مقابلة مع المناضلة روضة عودة (الجزء الأول): مسيرة عودة
التاريخ: 
20/01/2021
ملف خاص: 

بين المسكوبية والمقاطعة

تجربة السجن ليست سهلة إطلاقاً، بل هي صعبة جداً، لكن من شأن الصعاب أن تبني الإنسان وتمدّه بالقوة، إن كان معنيّاً بأن يواصل المسيرة، كما أنها تبني معنوياته وثقافته وعلمه ومعرفته بعد المرور بتجربة المواجهة مع السجان.

في السابع من آب/أغسطس 1969 اعتقلوني؛ اقتادوني إلى المسكوبية وهي المعتقل ومركز التحقيق الاستخباراتي في القدس حينها. وهناك، مكثت أربع ساعات في غرفة حيث كانوا يفتحون الباب بين الفينة والأُخرى، ويوجهون إليّ سؤالاً واحداً: هل أنتِ روضة؟ ويضحكون ويقهقهون ليغادروا غرفة التوقيف. وطوال الساعات الأربع لم يتحدثوا معي بكلمة واحدة. ثم دخلوا واقتادوني إلى مجنزرة مغلقة، وأصعدوني إليها، لأجد أن كل من فيها كانوا جنوداً من الرجال فقط ولم يكن هناك أي مجندة. وعلى أرض المجنزرة أسلحة وبنادق وقنابل. نقلوني مباشرة إلى رام الله، وعلى مشارف البلد أنزلوني من المجنزرة ووضعوني في سيارة جيب عسكري. طوال الطريق من المسكوبية لم يكن ما يشغلني التحقيق أو الاستخبارات، بل خوفي من أن يقوم الشباب باستهداف المجنزرة فأموت مع الجنود الإسرائيليين. أرعبتني فكرة أن أموت معهم. انطلقوا بالجيب إلى بيت لطفية حواري رئيسة الخلية، كي أرى وأعتبر، إذ كانوا قد نسفوا بيتها. وهو بيت جميل وواسع بفضل أبيها تاجر الذهب وصاحب محل الصرافة. كان ذلك كي يثبطوا معنوياتي ويخيفوني.

من أنقاض البيت المهدوم أخذوني إلى المقاطعة (سجن رام الله سابقاً)، وهناك بدأ التحقيق معي وكان قاسياً وصعباً، وخصوصاً أنه لم يتسنَ لنا من قبل أن نسمع عن تجارب كهذه. كنا نسمع عن رسمية عودة وعايشة عودة وعما مرّتا به من تعذيب لا تستطيع تخيله إلى أن عشته. وبدأت مسيرتي الشخصية مع التعذيب الصعب. وقبل أن يتم نقلي إلى زنزانة انفرادية في المسكوبية، أسروني مع "بنات الشارع" الإسرائيليات الجنائيات، وأمضيت طوال الوقت وأنا أسمع منهن التهديدات: "أنتِ فتح؟ سنقتلك". لم أكن أنام الليل، وأضربت عن الطعام ثلاثة عشر يوماً، إلى أن نقلوني ووضعوني لوحدي في زنزانة. وبعد أيام  أخرجوني منها إلى غرفةٍ قبالتها وفيها 25 سريراً مثبتين بالأرض، وبابها من قضبان فولاذية، غطوه بحِرامٍ وعزلوني. أزحتُ الحرام بيدي، فرأيت ضباطاً وشرطة وعسكر. كان شخص يمسك بشبك البوابة وينظر إليّ، فبادرت وسألته من يكون، فلم يردّ، بل مدّ لسانه تهكّماً. فسألت الضابط الذي يقف بمواجهة باب الزنزانة عن الشخص المذكور، فأجابني: هذا هو "اللي حرق الله تبعكو". سيطرت عليّ الحيرة والتفكير، ربما أنا معتقلة بسببه، وربما اعتقلوا أحد القادة الكبار مثل أبو عمار أو جورج حبش، ولم أتوصل إلى نتيجة. فيما بعد شاهدتهم يتحدثون إليه بالإنكليزية ويقومون تجاهه بـ"حسن الضيافة"، فقلت في نفسي "أكيد مش واحد منا"، وبعد عدة أيام قالوا إنه مايكل روهان الذي حرق المسجد الأقصى.

