خضع الدور النقابي للمحامين في فلسطين للعديد من التطورات التاريخية المهمة والتي لا بد من التوقف عندها بصورة سريعة قبل التطرق إلى موضوع الحراك الذي يخوضه المحامون دفاعاً عن استقلال القضاء في هذه المرحلة.
قبل الاحتلال الإسرائيلي في سنة 1967 مارس المحامون في الضفة الغربية دورهم النقابي من خلال نقابة المحامين الأردنية فانخرطوا في عضويتها وجميع نشاطاتها ولم يكن في غزة نقابة مستقلة للمحامين. وبعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة حظر الاحتلال أي نشاط نقابي للمحامين، وانقسم المحامون بدورهم إلى قسم أعلن الإضراب عن المثول أمام محاكم الاحتلال، وقسم آخر عاد إلى العمل أمام تلك المحاكم. وفي الأعوام التالية للاحتلال (بداية الثمانينيات) تشكلت في غزة جمعية المحامين، وفي الضفة الغربية لجنة المحامين العرب التي كانت تضطلع بدور شبه نقابي في تمثيل المحامين ورعاية شؤونهم من دون أن تصل هذه الأجسام إلى حد قيام وتشكيل نقابة محامين بالمعنى الصحيح للوصف، وذلك بسبب ممارسات الاحتلال وقمعه لأي إطار أو جسم جماهيري أو نقابي كما سبق القول.
بعد قيام السلطة الفلسطينية، وبعد مطالبات وإرهاصات عديدة صدر المرسوم/ القرار الرئاسي الذي حمل الرقم 78 لسنة 1997 والذي قضى بتشكيل مجلس تأسيسي لنقابة محامي فلسطين الموحدة للمحامين في الضفة الغربية وغزة، وورد في هذا المرسوم أن مهمة المجلس هي الإعداد لإجراء أول انتخابات لاختيار أعضاء مجلس النقابة. وقد استغرق الأمر ست سنوات كاملة قبل إجراء الانتخابات في سنة 2003، واستمرت بصورة دورية حتى يومنا هذا مع بعض التعديلات في القوانين المتعلقة بالنقابة والتي ليست محل بحث في هذه المقالة.
وفي موازاة كل ذلك، وفي المقابل، وبما إنه لا يمكن عملياً تشخيص حالة المحاماة ودراستها بمعزل عن الحالة القضائية ووضع القضاء، إعمالاً للمقولة الأثيرة بأن المحامين هم القضاء الواقف ولا يصح القضاء دون وجودهم، وهم من أهم مكونات رفد القضاء واعوانه، فإن القضاء بدوره قد مر بعدة مراحل؛ فبعد أن أدارت
سلطات الاحتلال الإسرائيلي شؤون القضاء والمحاكم بواسطة ضباط الإدارة العسكرية، وبعد أن تسلمت السلطة الفلسطينية إدارتها، أصدرت القوانين الناظمة للشأن القضائي في سنة 2001 على أن يبدأ سريانها في سنة 2002. وقد صدرت القوانين المذكورة عن المجلس التشريعي المنتخب وهي تتعلق بصورة عامة بتنظيم السلطة القضائية والنص على استقلالها عن باقي سلطات الدولة العتيدة، المنتظرة بالإضافة إلى تفصيلات تتعلق بإدارة العمل القضائي الذي عهد فيه إلى السلطة القضائية نفسها.
توالت الأحداث وصولاً إلى مفترقات مهمة حدثت في السلطة القضائية والتي تسببت بالحالة التي ظهر بها القضاء في المرحلة الأخيرة، تحديداً خلال السنوات العشر الأخيرة. ولعل تلك التطورات هي ما مهد الحال لما وصل إليه الوضع الراهن من تجاذبات وأحداث خرجت بالصورة التي نراها اليوم، ولعل أبرز تلك المحطات هي العوامل والأحداث التالية:
أولاً: حدوث الانقسام بين غزة والضفة الغربية والذي أدى بالضرورة إلى انقسام في الجهاز القضائي، وتطور الهاجس الأمني في التعامل مع القضاء وكأنه ركن من أركان السلطة التنفيذية التي يجب أن يخضع لها ويسير في ركب الحالة الأمنية في الحرب بين حكومتي "حماس" و"فتح".
