أخيراً وبعد خمسة عشر عاماً على الانتخابات التشريعية الثانية، وأكثر منها بعام على انتخاب الرئيس، وفي ضوء توافق وطني عام، أصدر الرئيس محمود عباس مراسيم إجراء الانتخابات بالتتالي بدءاً من التشريعية ثم الرئاسية وأخيراً المجلس الوطني.
وعلى الرغم من صدور هذه المراسيم فإن ذلك لا يبدد الشكوك بشأن إمكان إجراء الانتخابات، بعضها أو كلها. المجتمع الفلسطيني بصورة عامة يبدي تجاهلاً، ويثير شكوكاً بعد خيبات أمل عديدة من تحقيق الانتخابات أو المصالحة، فضلاً عن فقدان الثقة بالفصائل الوطنية السياسية عموماً، وهو ما قد يؤثر سلباً في نسبة الاقتراع. وتمتد الشكوك بشأن هذه العملية إلى ناشطين سياسيين بما في ذلك كوادر وأعضاء في الفصائل وبعض الأكاديميين والمثقفين، وكل هؤلاء فقدوا الثقة بالوعود والقرارات التي تصدر عن المستويات السياسية السلطوية والفصائلية وينتظرون ميدان الممارسة العملية. الشكوك في محلها، فعدا عن خيبات الأمل المتكررة، فإن ثمة تساؤلات عن الدوافع والظروف المحيطة التي جعلت الانتخابات أمراً ممكناً بينما لم يحدث ذلك خلال السنوات الطويلة المنصرمة. في ضوء ذلك فإن أكثر المتفائلين يعتقدون أن الالتزام بإجراء الانتخابات وفق الجدول الزمني الذي حددته المراسيم الرئاسية لن يكون سوى البداية لطريق طويل محفوف بالخلافات حتى ينتهي الانقسام، ويعاد بناء النظام السياسي بمختلف مستوياته على أساس شراكة حقيقية عبر صناديق الاقتراع والتوافق الوطني. ولا يعني إجراء الانتخابات في حال تم أن النظام السياسي الفلسطيني قد أعيد بناؤه على أسس وقيم الديمقراطية، أو أن الديمقراطية قد أصبحت نهجاً راسخاً في المجتمع كما على المستوى السياسي، فثمة خلل وانقسام يشمل النقابات والاتحادات الشعبية والمؤسسات الاجتماعية وحتى بعض الفصائل. والآن ما الذي جرى حتى أصبحت الانتخابات ممكنة، على الرغم من أن المطالبة بإجرائها لم تتوقف منذ أن فقدت المؤسسات شرعيتها بعد مرور زمن طويل على تجاوز القانون والنظام السياسي الذي يحدد فترة أربع سنوات لكل من الرئاسة والمجلس التشريعي؟
كانت البداية من اجتماع الأمناء العامين في شهر أيلول/سبتمبر من العام الماضي، وتحقيق إجماع حول بعض القضايا الأساسية، لكن الشكوك عادت لتسيطر على المناخ العام حين لم يتم الالتزام بتشكيل اللجان التي تم الاتفاق على تشكيلها خلال هذا الاجتماع. كما أن المراسيم الرئاسية لم تصدر إلاّ بعد مرور فترة طويلة، لم تتوقف خلالها الحوارات الإيجابية بين حركتي "فتح" و"حماس". ما يفسر هذا الأمر هو أن تحريك العجلة الفلسطينية مرتبط بنتائج الانتخابات الأميركية، وفوز الرئيس الديمقراطي جو بايدن، الذي وعد بإعادة العلاقات مع السلطة وعودة الدعم المالي بما يشمل الأونروا، واتجاه الإدارة الأميركية الجديدة نحو إعادة تنشيط عملية السلام من خلال المفاوضات على أساس رؤية الدولتين. يتضح أن ثمة مراهنة من جانب السلطة وفريقها على دور أميركي يسعى لإحياء عملية السلام بعد إدارة عملت على