الزنازين وكأس العلقم

كانت فترة التحقيق عصيبة، فلا أهل ولا أخبار ولا تغيير ملابس ولم أحصل على أبسط المتطلبات من فرشاة أسنان وحتى أي شي آخر. وعندما جاء شرطي ومعه إبريق شاي وطلب مني، من خارج البوابة الشبك، إحضار "كاستي"، أجبته: "ما عندي كاسة"، فصرخ: ابحثي عنها بالغرفة. فوجدت كاسة في المرحاض، قلت له: لا يوجد إلاّ هذه. فقال لي: احضريها. قلت: لا أريد شاياً.

لا أسوأ من نفسية القهر والانتقام التي عاملوني بها، سواء تعذيبي بأن وضعوني مع الجنائيات وكنّ يهددنني، أو فرض الانقطاع التام عن الأهل وعن أي شيء يحدث خارج الزنزانة. أمضيت سبعة وثلاثين يوماً بالملابس نفسها التي اعتقلت وأنا أرتديها، لم يحضروا لي حتى غيارات وملابس داخلية. وبعد اليوم السابع والثلاثين أحضروا غيارات.

في الزنازين أسِرّة مثبتة بالأرضية، وأرضية السرير من صاج حديد مع فرشة إسفنج خفيفة وبالية وحِرام رائحته نتنة للغاية، كانت بقع الأوساخ تطغى عليه ومال لونه إلى الداكن. وكلما طلبت تغييره قالوا: "هذا الموجود". كانت الوجبات في قاعة خاصة تتناول فيها المعتقلات الوجبات البائسة. أمّا أنا فقد حظروا عليّ الخروج إلى غرفة الطعام وكانوا يحضرون أكلي إلى الغرفة، يضعونه ثم يأخذونه. كنت آكل قطعة من الخبز وتشمئز نفسي من رائحة الطعام النتنة.  

كنت منهكة من التحقيق والضرب وشد الشّعر والكلام البذيء والقرف، لكن كل من يختار هذا الطريق من المحتمل أن يمر في درب العذابات هذا، و"مرقت".

بعد انتهاء التحقيق نقلوني إلى سجن نابلس مع أربع معتقلات، حيث بقينا بانتظار المحاكمة. وهناك وضعونا في غرفتين واحدة مربعة مساحتها 16 متراً مربعاً، والأُخرى مستطيلة الشكل أصغر منها، ويفصل بينهما ممر. كنت مع  12 أو 13 من المعتقلات الجنائيات والسياسيات. وكان في الغرفة دلو لقضاء حاجتنا بدلاً من المرحاض في ساعات المساء والليل، كنا نفرغه مرتين في اليوم صباحاً ومساء. أمّا الحمام فلم يكن متاحاً أكثر من مرة كل أسبوعين أو ثلاثة، ومن دون ماء ساخن، والمرحاض هو ذاته مكان الحمام. وفي اليوم المحدد للحمام لم نكن نُعطى الوقت الكافي للاستحمام، فما إن ندخل حتى يبدأ "خبيط" الأبواب، فنستحم على عجالة. وانتشر القمل في الغرفة، وأصبحنا نمضي جزءاً كبيراً من وقتنا في تنظيف رؤوسنا من القمل.

قلبي على أمي وقلب أمي على أبي

تحددت جلسة المحكمة يوم 11/6/1969، وخلال 3 أشهر لم أرَ والدي الذي كان مريضاً لا يستطيع السفر إلى المحكمة في رام الله التي كانت ترزح تحت حكم عسكري. وعندما حضر والدي حاول أن يسلم عليّ لكنهم لم يسمحوا له، فاشتبك معهم وتصايحوا وأصابه الدوار فوقع على الأرض، فحملوه وأخرجوه من القاعة. اعتقدت حينها أنه سقط مغشياً عليه، إلاّ إنه توفي في القاعة بسبب إصابته بنزيف في الدماغ. ومع هذا، لم أعرف بوفاته إلاّ بعد شهر. فحين حضرت أمي إلى سجن نابلس لتزورني، كانت تبكي والدموع تنهمر بغزارة من عينيها، فبدأت أمازحها وأنا أضحك كي أخفف عنها، وأسألها "هل انصدمتِ وأنتِ ترين كم من الفتيات والصبايا في المحكمة؟" وبعد إلحاحي عليها قالت: "لا أبكي عليك، أبكي على والدك الذي مات في المحكمة."

وعلى الرغم من مرور أكثر من نصف قرن، فأنا لا أصدق حتى اليوم أن والدي توفى، لأنني لم أره عند الدفن. ودائماً أتخيل أني أراه في البيت بالقرب من سريره. كانت وفاته قاسية وصعبة، وكنت أبكي لأيام، ومن يومها أدمنت التدخين وتفوقت على أكبر المدخنات معي في السجن.

