فجراً والنوم يصحو معنا، نستيقظ على أصوات الأصفاد وهي تلوح ذهاباً وإياباً بين يدي سجان يجرجرها. سجان ضخم البنية أصلع يتحدث العبرية بلكنة روسية ... يمشي بين سراديب الزنازين في سجن الرملة يطرق بوابة كل زنزانة بهراوته، ويواصل زعيقه: بوسطة بوسطة. نلملم ما يسمح لنا بحمله في البوسطة (صابون ومعجون أسنان وملابس داخلية)، ونستعد لرحلة الأصفاد من جديد. نودع زملاءنا المغادرين إلى أماكن أُخرى سجوناً كانت أو محاكم أو تحقيقات أو مشفى مصلحة السجون. نستجمع قوانا بتناول ما توفر من طعام متواضع، من ساندوش لبنة أو جبنة لا طعم لها، لكنها تملأ بعض المكان في المعدة. نخرج أيدينا من فتحة صغيرة في الباب بإمرة السجان، ويتم وضع الأصفاد في أيدينا، وبعد ذلك يفتح الباب لخروجنا والقيد في اليدين.
برد الصباح تشرّبته القيود في أيادينا، وبدأنا نشعر بطعم الحديد البارد على الرغم من أنه في المعصم، نمشي صفاً أسيراً خلف أسير ... مع برد الصباح وآلام القيد ... وصوت الحديد وهو يعانق الحديد. نقف في الساحة وينادون بأسمائنا، كل أسير يتجه إلى شاحنة البوسطة الخاصة بمحكمته، في معتقل عوفر أو القدس أو بيتاح تكفا وهكذا..، كأننا في عالم ليس فيه حياة ولا موت، نقف في زمن ينقلنا مقيّدين بحافلات خاصة معدة للتعذيب والقهر، رائحتها نتنة حامضية ملأى بحكايات من ساروا على درب الحرية قبلنا. ومنظرها من الخارج لمن لا يعرفها يعتقد أنها شاحنة أو باص فاره وفخم.
تعبر الشوارع ولا تدري الناس هناك أن في داخلها حكايات ألم وأمل وانتظار، تترنح في الأزقة كأنها تسير في زمنها وعالمها الخاص. كنا نتسلق مقاعدها الحديدية النتنة لنسترق النظرات من ثقوب التنفس العالية، نصوّب أعيننا بكل تركيز نحو الثقوب على أمل التقاط مشهد يبقى في ذاكرتنا لزمن، ليعكس ضوء شمس الحرية بعض المشاهد والأماكن التي نحلم أن ندوس ثراها. إنها مشاهد الشجر والحجر والوجوه الطيبة والذكريات العطرة، فالشمس ترى كل شيء، حتى حافلة البوسطة الخارجة عن كل الأزمنة، ترافقنا أعين الشمس من سجن الرملة إلى القدس مروراً بذكريات هنا وهناك، نتبادل الذكريات مع زملاء "الرحلة"، نتفاعل، ونساعد بعضنا في التعرف على الأماكن، ونصرخ فرحاً لما نرى، نعانق ألواح الحديد المُقوّى كي نكون في أقرب نقطة من أرضنا وشعبنا. وما إن تصل بنا سيارة السجن إلى المحكمة حتى تبتلع عيوننا سماءها بالنظر إليها ونملأ صدورنا بهوائها. هذا هو العشق الأبدي لهذه المدينة...
يتكرر مشهد التشخيص بالوقوف والمناداة على أسمائنا والقيود تعيق حركتنا جميعاً، وثقل صريرها نحمله من دون أن نلتفت إلى أعبائه بلا تعب فنحن في القدس ... فلا أذكر أنني لمست الحب كما لمست حبي للقدس وأنا مقيد وأُحاكم لأجلها.
