نقرأ في هذه الدراسة سيرة أخلاقية لممارسة محمود درويش السياسية، وهي سيرة يتقاطع فيها ترحال الشاعر بترحال الثورة، في قراءة جديدة لعبارة الشاعر: "ما أوسع الثورة، ما أضيق الرحلة، ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة."
في نتاج درويش النثري - السياسي، علامات تشير إلى مسار العملية الشعرية الإبداعية، الأمر الذي يسمح لنا بقراءة فلسطين في سياقها الكوني، مع شاعر جليلي انطلق من تجربة اللجوء والتشرد في وطنه، ليكتشف أبجدية المعاناة الإنسانية في جميع أوجهها، مقدماً نصاً شعرياً فذاً، يتغلغل في تلافيف الروح.
في قصيدته "مديح الظل العالي"، التي تزامنت وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إلى تونس في سنة 1982، يقول محمود درويش: "ما أوسع الثورة. ما أضيقَ الرحلة. ما أكبرَ الفكرة. ما أصغرَ الدولة!"[1] وبينما تحولت ثنائية "الفكرة - الدولة" إلى كليشيه شعبوية لوصف مآلات المشروع الوطني الفلسطيني، تحولت في الخطاب الثقافي إلى مدخل "تحقيبي" لدراسة سيرة درويش بين ترحاله وترحال الثورة. أمّا هذه الدراسة التي تقرأ نتاج درويش النثري وتتخذه مصدراً أساسياً، فلا تستهدف إضافة "معلومات" سِيَريّة، بقدر ما تقترح نموذجاً نظرياً لقراءة "أخلاقيات" ممارسته السياسية، استكمالاً للجزء الأول الذي اختص بـ "السياسات" الثقافية. فهذه الدراسة تعيد "ترتيب" المقولة الشعرية لتصير: "ما أضيقَ الرحلة / ما أكبرَ الفكرة / ما أوسع الثورة / ما أصغرَ الدولة"،[2] وذلك على نحو يتيح قراءة أخلاقيات الممارسة السياسية لدرويش بشكل تزامني، أي غير تعاقبي، كي تعبّر "الفكرة" عن قضية التحرر؛ و"الثورة" عن وسائل التحرر؛ و"الدولة" عن غاية التحرر. أمّا "الرحلة"، فستعاد مَفْهَمتها كخطاطة سِيَريّة لأخلاقيات ممارسته السياسية والجمالية، عبر منطقين: خارجي، تكوّنه ثلاثية: الاستعادة والموقّتية والانتظار؛ وداخلي تحكمه ثلاثية: المعاودة والكوكبة والترحال... وذلك لإتاحة التعرف إلى الإزاحات المتواترة في حياة درويش، مكانياً وسياسياً وجمالياً.
I - درويش: الرحلة والراحلة
شهدت "الرحلة" التي وصفها درويش بأنها "ضيقة" ثلاثة أنواع من الإزاحات، إذ: انتقل درويش، مكانياً، من "الوطن المحتل"؛ إلى "المنفى المتدرج"؛ وانتهى في "الساحة الخلفية" للوطن التاريخي. أمّا سياسياً، فنشأ في كنف ثقافة كان منبرها الوحيد الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ثم التحق، بعد تصدّع المشروع القومي العربي، بمنظمة التحرير الفلسطينية، من دون أن ينخرط، لاحقاً، في السلطة الفلسطينية. وأمّا جمالياً، فإزاحاته، من "شاعر المقاومة" إلى "شاعر الوطن المحتل" ومن "الشاعر العام" إلى "الشاعر الكوني"، تستعصي على الوصف.
1 - المنطق الخارجي: الاستعادة الموقّتية، الانتظار
يستند المنطق الخارجي لقراءة أوديسة درويش إلى ما قدّمه إلياس خوري في كتاباته عن فلسطين ودرويش،[3] والتي شكلت نكبة 1948 محورها، والمخيم نموذجها التوضيحي، وذلك لقراءة الإزاحات البرّانية الخاصة بالفلسطينيين، من حيث: الاستعادة (الفكرة)، والموقّتية (الثورة)، والانتظار (الدولة).
