من أدوات الحياة اليومية التي استخدمت في مطلع القرن الماضي، بالإضافة إلى الصور واللوحات، ليصبح معلماً ثقافياً وسياحياً في القرية، وأنا أواكب منذ افتتاحه تطوير العرض فيه، وتقديم الأمسيات الثقافية الهادفة.

ومع تطوير أدواتي الكتابية بدراسة الكتابة البحثية (بالحصول على اللقب الثاني في الدراسات المقدسية) بعد خمس إصدارات أدبية وإصدار بحثي، عملتُ في السنوات الأخيرة على مراجعة أوراق والدي، فأدركت أن الجزء الذي لم يكتبه لا يقلّ أهمية عن ذاك الذي أنجزه، وأن الكتاب لا يمكن أن يقتصر على قسم أنساب الرامة.

فهذه القرية متعدّدة في تركيبتها الاجتماعية ومجتمعها الذي قصد العلم والمعرفة، مرسلاً أبناءه للدراسة في أنحاء المدن الفلسطينية واللبنانية، وبعضهم سافر إلى دول أوروبية لأجل الدراسة، فاشتهرت كمركز تعليمي، بافتتاح أول مدرسة ابتدائية رسمية فيها سنة 1883م، ثم المدرسة الثانوية التي افتتحت سنة 1952م، وكانتا من أوائل مدارس المنطقة في مجاليهما، فقصد آلاف الطلاب الرامة للدراسة في مدارسها، لتكتسب تطوراً مستمراً في الحركة الثقافية، وبروز الكثير من الشعراء والأدباء والفنانين من أبنائها، أشهرهم شاعر المقاومة الفلسطينية سميح القاسم. كذلك تميّزت بغنى مشهدها الزراعي، وخصوصاً زراعة الزيتون وجودة زيتها، وأهمية معاصرها، حتى لُقبت بـ "ملكة زيتون فلسطين"، لتكون أول انتفاضة أو هبّة ضد الحكم العسكري تحت ما عُرف بـ "معركة الزيت" سنة 1952، منطلقة منها رفضاً لسعي الإسرائيليين لاحتكار بيع زيت القرية. كما شكّلت الرامة علامة فارقة ومركزاً بين قرى المنطقة يقصدها الناس للتجارة، وطلب العلاج والعلم والعمل، مستخدمين شركة باصاتها للتنقل.

كل هذه العوامل دفعتني إلى تطوير بحث والدي وإغنائه، عن طريق الاطلاع على وثائق في الأرشيف الإسرائيلي لم تكن متاحة في عهده، وأرشيف الصحف الفلسطينية، وبالعودة إلى الأدبيات التي نُشرت وتقارب هذا الموضوع وبالاستفادة من يوميات أجدادي، والوثائق التي جمعها والدي، وبإجرائي ما يزيد على ستين مقابلة مع سكان القرية، لشمل العديد من جوانب الحياة اليومية التي لم يؤرخها الوالد، وكذلك تأريخ ظروف النكبة واحتلال القرية في 30/10/1948، والتي كانت من المفروض أن تكون ضمن حدود الدولة الفلسطينية، والفترة اللاحقة من الحكم العسكري الإسرائيلي الذي استمر حتى سنة 1966م، وأبعاد تلك الفترة على مجتمعنا وحاضرنا.

 وجدتني متورطة في عمل تطلب جهداً ومسؤولية كبرى مني، واحتجتُ إلى إعادة الكتابة والصياغة عدة مرات، مع المراجعات، وانكشاف معلومات جديدة كل حين، لا يمكن إغفالها. وساندتني شقيقتي جنان بطباعة جزء الأنساب، ومتابعة مراجعته وتعديلاته، وخصوصاً حين تبيّن أن هذا الجزء الذي ظننته أُنجز قبل وفاة والدي لم يُنجز، وهو ما دفع صديقاً شغوفاً بهذا المجال إلى التطوّع والمساعدة في استكمال الجزء الناقص، ومراجعة هذا الفصل. وفي مراحل عملي على هذا الإصدار التي استمرت ثلاث سنوات بشكل متواصل، شهدتُ تعاوناً من العديد من المعنيين بهذا البحث، سواءً بجمع المعلومات، أو مراجعتها، أو تنقيحها لغوياً، الأمر الذي مدّني بالكثير من العزيمة، للاستمرار على الرغم من المشاق التي لم أشهد مثلها في أيّ إصدار سابق لي، وأشعرني بأن لدي فريق بحثٍ، وإن كان العمل تطوعياً وتلقائياً.

هكذا خرج كتاب "الرامة.. رواية لم تُرو بعد، 1870-1970م" إلى النور في أيلول/سبتمبر 2020، كبحث تاريخي اجتماعي، جمعني مع والدي على الرغم من فراقنا منذ نحو ثلاثة عقود، وصدر عن البيت القديم متحف د.أديب القاسم حسين- الرامة، بالتعاون مع دار طباق للنشر والتوزيع في رام الله. يقع الكتاب في 640 صفحة من القطع الكبير، متناولاً الرواية الجمعية لقرية الرامة على مرِّ قرن من الزمن من فترة التنظيمات العثمانية 1870 وحتى سنة 1970 بُعيد نكسة حزيران/يونيو، مُظهراً أهمية الذاكرة كأحد مركبات الهوية الثقافية الفلسطينية، والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي على الرواية الجمعية.