ثانياً: ظهور وبروز الصراعات في القضاء نفسه، إذ انقسم القضاء في الضفة الغربية إلى مراكز وأشخاص تدير كل فئة صراعات فيما بينها وبين المراكز الأُخرى.
ثالثاً: تعطل وتعطيل ومن ثم إلغاء أي دور للمجلس التشريعي المنتخب، وفوات مدة الانتخابات دون حصولها وهو ما أعطى الفرصة لدخول السلطة التنفيذية إلى مراكز صنع القرار في السلطة القضائية.
رابعاً: أدت الحال بنتيجة كل تلك العوامل المشار إليها سابقاً إلى ظهور مقولة أن القضاء الفلسطيني لا يمكن ولا يستطيع أن يدير نفسه بنفسه من دون تدخل من السلطة التنفيذية ومراكز القرار فيها، إذ انفضحت حادثة أن يقوم رئيس مجلس القضاء الفلسطيني بتقديم استقالة مكتوبة تحفظ في مكتب رئيس السلطة الفلسطينية قبل أداء رئيس المجلس القَسَم بتعيينه رئيسا للسلطة القضائية.
خامساً: في مرحلة أخيرة ونتيجة تظافر العديد من العوامل وتدخلات السلطة التنفيذية، ونتيجة قضايا شهيرة تمس أشخاص بعض القضاة، وصلت نسبة ثقة الجمهور الفلسطيني إلى أدنى مستوى ممكن (وذلك وفق الدراسات الخاصة التي نشرتها دائرة الإحصاء المركزي والعديد من الدراسات التي قامت بها منظمات حقوقية ومراكز أبحاث لمنظمات المجتمع المدني). وكان لمحكمة العدل العليا في حينه النصيب الأكبر في إلحاق
الأذى بسمعة القضاء الفلسطيني ككل، ناهيك عن بعض المظاهر السلبية الأُخرى التي كانت محل حديث رجال القانون.
ونتيجة العوامل السابقة جميعها، وبسبب وصول الحال إلى مرحلة لا يمكن السكوت عنها، ولعدم إمكان تطبيق القول بأن يستطيع القضاء إصلاح ذاته بذاته ومن تلقاء نفسه، وبعد رصد ودراسة العديد من العوامل، صدر القرار بقانون رقم 17 لسنة 2019 والذي نشر في عدد الوقائع الفلسطينية بتاريخ 16/7/2019 والقاضي بتشكيل مجلس قضاء أعلى انتقالي وتم حل مجلس القضاء الأعلى القائم في حينه، على أن تكون مهمته إصلاح وتطوير السلطة القضائية والنيابة العامة على نحو يكفل سيادة القانون واستقلال القضاء والفصل بين السلطات .... إلى آخر ما جاء في ذلك القرار.
وقد رحبت نقابة المحامين مثل باقي منظمات المجتمع المدني بذلك القرار، وخصوصاً أن المجلس الانتقالي أنيطت به مهمة الإصلاح والقيام بمعالجة السلبيات التي طغت على القضاء من قبل خلال مدة لا تتجاوز السنة ونصف السنة.
بدأت عملية الإصلاح وتخلل هذه المرحلة الإغلاقات والأوضاع التي رافقت تفشي وباء كورونا وإعلان حالة الطوارئ وصولاً إلى مطلع السنة الحالية 2021 والتي استهلت بصدور القرارات ونشرها بقانون صادر عن رئيس دولة فلسطين رقم 39 لسنة 2020 بشأن تشكيل المحاكم النظامية، والقرار رقم 40 لسنة 2020 بشأن تعديل قانون السلطة القضائية، والقرار بقانون رقم 41 لسنة 2020 بشأن المحاكم الإداري.، وبطبيعة الحال فقد رافق إصدار هذه القرارات تنسيب مجلس القضاء الأعلى الانتقالي رئيس المجلس نفسه ليكون رئيساً لمجلس القضاء الأعلى الدائم.