فعبر قراءة مقارنة لقسطنطين زريق وغسان كنفاني وإدوارد سعيد، يفيد خوري بأن تواصل الصراع بين حركة التحرر الوطني الفلسطيني (ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية) والحركة الصهيونية (ممثلة في دولة الاستعمار الاستيطاني إسرائيل) استمر كصراع على "فكرة فلسطين" بين "الحضور" الفلسطيني (كامتداد لهويتها العربية)، و"التأويل" الصهيوني (كامتداد للاستيهام الاستعماري الغربي بشأنها).[4] ولذا، كان سؤال النكبة المركزي: كيف يستطيع الحضور اكتساب حكايته وسردها، كي تنجح "شرعية الحضور والبقاء" في مقاومة "لاشرعية التأويل والغياب"؟ لكن الإجابة قاتمة في مآلاتها، لأن الحركة الصهيونية نجحت في تحويل فكرتها إلى وجود فعلي تمثل في إقامة دولة إسرائيل كدولة حصرية لليهود، وتحويل الأسطورة إلى تاريخ، بينما لم تنجح الحركة الوطنية الفلسطينية، حتى اللحظة، في تحويل وجود الشعب الفلسطيني إلى فكرة، و"تحويل تاريخه إلى تاريخ."[5] وعليه، فمعنى فلسطين، لدى درويش الذي شكلت النكبة "ذاكرته الأليفة"، ليس جغرافياً فحسب، بل هو أيضاً جوهر ثوري لمشروع تحرري يقاتل مشروعاً استعمارياً.[6]
في توصيفه للثورة الفلسطينية وعدم نجاحها في تحقيق غايتها في التحرير، برهن خوري على أن الثورة الفلسطينية، كالوعي العربي، فشلت في التعامل مع "المسار النكبوي" الذي تصادت فيه الهزائم: نكبة 1948، ونكسة 1967، وأوسلو 1993، ولم تحسن التعامل مع الدلالات التاريخية والسياسية والثقافية لهذا المسار.[7] ومستبقاً تنظيرات الاستعمار الاستيطاني بشأن الحالة الفلسطينية، شخّص خوري النكبة، ليس "كحدث تاريخي تحدَّد مرة وانطفأ، وإنما كبُنية مستمرة لحدث مفتوح." فالنكبة "هي حاضر فلسطين الذي يأخذ فيه جدل الحضور الفلسطيني والتأويل الصهيوني مساراً تصاعدياً، وليس ماضيها"، وذلك عبر "أربعة فقدانات كبرى، هي: الأرض، والمدينة، والأسماء، والحكاية. وقد أدى هذا الفقدان إلى فتح حدث النكبة على المستقبل، إذ استمرت إسرائيل في نهب الأرض، وطرد الناس، وتقويض الحكاية... من التطهير الكبير في سنة 1948 إلى الاستهداف المتواصل بالجدار والهدم والمستعمرات حتى اللحظة، الأمر الذي جعل مأساة الفلسطينيين 'نكبة مستمرة'."[8] ولذا، كان على الثورة الفلسطينية أن تواجه: تحدياً على الأرض التي صارت "إسرائيل"، وصار الفلسطينيون أغراباً عنها: لاجئين، ونازحين، ومهجّرين، ومواطنين منقوصي الحقوق؛ وآخر على الرواية، رواية اسم الفلسطيني واسم فلسطين التي لم تجد مَن ينقذها من بُكم الضحية إلّا القليلين، من أمثال درويش وسعيد وكنفاني.[9] ومع أن الفلسطينيين نجحوا في مواصلة الصمود أمام تحدّي - البقاء، إلّا إنهم لا يزالون يصارعون تحدّي - الحكاية التي تهددها مخاطر الإسكات، والمقارنات الظالمة بين هول النكبة وهول الهولوكوست، والتي يجب عدم التورط فيها أو قبولها، كماً ونوعاً،[10] إذ من شأن ذلك تحويل المعاناة الفلسطينية المستمرة في الوطن والشتات إلى ذاكرة.
بدأ خوري قراءته للمسار النكبوي الفلسطيني من المخيم، كنقطة تقاطع بين "الثورة" و"الدولة"[11] رصد فيها نوعين من الوعي الفلسطيني - قبل لحظة أوسلو، وبعدها: "وعي لجوئي (قديم)، نشأ بعد نكبة سنة 1948، وتعمّق بعد نكسة سنة 1967، وظهرت بسببه، وتمحورت حوله، منظمة التحرير الفلسطينية، وهو وعي ميّزته ثلاث سمات، هي: الاستعادة الرمزية لما قبل النكبة؛ الموقّت في البناء والسرد؛ الانتظار لتحقق العودة. [... و]وعي منفوي (جديد) ظهر بعد سنة 1994، ونشأت عنه السلطة الفلسطينية، وأرجأ فعل العودة، وميّزته ثلاث سمات أيضاً، هي: الكتابة محل الشفاهة؛ الوعي بالدائم بدلاً من الموقّت؛ تحرر الصورة من الرمز. وبين هذين الوعيَين، اندلعت الثورة خارج فلسطين القديمة بقيام منظمة التحرير الفلسطينية، وأُجهضت داخل فلسطين الجديدة بقيام السلطة الفلسطينية."[12] وهنا، لا بد من الالتفات إلى أن خوري يشير بوضوح إلى أهمية نتاجات درويش المتعددة في الخروج من "حالة البُكم" لربط الذاكرة العربية عن فلسطين - بما فيها الشتات الفلسطيني في البلاد العربية، بالذاكرة الفلسطينية - بما فيها الجغرافيات المقسمة داخل الوطن، مؤكداً أنه أعاد "اكتشاف فلسطين" مع درويش.
2 - المنطق الداخلي: المعاودة، الكوكبة، الترحال
أمّا المنطق الداخلي لقراءة أوديسة درويش، فيستند إلى ثلاثة مفاهيم نظرية تقرأ الإزاحات الجوّانية الخاصة بالمعاودة (الفكرة)، والكوكبة (الثورة)، والترحال (الدولة)، والتي طوّرها، على التوالي: بليز باسكال، وفالتر بنيامين، وجيل دولوز.
