فلسطين – ذكريات 1948، القدس 2018
Palestine – Memoires de 1948, Jerusalem 2018
Chris Conti & Altair Alcântara
London: Hesperus Press, 2019. 243 pages.
ثماني عشرة شهادة تعيد القارىء إلى حقبة النكبة الفلسطينية، وتُطلعه على كثير من الذكريات من خلال مجموعة من الصور لمدينة القدس القديمة. ذكريات عن ضحايا فلسطين، وعن صمودهم بوجه الهجمات الإسرائيلية المتوحشة، وصور تروي واقع الحياة اليومية في هذه المدينة الرمزية التي يملكها الفلسطينيون، لكنهم لا يستطيعون الوصول إليها.
صدر هذا الكتاب باللغة الفرنسية،* وهو خليط بين الرواية والصور، من تأليف كريس كونتي وتصوير ألتير ألكانتارا، وبمشاركة فريق من المؤرخين والمصممين. في مقدمة الكتاب يكشف الرئيس السابق لـ "أطباء بلا حدود"، روني برومان، كيف أن الرحلة إلى ذاكرة الفلسطينيين تضع حداً لخرافة صهيونية لا تزال عنيدة، وتزعم أن "تلك الأرض القاحلة المهجورة التي اجتازها عدد قليل من سائقي الجمال [....]، إن العبرانيين الجدد سيصنعونها زهرة." غير أن هذا الكتاب يسمح لنا برؤية المجتمع الفلسطيني قبل سنة 1948، ببرجوازيته وعمّاله وأعيانه وفلاحيه ومثقفيه ومقاتليه، ويسلط الضوء على العنف السياسي الصهيوني.
يتناول الكتاب شهادات لعدد من المعمرين من الرجال والنساء، عن ذكرياتهم داخل فلسطين قبل النكبة في سنة 1948، والتي لم تعرفها الأجيال المعاصرة، وخصوصاً بعد تشتت سكانها في جهات الأرض الأربع. كما يتناول حياة هؤلاء بُعيد النكبة، ومواجهتهم لتحديات الحياة وصنعهم من المأساة شكلاً جديداً للحياة، ويوثق أيضاً قصصاً وحكايات، ويركز على صمود الناس وحبهم للحياة وقدرتهم على البقاء.
يكشف الكتاب كيف عاش هؤلاء على الرغم من المأساة، فيمكّن قُرّاءه من معرفة قصص الحياة التي تعطي بعداً إنسانياً لأحداث يُقرأ عنها. فكل شخص له قصة وله طريقة في رواية قصته، وهي ليست قصص ضحايا، وإنما قصص نضال عاشه هؤلاء الناس من أجل مواجهة الاحتلال. ففلسطين، والقدس تحديداً، بالنسبة إلى كل فلسطيني، هما مصدر مشبع برمز وبهوية وبذاكرة، وخصوصاً أن هذه الأخيرة ما زالت محتلة وممنوعة على أغلبية الفلسطينيين.
ينقسم الكتاب إلى فصلين: الأول يحتوي على النصوص والشهادات، والثاني يضم مجموعة من صور القدس التي تُبرز جماليات المدينة المقدسة وبساطة الحياة العامة فيها. وقد تطلّب إنجاز الكتاب ثلاثة أعوام، بُني خلالها بعناية فائقة كي تُنقل هذه القصص بصدق إلى الأجيال الفلسطينية في الشتات.
في المقدمة، تشير كريس كونتي، مُعدّة القصص، إلى أنها حاولت أن تنأى بنفسها بقدر الإمكان عن السردية، كي تكون الكلمة مُلك ضحايا تاريخ فلسطين، ليقدموا سرديتهم. وتشير إلى أن بين هؤلاء شهوداً على النكبة، ومن هنا تأتي أهمية الكتاب المتمثلة في روايات رجال ونساء يتذكرون أيامهم الأخيرة في المنزل وخلال الحرب، وعشية الويلات والمذابح، ويتذكرون مآسي المنفى والبأس الذي كان عليهم إظهاره للتكيف مع الحياة الجديدة.
أجزاء من حياة هذه الشخصيات سُردت مصحوبة بصور بالأبيض والأسود لطرق وساحات وأماكن، ولأراضٍ وأشجار زيتون.
يخبر الكتاب قصة رجلين نُفيا إلى أميركا اللاتينية (البرازيل وتشيلي)، ويرويان كيف بقيت ذكرى نكبة 1948 حيّة في أذهانهما حتى عندما كان يتعين عليهما بناء هويتهما الجديدة في مكان آخر بعيد جداً عن فلسطين وعن العالم العربي.
ويرسم صورة للشهيد القائد ماجد أبو شرار، ورحلته السياسية منذ نشأته في غزة حتى اغتياله، مروراً بمراحل شديدة الأهمية في تاريخ حركة "فتح" وصراعها الطويل ضد الاحتلال.
وأهمية هذا الفصل من الكتاب أنه يروي تفصيلات عن حياة أبو شرار، وهو الوحيد الذي جُمعت سرديته بعد استشهاده، ومن خلال أشخاص عرفوه. وتشير السردية إلى أن أبو شرار وُلد في قرية دورا في قضاء الخليل في سنة 1936، وأن معالم أفكاره وتوجهاته الوطنية تبلورت في غزة، وتذكر كيف عمل مدرّساً في مدرسة في قضاء الكرك في الأردن، ثم أصبح مديراً لها، قبل أن يسافر إلى الدمام في السعودية ليعمل محرراً في صحيفة "الأيام" في سنة 1959، حيث تمكّن من التعبير عن أفكاره السياسية والوطنية.