شعرت أنني فارقت إنساناً عزيزاً وأنني كنت السبب في وفاته، لكن السبب طبعاً هو الاحتلال، فقد تم أسري رغماً عني. أحملهم مسؤولية موت والدي لأنهم اعتقلوني ولأنهم منعوه من أن يسلم عليّ. نقمتي على الاحتلال أبدية.

 في سجن نابلس و"صوت إسرائيل"

أمضينا سنتين في سجن نابلس، ولم يسمحوا لنا بقلم أو دفتر. كانت الشرطيات تحضرن لنا القلم من السجن، ونكتب على أوراق يزودنا بها الصليب الأحمر وتحمل شارته. كل واحدة تكتب رسالتها على ورقة قبل أن نعيد القلم. وطبعاً، لم تتوفر الكتب للمطالعة ولا أي منشورات. أمّا الطعام فكان سيئاً جداً، وكانوا يحضرونه في سطل. كنا نعرف الدلو الذي نستخدمه لقضاء حاجاتنا، ونرقب إذا ما كانوا سيحضرون لنا الطعام فيه! نبهناهم لكنهم لم يكترثوا. وكان الذباب يملأ الطعام بالإضافة إلى الشعر الملتصق به. وعندما كنا نضرب عن تناول الوجبة، ونصرخ حتى يحضر الضابط فيكون رده "قيمو الذبابة وكلو". أمّا بالنسبة إلى نوع الطعام؛ فوجبة الغداء، كان فيها خيال بندورة وبضع حبات فاصولياء ولحمة لونها أزرق مع سطل صغير للماء. ووجبة العشاء بحسب الخضرة المتوفرة، ربع حبة بندورة أو ربع فلفلة حلو وبيضة "أوقات عين"، أو جبنة صفراء أو شكشوكة (بيض وبندورة)، أمّا الفطور الصباحي العادي فكانوا يعطونا قدر بوصة زبدة وملعقة صغيرة مربى وملعقة لبنة.

إضافة إلى الألم الذي كابدناه في تلك المرحلة، حظروا علينا الخروج إلى الساحة إلّا مساء بعد مغيب الشمس التي لم نرها لأشهر طويلة. وكانت الحجة أن هذا يعتبر قسم رجال، وأنه لا يجوز لنا أن نلتقي بالشباب. فكان دورنا في التجول في الساحة فقط في ساعات المغرب. وعلى الرغم من احتجاجنا عدة مرات، فقد أصروا على منعنا من التعرض للشمس.

لم نكن نعرف ما يجري في فلسطين إلاّ عند زيارات الأهل. وكانت إدارة السجن تشغّل محطة الراديو "صوت إسرائيل بالعربية"، وكانوا يبثونه عبر مكبرات الصوت مرتين في اليوم: صباحاً لسماع نشرة الأخبار الصباحية ومساء لسماع النشرة المسائية، ثم ينقطع البث. كما كنا نسمع آخر الأخبار من صبايا ونساء معتقلات جديدات، يحدثننا عن قصص البلد. أذكر في إحدى الليالي وكانت زميلات الاعتقال نائمات، وكنت أجلس بالقرب من البوابة أسترق بعض الضوء الآتي من مقصورة الشرطيات، كي أكتب خاطرة دون أن يكشفن أمري، وإذ بي أسمع صوت الشرطيين والشرطيات يتحدثون بانفعال وصخب، ومن طاقة صغيرة كان بإمكاني أن أرى السجانات. سمعت شرطياً يقول "هو خسارة في هالأمة"، وواصلوا حديثه. كانوا يتحدثون عن موت جمال عبد الناصر. تراجعت عن الشباك  وأيقظت كل السجينات وأخبرتهن.

 العلم نور

لم يكن أي شيء متاحاً في سجن نابلس. أمّا في سجن الرملة فعندما انتقلت إليه، كان هناك مجموعة من الكتب التافهة مثل كتاب عن نابليون والنساء وقصص غرامية. وبعد فترة نجحنا في إدخال بعض الكتب وباتت لدينا مكتبة. في سنة 1971، وبعد سنة من انتقالي إلى سجن الرملة، بدأ التعليم التحضيري للتوجيهي. لكن حالة الأسيرات كانت صعبة في هذا الصدد، إذ كانت نسبة الأميّة بينهن مرتفعة. فقمنا بتدريسهنّ حتى بلغن مرحلة متقدمة من التعليم الإعدادي وأكثر، كما صرن يقرأن ويكتبن بشكل أفضل، وانعكس ذلك على النقاشات والمضامين التي اكتسبنها وعلى مستوى التثقيف السياسي.