يظهر مفهوم "المعاودة" (recursion) عند بليز باسكال في تطبيقاته التي تتضمن "التكرار" المحكوم بالشروط الداخلية لنظام ما، حين يكون النظام محيلاً إلى ذاته، فيتم تعريف شيء ما بمصطلحاته الخاصة، أو بنوعه، من داخله.[13] ومع أن تطبيقات "المعاودة" مستخدمة على نحو أوسع في العلوم، إلّا إن الإنسانيات وظّفته أيضاً، في تطبيقاتها ذات العلاقة بـ "التعريفات الدائرية" التي تنتج من "تكرار" التجربة بشكل متواصل، والوصول إلى النتيجة ذاتها، على الرغم من اختلاف بعض الشروط السياقية. ويمكن التمثيل على ذلك بصالة المرايا الصينية التي تتكرر فيها صورة المرأة التي تحمل صورة لها في المرآة، بين مرآتين إلى ما لا نهاية؛ أو دُمى المتروشكا الروسية؛ أو الحلم الذي يظهر داخل حلم آخر، في الشعر الرومانسي. ولعل هذه "المتروشكا الذهنية" تنطبق على المفاصل الثلاثة لمسيرة درويش بين "الفكرة" و"الثورة" و"الدولة" من حيث الإعادات الأخلاقية التي مارسها، على الرغم من الاختلافات الناشئة عن الإزاحات السياقية: مكانياً، وسياسياً، وجمالياً.
في نصه ذائع الصيت "أطروحات في فلسفة التاريخ"،[14] يسخر فالتر بنيامين من قصر التاريخ البشري مقارنة بتاريخ الكون، لكنه على قصره، يصلح أن يُستخدم للربط بين لحظات الزمن الثلاث: الماضي، والحاضر، والمستقبل. ومع أنه ينعى على المؤرِّخ، أحياناً، إقامة علاقات سببية بين هذه اللحظات التي تبدو كأنها تشكل زمناً متجانساً أجوف، تغدو فيه الحكاية الخيط، وتغدو اللحظات الثلاث خرز المسبحة... إلّا إنه يقترح نموذجاً آخر في مواجهة التاريخ هو "الكوكبة" (constellation) التي تفعل الذاكرة فيها فعلها لتربط بين حاضر - الخطيئة (وماضيها)، ومستقبل - الخلاص. وعلى الرغم من أن بنيامين صاغ هذه المقولة وفي ذهنه اليهود في السياق الفاشي - النازي، فإنها تصلح لفهم المعاناة في الحالة الفلسطينية التي لا يعود التاريخ فيها، بصفته "مسبحة"، قادراً على استيعاب الخرز، فتنشأ الضرورة لاستدعاء الذاكرة، كتراصف كوكبي للصور المعبّرة عن تزمينات متنوعة للمعاناة في لحظة واحدة تنفي عن التاريخ تقدّميته. وهنا، تتحول الفاعلية السياسية للمثقف، ودرويش مثال نموذجي له، من تعداد "خرز المسبحة" عبر الانفعال بالتاريخ، إلى "قفزة في الهواء الطلق"، عبر فعل الذاكرة. وعليه، يبدو هذا الاقتراح، على الرغم ممّا وُجِّه إليه من نقد كونه "رَوْحَن المادية التاريخية"،[15] ملائماً لـ "الترحال الحر"، إن لم يكن القفز متاحاً بين مختلف التزمينات الفلسطينية، على مستويات: الوطن - فلسطين، والمواطنين - الفلسطينيين، والوطنية - الفلسطنة.
وعلى الرغم من أن مفهوم "الترحالية" (nomadism) الذي طوّره جيل دولوز كنظرية في المقاومة، يلائم الحالة الفلسطينية بصورة عامة، فإنه في تفصيلاته وثيق الصلة بمفاصل "الرحلة" مثلما عاشها درويش ووصفها: فكرةً، وثورة، ودولة. فمن خلال مقابلته الشهيرة بين مثالية "اللوغوس" وواقعية "النوموس"، من حيث المفعولية والفاعلية،[16] تمكّن دولوز من اقتراح نموذج ثوري للترحاليين على مستويات: الحيّز (الوطن)، والسكان (المواطن)، والمعرفة (الوطنية). فبينما تفرض السلطة قانون اللوغوس على الحيّز غير الترحالي المثلّم من أعلى، بقوة الجندي وصرامة القانون، يتمكن الترحاليون عبر فعل المقاومة من تدشين الحيّز الترحالي الأملس المستعصي على تحديدات السلطة.[17] أمّا السكان (المواطنون)، ففي وسعهم الحركة في أمكنة الحيّز الأملس من دون الخضوع لإكراهات السلطة، الأمر الذي يوفر لهم فرصة العيش الموقّت، غير ممتثلين إلّا لفكرتهم عنه، أكانوا غير مواطنين، بالتعريف القانوني (لاجئين)، أم مواطنين من الدرجة الثانية (مميز ضدهم)، أم بلا حقوق سياسية تحت الاحتلال. والفكرة التي تربط الترحاليين بحيّزهم (الوطنية)، لا تنتج من تعريف السلطة صاحبة السيادة لهم، وإنما من تعريفهم هم لذواتهم وشروط انتمائهم إلى المكان، ذاكرة وتاريخاً، عبر المعرفة الترحالية. ولتوضيح مفاصل "آلة الحرب" التي تتغير فيها قوانين السلطة في هذه المفهمات الثلاث، يستخدم دولوز "الدولة"، أو ما يقوم مقامها من كيانية سياسية، كفضاء تلتقي فيه الخطوط، أو المسارات، الناظمة لهذه الثنائيات، والتي ينتج منها بناء سياسي – اجتماعي - ثقافي.