وعند التعليق وإعطاء نظرة سريعة على ما تضمنته هذه القرارات بقانون، فانه لا بد من التذكير أن حالة التشريع وسن القرارات على شكل القوانين قد تعطلت بسبب الانقسام ثم حل المجلس التشريعي المنتخب. ودرج رئيس الدولة على إصدار تلك القرارات اعتماداً على نص المادة 43 من القانون الأساسي الفلسطيني والتي منحت رئيس السلطة في حالات الضرورة التي لا تحتمل التأخير في غير أدوار انعقاد المجلس التشريعي، إصدار القرارات التي لها قوة القانون بحيث يتم عرضها على المجلس التشريعي في أول جلسة يعقدها بعد صدور تلك القرارات. وغني عن القول أن المئات من القرارات بقانون قد صدرت منذ سنة 2007، وبعد حدوث الانقسام ولا يبدو في الأفق أي أمل لمعالجة تلك القرارات وإعادة دراستها تشريعياً.
من جهة أُخرى فإن القرارات الأخيرة بقانون وقد عدلت أو ألغت قوانين سيادية تتعلق بسلطة يجب أن تكون مستقلة إعمالاً لمبدأ الفصل بين السلطات، فإنها بهذه الحالة تكون قد انتهكت أيضاً القواعد الدستورية والقانون الأساسي، وبدلاً من أن يكون التعديل في حالة ولحالة الضرورة وفق نص القانون الأساسي، جاء التعديل ليرسخ مبدأ هيمنة السلطة التنفيذية وسيطرتها على السلطة القضائية كما سيتبين في السطور التالية.
في الإجمال ومن دون الخوض في تفصيلات مواد تلك القرارات بقانون وما تضمنته من تفصيلات، ودون تحليل موسع –لأن ذلك يحتاج إلى دراسات كاملة- ومن أجل تقريب الحالة القانونية إلى ذهن القارئ بقدر الإمكان، فان أهم ما تضمنته تلك القرارات بقانون مست وخالفت أبسط المبادئ القانونية المشار إليها أعلاه. ويمكن تأصيل واختصار الانتهاكات والعوار( الاختلال) الذي شاب القرارات الأخيرة في مسائل أربع:
أولاً: إن تعديل قانون السلطة القضائية، أي ما جاء في القرار بقانون قد جعل أمر تدخل السلطة التنفيذية في تعيين القضاة ابتداء من رئيس السلطة القضائية ونائبه وصولاً إلى تعيين باقي القضاة مثل رئيس المحكمة الإدارية وقضاتها أمراً مسوغاً بعد أن كان بيد السلطة القضائية نفسها التي كانت تتولى مهمة تنسيب اسم رئيس القضاء، ويقتصر دور رئيس السلطة على مجرد الموافقة والإخراج. أمّا اليوم فقد حملت القرارات بقانون الأمر بطريقة تختلف من حيث التنسيب والتعيين بحيث أصبح من الممكن التعيين من خارج السلطة القضائية، وهذا يمثل انتهاكاً وتدخلاً من السلطة التنفيذية في السلطة القضائية بكل الصور. كما أن فصل القضاء الإداري عن القضاء العادي شابه العديد من التعقيدات والفراغ في الحلول التي يجب أن تجد لها حلاً قبل إطلاق وإنشاء القضاء الإداري بهذه الصورة.