وبعد مرور عام على تجربتي الصادمة في سجن الرملة أدخلوا جهاز تلفاز إلى الغرف، في حين كان هناك جهاز تلفاز للمعتقلات اليهوديات منذ فترة طويلة. كذلك كانوا يصطحبون السجينات اليهوديات كل يوم اثنين إلى السينما، وكذلك المعتقلات الفلسطينيات المرضي عنهن. وفي غرفنا كانوا يشغلون التلفاز مساء ما بين السادسة والنصف والثامنة على قناة إسرائيل فقط. كما كانوا يشغلون الراديو (المحطة الإسرائيلية العربية) ثلاث مرات يومياً، لنسمع نشرة إخبارية، وقرآناً وأذاناً، وأم كلثوم. هذا ما أتاحوه لنا في السجن.

أجمل ما في تلك المرحلة أننا لم نكن نعرف إلى أي تنظيم تنتمي كل واحدة من الأسيرات، إذ كانت تشغلنا القضايا الوطنية الفلسطينية العامة. كنا يداً واحدة. كانت العلاقة جدية بيننا كأسيرات، لا يوجد أبيض وأسود. وكان الكل يحرس الكل، نتبع جميعنا النظام والقوانين نفسها ولا نحيد عنها. فالجميع مثلاً يلتزم الإضراب، أمّا اللواتي لم يلتزمن فكنّ يسكنّ في عمارة الجنائيات اليهوديات.

في نابلس كانوا يُحضرون معتقلات بتهم جنائية في ساعات الليل من خلفيات اجتماعية قاسية، اعتبرناهن ضحايا الحالة والوضع الاجتماعي، وكنا نستقبلهن ونحضنهن فلم يكن في أذهاننا أنه توجد حالات جنائية كهذه. وقد صدمت حين عرفت أن في مجتمعنا بائعات الهوى وبنات الشارع، وظننت أن ذلك يوجد فقط عند اليهوديات.

الصدمة الثانية

في إحدى ليالي الشتاء الماطر، كنت أكتب إلى جانب باب الشبك، عندما أحضروا معتقلة من بورين وكانت مبللة من المطر وتغطي بقع من الدماء ملابسها. أوقفوها في الممر. فقلت لها: "خير شو مالك؟" فقالت: "الحمد لله كله من الله". ثم أجهشت في البكاء. طلبت مني الشرطية حراماً لغاية الصباح لأن المخزن مقفل، فرفضت طلبها وقلت لها "يا دوب بكفوني الحرامات"، وأنا أعرف أن الشرطية لا تستطيع إلزامي بذلك. بعدها فكّرت في الصبيّة وقررت أن أعطيها حرامين "حتى ما تنام ع البلاط". في الصباح أحضروها إلى غرفتنا، وحدثتنا بقصتها التي لن أنساها: كان ابنها وصاحبه يحضّران عبوة في بيت بين الكروم. وسمعَت صوت انفجار، فركضت لتجد صاحب ابنها مستشهداً وابنها ينازع. حملته حتى وصلت إلى الشارع تحت المطر، وبعد وقت طويل توقفت سيارة وحملتها إلى مستشفى نابلس حيث أجروا لابنها عملية جراحية لكنه استشهد. وعندما هجم الجيش على المستشفى فتشت جيوب ابنها فوجدت ورقة فيها أسماء فبلعتها. حاولوا أن يستخرجوها من فمها فلم يستطيعوا. استشهد ابنها أمامها، ودفنوه وهي معنا في المعتقل. حاولت أن أجدها فيما بعد لكني لم استطع أن أعثر عليها.

كانت صدمتي الأولى يوم علمت بوفاة أبي، وكانت هذه صدمتي الثانية في السجن.

(يتبع...)

أجرى المقابلة، الأسير المحرر بلال عودة

عن المؤلف: 

روضة عودة: أسيرة سابقة، من سكان القدس ومن مواليد العام ١٩٤٨. وهي مناضلة فلسطينية من رائدات الحركة الطلابية في الستينات ومن رائدات العمل النسوي الفلسطيني وحركات التغيير الاجتماعي ورمز من رموز القدس، ولها دور كبير في العمل العربي والدولي.

انظر