II - الفكرة: 1941 - 1973
"الفكرة"، التي كانت "كبيرة"، ولا تزال، هي قضية التحرر الوطني مثلما فهمها درويش عبر تأطير علاقة فلسطين بالصهيونية. وكان أبرز الإزاحات فيها: مكانياً، تنقّله بين حيفا وموسكو والقاهرة وبيروت؛ وسياسياً، تغيّر إطاره السياسي من الحزب الشيوعي الإسرائيلي إلى منظمة التحرير الفلسطينية؛ وجمالياً، تحوّله من "شاعر المقاومة" كتوصيف بلاغي إلى "الشاعر العام" كتوصيف سياسي. وقد شكلت العقود الثلاثة الأولى من حياة درويش 1941 - 1973 محرقة التجربة الفعلية، والتي صاغ فيها "الفكرة" عن القضية الفلسطينية بصفتها صراعاً بين حركة التحرر الوطني الفلسطيني التي حملت مشروعها منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني التي ترجمت مشروعها دولة "إسرائيل."[18] وتشكلت هذه "الفكرة" عبر ثلاثة مفاصل، هي: معاودة هوية اللاجىء؛ وكوكبة الذات بين اللحظتين الفلسطينية والصهيونية؛ وترحال الشاعر، بين فلسطين والشتات، ليجد بيته في منظمة التحرير الفلسطينية.
1 - معاودة هوية اللاجىء
بعد سبعة أعوام من ضنك الحياة في أسرة كادحة من قرية البروة، شرقي عكا، حلّت النكبة، ولجأ درويش مع عائلته إلى لبنان في سنة 1948، لتكون هوية "لاجىء" الهوية الأكثر رسوخاً في "ذاكرته الأليفة"، لأنه واجه كلمات: لاجىء، مخيم، عودة... "كمَن يرتطم بصخرة" رسمت بالتدريج وعيه، وحددت مهنته، ومسار حياته.[19] وصلت العائلة إلى قرية "رميش" اللبنانية، وبدأ الطفل درويش بترديد عبارة: "أنا لاجىء".[20] ومع أن "النكبة تتراءى له ككابوس طفولي غامض الملامح"،[21] إلّا إن ذاكرة درويش تستدعي تسلل عائلته "بعد عام أمضته العائلة في ثلوج جزين"[22] إلى البقيعة، فدير الأسد، فالجديدة... لا إلى البروة، مسقط رأسه، التي سقطت مرتين بين 11 و22 حزيران / يونيو 1948، وصار أبناؤها "حاضرين - غائبين"،[23] وتُركت العائلة لتواجه مصيرها بعد إدراكها أن الحرب لم تنتهِ، وأن جيش إنقاذ فلسطين لن يحرر فلسطين.[24] ويسخر درويش من إنكار أستاذ التاريخ لتاريخ التطهير العرقي، وتزداد السخرية مرارة حين يكتشف بنفسه معنى الوطن، ومعنى اللجوء، ومعنى التسلل والخشية حتى من التلفظ بحدوث اللجوء، كما يطلب منه أبوه ألّا يخبر أحداً أنه كان في لبنان، وإنما في مضارب بدو الشمال، لأن كلمة فلسطين صارت ممنوعة، وحلّت مكانها إسرائيل التي ستحرمه من "بطاقة الهوية" إن قال أنه جاء من لبنان.[25] وعلى الرغم من إنكار هذه "اللعنة"، فإن اللجوء لم يتوقف، إذ صار الأطفال في المدرسة ينادونه بـ "لاجىء" لإغضابه؛ ويبحث مفتش المدارس الإسرائيلي عن أولاد الفلسطينيين "المتسللين" من لبنان؛ وحين يطلب مدير المدرسة من درويش قراءة قصيدة أمام مفتش المعارف الإسرائيلي، وكان فيها مسحة وطنية، يناديه المفتش ويهدده: "إذا بتكتب أشعار مثل هذه سيفقد والدك عمله في المحجر. اُكتب عن بلدك إسرائيل، مفهوم؟"[26]
صاغ درويش ما علق بذاكرته الأليفة عن النكبة في إطار شعري - أوتوبيوغرافي بهيّ في ديوانه "لماذا تركتَ الحصان وحيداً؟"،[27] لكنه لاحقاً قلب رمزياً، معادلة القوة التي روّجتها آلة الدعاية الصهيونية، وذلك عبر استنساخ ضعف "داود الصهيوني" أمام "جوليات الفلسطيني". لم يكن درويش قد بلغ السابعة حين انتُزعت منه طفولته، وصار "اللجوء" صنواً للطفولة المسروقة...[28] لكنه واصل استفساره المر: "وتساءل: ما معنى كلمة لاجىء؟ سيقولون: هو مَن اقتُلع من أرض الوطن. وتسأل: ما معنى كلمة وطن؟ سيقولون: هو البيت، وشجرة التوت، وقنّ الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز، والسماء الأولى. وتسأل هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات… وتضيق بنا؟".[29] خيمة درويش، إذاً، كانت حقيقة لا استعارة، ولم تكن "خيمة شعرية، [وإنما] أحد أسماء البؤس"[30] الفلسطيني. وعلى الرغم من قسوة التجربة التي تشبه القدر، فإنها صنعت منه شاعراً كبيراً، وفاعلاً مؤثراً في السياسة الفلسطينية، وجعلته ينتقل من مكان إلى آخر بفعل "مصادفة" ولادته لأب وأم فلسطينيين، وارثاً للأرض والصليب، "هنا"، لا في مكان آخر من العالم. لكن هذا "الإرث" للمأساة لم يكن خيار الضحايا الأصلانيين بقدر ما كان خيار الجلاد الاستعماري، وهذا ما يشير إليه درويش حين يوسّع دائرة المسؤولية الصهيونية عن مآسي اليهود أنفسهم في مرحلة لاحقة.