 

غلاف كتاب "الرامة.. رواية لم ترو بعد"

 

يُقسّم البحث إلى ثلاثة فصول: يتناول الفصل الأول فترة 1870-1947م، شاملاً التفصيل التاريخي الاجتماعي لمختلف جوانب الحياة اليومية مثل (الجانب التاريخي، العمراني، الإداري، الاقتصادي، الطبي، التعليمي، الثقافي، الاجتماعي) ومرفقاً بالصور والوثائق. كذلك يخصّص مبحثاً لقصص وأشعار شعبية وحكايا ونوادر من ذاكرة القرية لهذه الفترة، ولا يغفل عن تناول بعض ملامح الحياة اليومية الأُخرى مثل الملابس، الأعياد، الأعراس... إلخ، أو الأحداث التاريخية المهمة التي مرت على القرية حتى سنة 1947.

أمّا الفصل الثاني فقد خصص للأحداث السياسية المهمة وأثرها في السكان والمكان، فيُقدم بأسلوب أدبي روائي موثق بحثياً، احتلال الرامة سنة 1948 على يد القوات الإسرائيلية، وأبعاد هذا الاحتلال على الفترات اللاحقة من فترة الحكم العسكري، وتهجير سكان قرى إقرث وكفر عنان وفراضية إلى الرامة، ومصير أسرى الرامة وبعض اللاجئين من أبنائها، ونشوب معركة الزيت في آذار/مارس 1952، ودَوْر أبناء الرامة من الطائفة الدرزية في مقاومة السياسات الإسرائيلية ضد طائفتهم، دامجاً بين رواية والدي الخاصة، وتسليط الضوء على جوانب من روايات خاصة لبعض سكان القرية الذي عايشوا الأحداث، للخروج بالرواية الجمعية. وتبرز سيرة والدي الذاتية كخط واصل بين تأريخ الذاكرة وسيرة القرية وأحداثها، ثم سيرة والدتي (اللاجئة الفلسطينية في لبنان) وأبعاد ذلك عليّ وعلى إصدار هذا الكتاب.

نشأ والدي أديب فريد القاسم حسين فلاحاً بسيطاً درس في المدرسة الابتدائية في قريته، ثم عمل في كروم الزيتون مساعداً لوالده، لينتقل إلى العمل في دائرة البريد في حيفا سنة 1944، الأمر الذي كان له أبعاده على ثقافته ونظرته إلى الحياة، وخصوصاً عند تعرضه للخطف على يد قوات الهاغاناه الصهيونية في نيسان/أبريل 1948 في حيفا. وبتحرره ومعايشته ظروف وقوع قريته ووطنه تحت الاحتلال، مرفقة بالتشديدات العسكرية، ووفاة والدته بسبب مرضها سنة 1949، جاء قراره مطلع سنة 1950 وهو في الواحد والعشرين من عمره بالعودة إلى مقاعد الدراسة. وانطلق إلى القدس ليحقق مطلبه، متقدماً في باب العلم حتى تخرج طبيب أسنان في الجامعة العبرية سنة 1963، ثم تخصّص في نيويورك، ليمضي عقبها سنوات طويلة من الغربة والعمل في سويسرا، وهو يوسّع مداركه ومعارفه في علوم الأديان والتاريخ والفلسفة. وأدرك أديب أهمية حفظ الذاكرة والتراث في ظل الاحتلال الإسرائيلي، ليشرع بهذا التأريخ في عمل طويل ومضنٍ استمر أربعة عشر عاماً، لكنه رحل فجأة دون أن يُتمه.

تحت عنوان "نسب الرامة" يأتي الفصل الثالث، ضمن ما يقارب 300 صفحة، مقدماً أشجار نسب العائلات التي استقرت في الرامة حتى سنة 1948. يُستهل هذا الفصل بمقدمة عن علم الأنساب، تبيّن بعض الصعوبات التي واجهت هذا الجزء الذي وضعه د. أديب ورحل قبل إنجازه، ونسبيّة المعلومات الواردة، فبعض العائلات ترد معلومات عن فترة انتقالهم إلى الرامة وأصول التسمية، وجداول بسنوات ولادة ووفاة أجدادهم، بينما قسم آخر يقتصر على إيراد أشجار النسب، إذ اعتمد هذا على المعلومات التي تمكّن الباحث من الوصول إليها ومدى تعاون السكان معه.

ضم الكتاب أربعة ملاحق، مزوّدة بوثائق على أهمية بالغة من شهادات ولادة ووصايا ورسائل وأوراق ثبوتية، ونماذج لأوراق رسمية، ومعلومات كثيرة ترتبط بمضامينه.

هكذا خرجت "الرامة.. رواية لم تروَ بعد" بعد أن ظهرت كفكرة في بال والدي قبل أربعين عاماً، وبتفاعل أبعاد سيرته، والإرث الثقافي الكبير من بيت جدي التاريخي وأرشيف الوثائق التي جمعها، لتتحوّل مع الزمن إلى مسؤوليتي وحلمي الخاص، الذي سعيتُ لإنجازه وفاءً لقريتي ولبعث ولادة جديدة لوالدي. هذا الحلم جاراه وتتبعه وتساءل عنه كثرٌ من أبناء العائلة وسكان القرية والمهتمين من عموم الوطن، الذين لم يتوانوا في التعاون ومساعدتي في جمع المعلومات ومراجعتها ثم الترويج له، في سبيل إخراج هذا العمل في أفضل حلّة ووصوله إلى القرّاء، ليكون من بعد ولادته ليس فقط وثيقة علمية تؤرخ ذاكرة ورواية جمعية، بل أيضاً، حلماً جمعياً قد تحقق.

عن المؤلف: 

نسب أديب حسين: كاتبة وباحثة.