ننطلق من جديد من معتقل المسكوبية متجهين إلى المحكمة المركزية الموجودة في نهاية شارع صلاح الدين، ونبدأ بتقليب تلافيف ذكرياتنا فيها من باب العمود والبلدة القديمة وحارة النصارى وشارع صلاح الدين ومدرسة الرشيدية وحمّص أبو علي وكنافة جعفر ومدرسة المأمونية. كل هذه الذكريات تمر لحظة نزولنا من شاحنة البوسطة للدخول إلى غرفة الانتظار في بناية المحكمة، حيث نبتعد أمتاراً قليلة عن كل هذه الأماكن.
ضحكة المنتظر لفجر قريب
بينما نكون في زنزانة الانتظار يبدأ التفكير في مَن مِن الأهل والأحبة تمكن من الوصول إلى قاعة المحكمة، والأهم أن تكون الأم أول من أتى، فمهما كبرنا وأصبحنا رجالاً فإن الأم تبقينا أطفالاً أمام عظمة صمودها وشموخها.
غرفة انتظار مزدحمة بالأسرى، وربما جرت فيها محاكمة أجدادنا ولا زالت تحكم حريتنا بالسجن سواء كنا أسرى شباباً او أسرى أطفالاً أو أسيرات أو أسرى من كبار السن ... تبدأ المحاكمات بشكلها الصوري لإعطاء الانطباع بالعدل كأن الحق غير واضح.
هذا يخرج من القاعة مع عشرة أعوام، وهذا مع عشرين عاماً، وهذا غرامة، وهذا إبعاد ... إلخ من الأحكام الغريبة ... وتبدأ الضحكات على الأحكام، فصورة الأسير ضاحكاً تقضّ مضاجع الإعلام الصهيوني وشرطتهم وقضاتهم ومخابراتهم، إذ على الرغم من كل الألم فإننا لا زلنا نضحك ضحكة المنتظر لفجر قريب. يعود السجان بغلاظة يديه حاملاً قيوده ليضعها في أيادينا وأرجلنا، تسير الأصفاد بنا من تحت الأرض لندخل من جديد في عمق البوسطة ولنعاود الكرّة من جديد، لنعود إلى تلك البنايات المعتمة الباهرة في عتمتها، كأن القدس تقول لنا، لا بأس فكم من احتلال مر على بلدي وبقيت هنا أنتظر أحبابي.
أحضر السجان طفلاً لا يتعدى وزنه الأربعين كيلوغراماً، طفل تبدو قيوده أثقل منه يجرّها بصعوبة وعندما وقف أمامنا ناداه هذا السجان الضخم بفظاظة: شو اسمك؟
الطفل بهدوء وتروي: .... سيدك أحمد.
من أين يمتلك هذا الطفل كل هذه الثقة؟!
ضحكنا جميعاً، وكانت ضحكاتنا بمثابة التحية لهذا الثائر الواعد
فاستشاط السجان غضباً، وذهب ليسأل عن معنى ما قاله الطفل ....
عاد وسأله مرة أُخرى...
شو اسمك؟
فردّ عليه الطفل بالإجابة نفسها:
سيدك أحمد....
كأن السجان شعر بالعجز أمام هذا الطفل، فلم يجد ما يمكن فعله، من جديد، فأجرى عملية عدّ الأسرى داخل البوسطة، وتأكد أن العدد صحيح، أقفل الأبواب بالأقفال وفرغ غضبه الواضح بطَرق الحديد بشكل لافت. ضحكنا جميعاً وبشكل عفوي، فصرخ السجان "سكوت". واستمرت الضحكات إلى أن غادر صداها جدران البوسطة.
في طريق العودة كنا نشاهد الجانب الآخر من الطريق، نتمركز في مواقعنا، نحدق النظر. نخبر بعضنا ما نشاهد، ونحلّل المشاهد ونحاول اكتشاف كل ما هو جديد في مدينتنا، نتمنى أن تطول الرحلة في شوارع القدس، نودعها بفرح المنتصرين على الرغم من القيود، ونردد في داخلنا "سنرجع يوماً يا قدس الأقداس".