2 - كوكبة الذات بين اللحظتين الفلسطينية والصهيونية
بعد أن "استقر" درويش كـ "حاضر - غائب"، توزعت حياته بين: الحرب التي تشنّها إسرائيل على كل ما هو فلسطيني؛ والحب الذي حالت دونه البندقية؛ والحزب الذي لم يتّسع للمعنى الوطني للنضال. أمّا الشعر، فكان الخيط الناظم لهذه الأقانيم الثلاثة والمغناطيس الذي جلب لدرويش المتاعب والشهرة على امتداد عشرين عاماً من "الحكم العسكري" جعلته يعي خطوط الصدع بين اللحظة الفلسطينية واللحظة الصهيونية. فبعد النكبة مباشرة، واستناداً إلى قوانين الطوارىء، شرعت "إسرائيل" في تطبيق نظام الحكم العسكري خلال الفترة 1948 – 1966،[31] ثم تولّت أجهزة أُخرى كالاستخبارات والشرطة، وحتى القضاء، مهمات القمع والتمييز العنصري المنهجي ضد العرب، وهو ما يظهر من سيرة درويش نفسه: من التهجير، والمصادرة، والمراقبة، والملاحقة، والقمع، وتحديد الحركة بالتصاريح... وأشكال التمييز الأُخرى كافة.
لم يصبح درويش رساماً، مثلما كان يرغب في صغره،[32] وإنما قرأ الشعر وكتبه، وألقاه في البيت والمدرسة، وهو في الثانية عشرة. وقد أزعج شعره "أعوان الحاكم العسكري"، فاستدعاه ووبخه وضربه، وهدده بقطع رزق والده "الذي كان بطل الصبر والأمل."[33] لكن هذه الاستضعاف لم يطل، فبفضل قراءته الدائبة بالعبرية، تمكّن درويش بالنقاش والمناكفة، من قلب الطاولة على فواعل "وزارة المعارف" من أساتذة، ومدراء، ومفتشين،[34] الأمر الذي كان يؤدي إلى طرده من الصف من دون أن يمتثل للأمر. ويتطرق درويش إلى مفارقات علاقته مع معلّميه ضمن نظرته الأوسع إلى "اليهود" التي لم تكن يوماً نمطية،[35] ولعل في هذه الحكايات ما يذكّرنا بما حدث مع بول سيلان في صباه حين كان يقرأ القصائد الألمانية بتنغيم يشبه التغنيم اليهودي للصلوات بالعبرية، فتطلب منه معلمته الألمانية الإعادة ليغيّر "اللكنة"، حتى ينفجر بالبكاء؛ لكنه حين اشتد عوده، أطلق مقولته الشهيرة: "ليس على وجه الأرض ما يمنع الشاعر من الكتابة، حتى إن كان يهودياً، والألمانية هي لغة قصائده."[36]
لكن، على الرغم ممّا عاناه درويش من رقابة صهيونية على أعماله،[37] فإن شعره وجد طريقه إلى الشهرة عبر قصيدتين تعبّران عن لحظتَي "الفكرة" في تلك المرحلة: الأولى، قصيدة "بطاقة هوية" التي كتبها في سنة 1963 بعد انتقاله إلى العمل في حيفا، محرراً في "الاتحاد"، ورئيساً لتحرير "الجديد"، ومتأثراً بالتيار الواقعي.[38] وعبّر درويش عن امتنانه لذلك الإطار السياسي الذي تشكّل فيه "وعيه الأول" بحقوق الأقلية العربية الفلسطينية داخل "إسرائيل"، لكن من دون أن يكون لديه أوهام بأن ذلك الإطار لا يطرح خيار التحرر من الاستعمار،[39] فالقصيدة تعبّر عن نضج وعيه الأممي بقضايا الحرية. أمّا القصيدة الأُخرى، وهي "عاشق من فلسطين" (1966)، فتعبّر عن نضج الوعي الوطني الذي اقتضى أدوات نضال لم يتحها الانتساب إلى الحزب الشيوعي.[40] وقد وصف درويش اندغام اللحظتين، بقوله: "كأقلية كان الإسرائيليون يعاملوننا كعرب، رفضهم واضطهادهم لنا كان على أساس أننا عرب، كان إدراكنا إذن لعروبتنا، ومن هنا كتبت 'سجل أنا عربي' ليس 'سجل أنا فلسطيني'. كنا نعرف أن هناك بلاداً اسمها فلسطين، لكن لم يكن هناك مشروع اسمه فلسطين أو كيانية اسمها فلسطين، يكفي أن تقول أنا عربي دون الحاجة إلى التعريف 'الفلسطيني'. بدأت الفكرة الفلسطينية تنمو بعد نشوء منظمة التحرير الفلسطينية."[41] علاوة على ذلك، ثمة ديناميات أكثر تفصيلاً أحدثت هذا التحول بين هاتين اللحظتين، وكان الحب والحزب أهمهما.