ويتناول الكتاب التحاقه بحركة "فتح" في سنة 1962، وتفرّغه للعمل في صفوف الحركة في عمّان ضمن جهاز الإعلام، وأنه أصبح رئيس تحرير صحيفة "فتح" اليومية، ثم مديراً لمركز الإعلام، ثم مسؤولاً عن الإعلام المركزي، ثم الإعلام الموحد لمنظمة التحرير الفلسطينية، قبل أي يتم اختياره لتولّي أمانة سر المجلس الثوري في "فتح" في المؤتمر الثالث للحركة في سنة 1971.
أبو شرار الذي ساهم في دعم وتأسيس مدرسة الكوادر الثورية في قوات العاصفة عندما كان يشغل موقع مسؤول الإعلام المركزي، ساهم أيضاً في تطوير مدرسة الكوادر في أثناء تولّيه مهمات مفوض سياسي عام. وقد أصبح لاحقاً عضواً في الأمانة العامة للاتحاد العام للكتّاب والصحافيين الفلسطينيين، واختير في المؤتمر العام الرابع لحركة "فتح" في سنة 1980 ليكون عضواً في اللجنة المركزية للحركة.
يوثق الكتاب عملية اغتياله على يد الاستخبارات الإسرائيلية في تشرين الأول / أكتوبر 1981 بقنبلة وُضعت تحت سريره في أحد فنادق روما، حيث كان يشارك في مؤتمر عالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. ويخبر كيف كان هناك برفقة الشاعر محمود درويش متخفياً بجواز سفر جزائري باسم عباس زيتوني، وكيف اضطر إلى تبديل الفندق لدواعٍ أمنية، لكن يد الغدر كانت أقوى، إذ اغتيل ونُقل جثمانه إلى بيروت ودُفن في مقبرة الشهداء - شاتيلا.
ومن نماذج الشهادات لأناس عاديين عاشوا النكبة، شهادة السيدة سهيلة صبحي الششتاوي (90 عاماً) التي تقول: "عمر بيتنا أكبر من عمر إسرائيل، بناه جدي لأمي من الحجر، وهو من عائلة الوعري. ذهبت قبل أعوام لرؤية بيتنا، لكني عدت من دون أن يُسمح لي بذلك. صورة البيت لا تزال مرسومة في ذاكرتي كأنه أمامي الآن، ولا يزال في قلبي حسرة، فقد عشت فيه طفولتي، وأتمنى أن يتاح لي رؤيته قبل أن أموت."
تُقرّ المؤلفة بأن عملها ليس كتاباً تاريخياً بالمعنى التقليدي، بل عملية تدوين لما حدث. ففيه مشاهدات ومرويات بلسان شخصيات من جميع فئات المجتمع لم تتركها ظلال النكبة التي وقعت في سنة 1948، وإنما ما زالت شاهدة على حدث جلل سيبقى حاضراً في ذاكرة التاريخ. هذا الكتاب ليس للفلسطينيين وحدهم، بل للعالم بأسره كي "يعرف ويشعر بما حدث لهذا الشعب وما اختبر من مآسٍ."
وعن رحلتها مع الكتاب تقول كونتي إن التصدي للقضايا الإنسانية "علّمني قيمة العمل الشاق، وأن أواصل التحدي على الرغم من الصعاب للوصول إلى تغييرات إيجابية، وقد أفدت من تجربة هؤلاء الذين استطاعوا أن يعلموني معنى المكابدة والأمل."
ضمت النسخة الفرنسية نحو 15 موضوعاً وشهادة من معمرين فلسطينيين. من موضوعات الكتاب: "المعركة القانونية لإحياء الوعي الفلسطيني" (فؤاد شحادة، 94 عاماً)؛ "الغريب" (الناقد فيصل دراج، 76 عاماً)؛ "حارس شجرة الزيتون" (سليمان حسن، 76 عاماً) الذي حمل الكتاب صورته على الغلاف.
ومن الشهادات: "مذبحة الدوايمة" التي راح ضحيتها نحو 700 قتيل (رشيدة هديب، 80 عاماً)؛ "الأرض التي أطعمتنا" (عبد الرحمن النجاب، 83 عاماً)؛ شهادة عن ماجد أبو شرار؛ "مناضل من الناصرة" (سميرة كباس خوري، 90 عاماً)؛ "الغائب" (أميمة مهتدي العامي، 83 عاماً)؛ "المدرّس" (صلاح الدين صالح عيسى، 83 عاماً)؛ "الأحجار الحية في حيفا" (سعاد قرمان، 91 عاماً)؛ "من غزة إلى ريو" (محيي الدين الجمال، 88 عاماً)؛ "أم العودة" (حليمة محمد مصطفى، 76عاماً)؛ "البطريرك" (رجل الدين ميشيل صباغ، 86 عاماً)؛ "المرأة الفلسطينية" (الفنانة تمام الغول، 81 عاماً)؛ "اليوم الذي أنقذ بتّير" (حسن إبراهيم حربوك، 90 عاماً)؛ "العودة إلى بيتنا فلسطين" (إلهام أبو غزالة، 80 عاماً)؛ "التشيليون من أصل فلسطيني" (نيكول شهوان، 84 عاماً)؛ "الحرية لصوفي" (محمد تيجاني، 93 عاماً).
* صدرت أيضاً لاحقاً في سنة 2019، وعن دار النشر نفسها، نسخة إنجليزية مترجمة من الكتاب بعنوان:Palestine – Memories of 1948, Photographs of Jerusalem، وحتى نشر هذه القراءة كان العمل جارياً لنشر نسخة باللغة الإسبانية.