ثانياً: تثير القرارات بقانون العديد من الإشكالات العملية في التطبيق، فمثلاً، حق مجلس القضاء في إحالة أي قاض إلى التقاعد المبكر أو العزل من الوظيفة أو الاستيداع أو فترة التجربة للقضاة المعينين حديثاً كما ورد في تلك القرارات يفقد القاضي أمنه واستقراره الوظيفي، فالمعروف قانوناً أن القضاة غير قابلين للعزل ويحظون بحصانة لا يمكن المساس بها إلاّ في الحالات التي يذكرها القانون على سبيل الحصر ودون توسع. إلاّ إن الأمر قد اختلف بموجب التعديل ليصبح متاحاً بموجب إجراءات سهلة لا تكلف الكثير من العناء أو التعقيد، وهذا الأمر يمثل انتهاكاً وتدخلاً من السلطة التنفيذية في سلطة أُخرى يتوجب أن تكون مستقلة. ناهيك عن أن القرارات قد تضمنت بعض التفصيلات القانونية الأُخرى المتعلقة بإنشاء محاكم وفصل محاكم عن أُخرى، الأمر
الذي يزيد من عناء المتقاضين، كما تضمنت تلك القرارات عيوباً عملية في طبيعة وتحديد عمل بعض المحاكم والهيئات القضائية.
ثالثاً: كون القرارات المذكورة صدرت بالصورة التي صدرت بها دون المرور بمراحل التشريع وهي لم تصدر عن المجلس التشريعي، ولم تمر بالعملية التشريعية بما يكتنفها من تفصيلات وصولاً إلى الإصدار والنشر، فقد تضمنت تلك القرارات العديد من العيوب الشكلية وركاكة في الصوغ وعدم وجود حلول أو تفسير أو مذكرات تبين الحاجة إلى التشريع إن كان له حاجة فعلاً.
رابعاً: إن إعطاء المحكمة الإدارية الاختصاص –دون غيرها- في نظر الطعون الخاصة بنتائج الانتخابات التي تجري وفق التشريعات الناظمة لها أثار الشكوك والهواجس من توقيت تشكيل هذه المحكمة وإصدار قانونها، مع العلم بأن رئيس المحكمة وقضاتها يتم اختيارهم وفق القرار بقانون من رئيس الدولة، وخصوصاً أن تجربة المحكمة الدستورية الفلسطينية المعينة بطريقة مشابهة وما صدر عنها من أحكام وقرارات لا تزال ماثلة على أرض الواقع.
خلاصة: مما لا شك فيه أن بعض التعديلات التي جاءت في القرارات هي مطلب لكل رجل قانون يعمل في المحاكم الفلسطينية، كما أن عمليه إصلاح القضاء بعد السلبيات التي وصل إليها في السنوات الماضية كان مسألة مطلوبة أيضاً، إلاّ إن طريقة إخراج تلك التعديلات بالصورة التي أخرجت بها مثّل الفارق الجوهري الذي أشعل فتيل الحراك.
إن حراك جموع المحامين بجميع تياراتهم وفئاتهم شكّل بارقة أمل بطريقة تعامل فئات اجتماعية معينة مع اغتصاب السلطات، وتداخل السياسي بالأمر والهم اليومي ونسيان فكرة الديمقراطية وتبادل السلطة في غمرة الأحداث، ناهيك عن أبسط مبادئ حقوق الإنسان وسيادة القانون.
ولا نجد أخيراً ومن باب الموضوعية في الطرح إلاّ أن نذكر بعض الآراء الناقدة التي تشير إلى أن الحراك لا يعدو أن يكون بأبعاد سياسية وصراعات مراكز قوى داخل السلطة الفلسطينية نفسها، وخصوصاً مع اقتراب موعد انتخابات نقابة المحامين والانتخابات التشريعية العامة إن حدثت.
كما أن هذه الآراء تشير إلى عدم قيام أي تململ أو حراك داخل الجسم القضائي نفسه، إذ لم يصدر عن القضاة أنفسهم ما يشير إلى رفضهم او احتجاجهم على هذه التعديلات التي تمس جوهر وأساس كيانهم –باستثناء بعض الأصوات الخافتة- فقام المحامون بذلك نيابة عنهم.
وختاماً، فقد حاولت في هذه العجالة رصد معظم ما يدور بصورة موضوعية ومن دون تحيز أو تعصب بذكر كل الآراء التي تشوب هذه المرحلة، مع أن الحديث والتحليل للواقع الحالي بكل جوانبه يحتاج إلى دراسات كاملة أوسع من هذه العجالة.