أمّا الحب، وهو بالتأكيد شأن شخصي، فشخوصه قد يتحولون إلى رموز "لا لاستحالة الحب بين عدوّين، ولكن لأنها ستكون إطار انقسام الأنا نصفين."[42] وهنا، تجدر الإشارة إلى رسائل تلقّاها درويش من فتاة إسرائيلية تدعى تمار بن عامي بين سنتَي 1965 و1966، وكان درويش قد أحبها وتركها بعد ذهابها إلى الجيش. وفي واحدة من الرسائل تعتذر بن عامي عن إساءة إلى درويش، لكنها لا تفصح إن كانت بعد الذهاب إلى الجيش أم لا. أمّا درويش، فكتب لها ردّين، بالعبرية، واحد غزلي، والآخر عتاب، بعد أن انتهت العلاقة أو أوشكت على الانتهاء،[43] وهما رسالتان غير مؤرختين. وقد أشار درويش، على نحو تهكّمي وفي أكثر من موضع، كيف انتهت العلاقة،[44] كما أقر بأن حبيبته الأولى كانت يهودية،[45] موجهاً إليها نقداً لاذعاً بعد خروجه من فلسطين.[46] لكن ذلك، على أهميته البيوغرافية، ليس إلّا مؤشراً إلى نضج الوعي بالمفارقات الشخصية التي قد ينتجها الشرط الفلسطيني العام.
أمّا الحزب، فلا تعكس سيرة درويش فيه محض انتماء سياسي موقّت، بل تشير إلى مستويات مركّبة من فهم الصراع العربي – الصهيوني، وكان درويش قد انتقل بالتدريج، من قراءة الشعر إلى كتابته، حين تم استقطابه إلى شبيبة الحزب الشيوعي. [47] وبعد قليل من "التدريب" الكتابي خارج الشعر، اشتغل درويش في جريدة "المرصاد" التابعة لـ "جماعة حزب مبام" (الحاكم في حينه)، لكنهم طروده بعد أن كتب مقالاً "لم يعجب الحكومة"، فوظّفه إميل حبيبي في جريدة "الاتحاد"، وصار عضواً في الحزب.[48] غير أن درويش "لم يكن شيوعياً أيديولوجياً"،[49] على الرغم من تقديره لدفاع الحزب الشيوعي، جزئياً، عن العرب في فلسطين المحتلة منذ سنة 1948.
سكن درويش في بيت زكي البحري أحد مؤسسي "جماعة الأرض"، والذي كان ملتقى ناشطي اليسار في حيفا من حركة الأرض، والحزب الشيوعي، والفهود السود، وجماعة "متسبين" (البوصلة)، وقد نشط هؤلاء، سياسياً وثقافياً، ونشروا، بأسماء حقيقية أو مستعارة، في منابر، مثل: "اليوم"؛ "الاتحاد"؛ "الغد"؛ "الجديد"؛ "المرصاد".[50] ولذا، استهدف الصهيونيون البيت: مراقبة، واعتقالاً، وإقامة جبرية، إذ: توالت اعتقالات درويش في السنوات 1961، 1965، 1966، 1967، 1969؛ وخضع للإقامة الجبرية المتجددة كل ستة أشهر، مع ضرورة إثبات الوجود في مركز الشرطة في حيفا؛ وخالف تلك الأوامر بالذهاب إلى القدس، من دون تصريح، وعوقب بالسجن لثلاثة أسابيع.[51] وفي تلك الفترة، جرّب درويش الاختفاء، وقام بتحرير جريدة "الاتحاد" وحيداً من مخبئه، إلى أن تم اعتقاله.[52] ويذكر درويش أن "المناسبة الوحيدة للحصول على إذن بالحركة هي الموت."[53] ولعل في هذا كله ما يؤكد أن درويش لم يكن مقتنعاً تماماً بالحزب سياسياً، وتحديداً النضال لاسترجاع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
وتكرّست في السجن هذه العلاقة المربكة بالحزب، لكنها فتحت أمام درويش آفاقاً أرحب في النضال. فقد وردته، مثلاً، رسائل من راشد حسين خلال الفترة 1965 - 1967، تتضمن إشارات بشأن نشاط الشيوعيين، وفكرتهم عن الصراع في حينه؛ كما أرسل إليه كتاباً من جيمس بالدوين، مؤكداً أن فيه "الكثير ممّا كنا نريد أن نقوله عن الاضطهاد ولم نقله بعد."[54] وكانت العلاقات بين المثقفين الفلسطينيين ونظرائهم في العالم تتعزز، وخصوصاً مع "الفهود السود" الذين وثَّقَت العلاقةَ بهم - بعد إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية واندلاع ثورة أيار / مايو 1968 في فرنسا - مساهماتُ جان جينيه، وجيل دولوز، وفليكس غتاري، وإيلان هاليفي. أمّا على المستوى الحزبي، فيتندّر حسين على قيم درويش في العمل الزراعي على أرض سجن معسياهو؛[55] ويخبره بالانقسام الذي حدث في صفوف الحزب الشيوعي في سنة 1965، وقد حمل بعض رسائل حسين من منفاه في نيويورك عتاباً مرّاً لدرويش لأنه لا يرد على الرسائل، الأمر الذي أبدى درويش ما يشي بالندم عليه لاحقاً.[56] أمّا رسائل سميح القاسم في صيف سنة 1965، فاقتصرت على جوانب ثقافية، وتناقضات الحزب الشيوعي.