تجفيف حقوق الفلسطينيين، وتغيير الواقع العربي الرسمي نحو تجاوز محددات مبادرة السلام العربية، وتمكين إسرائيل من التوسع الاستيطاني على الأرض، والتوسع الاقتصادي والأمني والسياسي على مستوى المنطقة العربية. بهذا المعنى تصبح الانتخابات وإعادة بناء الشرعيات الفلسطينية استحقاقاً لمقابلة مرحلة ناشطة نحو إحياء عملية السلام. ولاستكمال تحضير الجانب الفلسطيني للتعاطي مع المستجد الأميركي، جرى حل معضلة أموال المقاصة وتمت إعادة العلاقات بالكامل مع إسرائيل بما في ذلك التنسيق الأمني، الأمر الذي قوبل بالاستنكار والإدانة من عديد الفصائل الفلسطينية التي رأت في ذلك خروجاً فظاً على ما تم التوافق عليه خلال اجتماع الأمناء العامين. وعملياً شهدت الأوضاع الإيجابية تتدهوراً وعادت الأمور إلى تبادل الاتهامات مرتين؛ الأولى حين أعلنت السلطة عودة العلاقات مع إسرائيل تزامناً مع وجود وفدين من "حماس" و"فتح" في القاهرة، والتبشير بأجواء إيجابية؛ الثانية حين وقع الخلاف بين الحركتين بشأن تتالي أو تزامن الانتخابات. وفي ضوء ذلك ولمحاصرة الخلافات، تحرك الوسطاء من مصر والأردن وقطر وتركيا وروسيا نحو الضغط على حركة "حماس" التي استجابت وأرسل رئيس مكتبها السياسي، إسماعيل هنية، رسالة خطية إلى الرئيس محمود عباس تعطي موافقة الحركة على ما طرحته "فتح" بشأن تتالي الانتخابات. إذا كانت الانتخابات وتجديد الشرعيات استحقاقاً لدى السلطة، فإن السؤال هو لماذا وافقت حركة "حماس"، وهي التي تعارض بقوة اتفاق أوسلو ونهج المفاوضات التي فشلت في كبح جماح العدوانية والتوسعية الإسرائيلية؟ من الواضح أن حركة "حماس" كانت قد اتخذت قراراً مبكراً بالانخراط في النظام السياسي من بوابة المجلس التشريعي حين قررت خوض تلك الانتخابات سنة 2006، لكنها بسبب الانقسام، وعلى الرغم من مرور خمسة عشر عاماً، لم تنجح في ذلك ولم تتمكن من الحصول على الشرعية القانونية، كما أنها لم تتجاوز شرعية القوة على الأرض، ولذلك فإنها من حيث المبدأ مستعدة لاستكمال ذلك المسعى. وترغب "حماس" أيضاً بقوة في الحصول على الشرعية في ضوء المناخ العربي الرسمي المعادي للحركة باعتبارها جزءاً من جماعة الإخوان المسلمين فضلاً عن علاقتها بإيران، في ظل حالة العداء بين الأخيرة ودول الخليج العربي أساساً. بالإضافة إلى ذلك لا تستطيع "حماس" مواجهة الضغوط أو النصائح من أنظمة عربية وإقليمية تحرص على استمرار العلاقة معها مثل مصر وتركيا وقطر، وإلاّ وجدت نفسها في عزلة شديدة، وكذلك فإنها لا ترغب في أن تتحمل المسؤولية عن استمرار الانقسام في حال معارضتها. على أن هذا التوافق الفتحاوي الحمساوي على إجراء الانتخابات لا يعني أن كل حركة منهما باتت جاهزة وناضجة لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة، الأمر الذي يقتضي مزيداً من الحوارات بين الحركتين وبينهما وبقية الفصائل، فثمة الكثير من التفصيلات والقضايا الخلافية التي تحتاج إلى مزيد من التوافقات، وفيها تكمن الشياطين.