تعكس أدبيات المنتسبين إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي من فلسطينيي "الداخل"، آنئذ، وعياً لافتاً بالأبعاد الطبقية والأممية للصراع مع الصهيونية والإمبريالية.[57] أمّا غسان كنفاني، فراسل درويش داعياً إياه إلى إرسال أشعاره وسيرته الذاتية للنشر في مجلد مترجم إلى الإنجليزية والفرنسية، ويضم شعراء آخرين وفنانين فلسطينيين.[58] وأشار درويش إلى أن كنفاني هو مَن أطلق تعبير "شعراء المقاومة" عليهم من دون أن يعلموا أنهم شعراء مقاومة،[59] إلّا إن درويش، وقد أدرك خطورة اللقب، مارس نوعين من المقاومة العارفة بالفرق بين "الشعر في الثورة" و"الثورة في الشعر": الأولى لمقتضيات اللقب، بألّا يكون "مراسلاً حربياً"، والأُخرى في الانخراط في المشروع التحرري من دون أن يصير مشروعه الجمالي ترجمة لمشروعه السياسي.[60] وقد أكّد درويش ضرورة "تجميل الشعر"، بعيداً عن الانتشار والعزلة، وذلك خلال الحديث عن زيارة فدوى طوقان لحيفا، بُعيد نكسة 1967، موضحاً "أن هنالك ما هو أسوأ من الشعر السياسي، [و]هو الإفراط في تعالي الشعر على السياسة."[61] ففي زمن الطوارىء العسكري، ارتبط "الجمالي" الشعري بـ "الضروري" السياسي، ولم يعد البحث عن "الشعر الصافي" إحدى مهمات "شعراء المقاومة"؛ أي أن التغلب على التوتر بين "الجمال" و"الضروري" كان هو المهمة الأصعب، كي يتمكن الشعراء من تحويل الواقع العيني الذي لا جمال فيه، إلى واقع مجازي هو وطن الجماليات الذي لا وطن غيره.
وأتاحت تلك الترجمات لثوريين عالميين الاطلاع على نتاجات الفلسطينيين واستبطان أصواتهم في معارك نضالية مشابهة، فقد تداول أبناء حركة "الفهود السود" قصيدة "عدو الشمس" لسميح القاسم، على أنها قصيدة للزعيم الأسود جورج جاكسون.[62] كما أن قصائد غير منشورة لدرويش، كقصيدة "رقصة أفريقية"، في "دفتر معسياهو"، تحيل إلى تلك العلاقة مع نضال السود ضد نظام التمييز العنصري في الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن قصائد أُخرى وُجدت على طاولة الزعيم الأميركي الأسود مالكوم إكس. وعلى الرغم من قسوة هذه المطحنة السياسية - الثقافية، فإن "فكرة" درويش كانت واضحة فيما يتعلق بالنضال الوطني، على عدة مستويات: سياسياً، للدفاع عن حقّ تقرير المصير؛ ثقافياً، للدفاع عن الذاكرة؛ ثورياً، للدفاع عن الحاضنة الأصلانية للسياسي والثقافي في آن معاً.
سياسياً، لم يرَ درويش في الحزب الشيوعي (راكاح) أكثر من إطار ذي ممارسة تقدمية في مسائل الحياة اليومية، لكنه كان قاصراً عن التعامل مع الحقوق السياسية للأقلية العربية في دولة تسعى لأن تكون يهودية، وارتباط تلك الأقلية بامتدادها الوطني الفلسطيني ومشروعه السياسي، وما يلزم لإنجاح هذا المشروع من استخدام لأدوات العنف الثوري. أمّا ثقافياً، فقد انتقد درويش القراءة الأمنية - الاستشراقية التي مارسها الصهيونيون تجاه الفلسطيني من باب "اِعرف عدوّك"،[63] وقرأ الصهيونية بصفتها مشروعاً استعمارياً على مستويَي الذاكرة والتاريخ، وخاض في موازاة تلك القراءة في المخيال الصهيوني،[64] سجالاً مع أبرز سدنة فلسفة "التعايش"، من أمثال مارتن بوبر، بشأن طبيعة المشروع الصهيوني، وأساطيره المؤسسة عن: الأرض، والشعب، والحكاية. وهكذا، حين أيقن درويش أن لا متسع له، ولا لأي طرح ثوري، في اللحظة الإسرائيلية وحاضناتها السياسية والثقافية، كانت اللحظة الفلسطينية تبلغ أقصى مراحل نضجها بإعلان الميثاق الوطني الفلسطيني في سنة 1968، في حاضنة منظمة التحرير الفلسطينية.