المشهد المتوقع في حال جرت الانتخابات
ثمة مخاوف عميقة من إمكان التزام الحركتين بنتائج الانتخابات في حال فازت إحداهما، وبحيث تتكرر تجربة الانتخابات التشريعية السابقة. في الواقع فإن هذا الأمر غير وارد، إذ إنه من شبه المستحيل أن تحصل إحدى الحركتين على أغلبية كبيرة من أعضاء المجلس، وذلك بسبب تغيير النظام الانتخابي من المزاوجة بين نظام القوائم والدوائر إلى نظام الانتخابات النسبية بالكامل. لقد فازت "حماس" في الانتخابات السابقة لأنها حصدت معظم مرشحي الدوائر، وتمكنت من ذلك بسبب انقسامات حركة "فتح" في حينه وعدم التزام البعض بالقرارات المركزية. التقدير العام والسريع لما يمكن أن تحصل عليه الحركتان، وذلك في ضوء استطلاعات رأي سابقة وانتخابات طلبة الجامعات والإدارات المحلية في الضفة يشير إلى أن الحركتين، بفارق بسيط بينهما، من غير الممكن أن تحصلا مجتمعتين على أكثر من سبعين إلى خمسة وسبعين مقعداً من أصل مئة واثنين وثلاثين مقعداً هو قوام المجلس التشريعي. وإذا كانت بعض الدوائر تتوقع أو تتحدث عن خلافات موجودة أو مرتقبة في داخل حركة "حماس" بسبب ما يبدو تساهلاً إزاء الانتخابات والمصالحة، فإن الانقسامات والخلافات داخل حركة "فتح" ظاهرة للعيان، وقد تتسبب في إضعاف حصيلتها في الانتخابات. والخلافات داخل حركة "فتح" هي من طبيعة تكوينها تاريخياً، لكنها في هذا الزمن ليست طبيعية، ولا يمكن تجاهل آثارها السلبية. في العادة تحدث خلافات بشأن من يحق أو لا يحق له الترشح، لكن فوق هذا ثمة انقسام بين التيار المركزي وتيار القيادي المفصول من الحركة محمد دحلان، الذي يقترح الدخول في القائمة الرسمية للحركة وإلاّ فإن التيار الإصلاحي سيشارك في الانتخابات بقائمة منفردة أو بالشراكة مع آخرين. وفي الآونة الأخيرة أظهر بعض أعضاء اللجنة المركزية لحركة "فتح" خلافاً علنياً، إذ أصدر الدكتور ناصر القدوة بياناً رفض من خلاله ما يتم تداوله بشأن مشاركة "فتح" و"حماس" في قائمة مشتركة. كما أعلن زميله توفيق الطيراوي رفضه قرارات الرئيس محمود عباس بشأن التعديلات التي أجراها على قانون وجهاز القضاء، وشن هجوماً على رئيس مجلس القضاء عيسى أبو شرار، بينما أصر الرئيس على قراراته. ولم يكتف الطيراوي بإعلان موقفه، بل شارك مباشرة في احتجاج نقابة المحامين، ويقول إنه أودع لدى النائب العام وثائق تتهم أبو شرار بالتزوير والنصب والاحتيال. المشهد الفتحاوي مشوش أيضاً لأن ثمة العديد من أعضاء فتح وكوادرها يتساءلون بشأن مدى صحة الشائعات التي تشير إلى إمكان تحقيق شراكة مع "حماس" عبر قائمة واحدة، والأمر ذاته بالنسبة إلى حركة "حماس" بعد كل ما قامت به الحركتان ضد بعضهما خلال المرحلة السابقة.
وفي ظل هذا المشهد المشوش والضبابي لا تزال الأوضاع مفتوحة على مزيد من التطورات بشأن التحالفات والقوائم بين الفصائل وفي صفوف المستقلين. لكن من المتوقع أيضاً أن لا تغيب العقبة الإسرائيلية عن المشهد ليس فقط فيما يتعلق بمشاركة المقدسيين، بل أيضاً لأن إسرائيل ترى في الانتخابات والمصالحة ما يضرب استراتيجيتها ومصالحها التي تقتضي استمرار الانقسام لتبرير رفضها مفاوضات على أساس قرارات الأمم المتحدة. لا تنتهي القصة هنا، فالعقبات كثيرة؛ فإذا جرت الانتخابات بكل محطاتها فإن ذلك يعتمد على عمق واتساع التفاهمات بين "فتح" و"حماس"، وأمّا إذا لم تجرِ أو توقفت عند أول محطة، فإن ذلك سيؤدي إلى مزيد من تدهور أوضاع الفلسطينيين.