3 - ترحال الشاعر بين فلسطين والشتات
في صيف سنة 1968، سافر درويش إلى العاصمة البلغارية صوفيا، برفقة سميح القاسم، للمشاركة في "مهرجان الشباب العالمي" الذي ضم مشاركين "إسرائيليين" وفلسطينيين من الشتات، وأثار ضجة في العالم العربي حين راجت شائعة بأنهما رفعا العلم الإسرائيلي، أو جلسا خلفه.[65] وكانت "لحظة صوفيا" لحظة فارقة في التحول نحو الحاضنة السياسية الجديدة لدرويش. إذ بينما كان الفرح يغمره للقاء أشقائه العرب، كان "التوتر"، لا في هويته، بل بين "جوهره الفلسطيني" و"وضعه القانوني الإسرائيلي" قد بلغ أقصاه. فمثلما حكم أمن المطارات الفرنسي على درويش بأنه: "غامض"، لأنه ولد في فلسطين (وطنياً)، ويعيش في إسرائيل (قانونياً)،[66] كان المشاركون العرب والفلسطينيون يطلبون منه التنازل عن جواز سفره لتكتمل فلسطينيته، ويتبدد "غموضه".[67] ومن "الطرائف" المتداولة عن ذلك المؤتمر،[68] وعن الرفض لمجرد وجود مَن يحمل الجنسية الإسرائيلية بغضّ النظر عمّن هو، أن أحد أعضاء حزب البعث العربي السوري، وهو فيصل حوراني، فُصل من الحزب حين علمت قيادته أنه صافح "إسرائيلياً" هو درويش!
رجع درويش إلى فلسطين، فسُجن وفُرضت عليه الإقامة الجبرية، قبل أن يغادر حيفا ثانية إلى موسكو في سنة 1970. فَتَحْتَ وطأة التناقض بين "هويته الفلسطينية" و"جنسيته الإسرائيلية"، وضغوط الواقع الاستعماري، كان الخروج خياراً "عملانياً" نحو شروط أفضل للعمل السياسي والثقافي. ويشير درويش إلى أن "هذا التأزم المستمر بين الجنسية والهوية" رافقه "نشوء حركة التحرر الوطني الفلسطيني"، ومزيد من التراجع في تعريف الحزب الشيوعي الكلاسيكي لـ "العرب في إسرائيل... على أنهم جزء من الشعب الفلسطيني الذي هو جزء من الأمة العربية"، إذ بعد مؤتمر الحزب في سنة 1969 "جرى تعديل على هذا النص، فاستُبدل بالوطنية الإسرائيلية... وأمام ثقل المعنى الملتبس لهذا النص [استقال وقرر] الانتماء إلى مشروع القومية العربية."[69] وعلى الرغم من صعوبة قرار المغادرة، فإن درويش قال إنها كانت للخروج من "قفص العدو".[70] حينئذ، سجّل درويش أول إشارة في مديح العنف الثوري الفلسطيني الذي من شأنه ردع العنف الاستعماري الصهيوني، ذلك بأن لا شيء سيُحدث تغييراً جوهراً في "إسرائيل ومجتمعها" مثل هزيمة عسكرية لها من الخارج.[71] لقد أحال النظام الصهيوني فلسطين كلها إلى سجن مادي، والحزب الشيوعي الإسرائيلي إلى سجن سياسي، وأحال الانتقادُ الطوباوي، العربي والفلسطيني، مقاومةَ هذين السجنَين على أرض فلسطين إلى سجن جمالي... فكان خيار درويش حرية بجميع المعايير، لا انهزاماً ولا هروباً.
أقام درويش سنة في موسكو طالباً في معهد العلوم الاجتماعية حيث رُتّب له لقاء مع الزعيم جمال عبد الناصر الذي وصل إلى موسكو في زيارة سرية، لكن درويش تردد في قبول الدعوة على أن يلبّيها في القاهرة. وبعد رحيل عبد الناصر في 28 أيلول / سبتمبر 1970، أدرك درويش "يُتْم المشروع القومي العربي"، و"يُتْمه الشخصي". بعدئذ، جددت مصر دعوتها إلى درويش، فسافر في سنة 1971 إلى القاهرة حيث عُيّن مستشاراً في إذاعة "صوت العرب"، وعمل في "مركز الأهرام للدراسات" ومجلة "الطليعة".[72] هناك، أطلق درويش مقولته: "غيرت موقعي ولم أغير موقفي... كان عليّ التحليق في سماء أُخرى، في سماء المشروع النهضوي العربي الذي هو أوسع من مشروع حقّي بصدد فلسطين، وحيفا وتل أبيب."[73] لكن هذا التحليق، مثلما يصفه درويش، لم يدم أكثر من عام، إذ إن "حلم مصر الناصرية" تحول إلى "كابوس ساداتي".[74] أمّا الفصل المتعلق بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن، فبقي ضمن المسكوت عنه في كتابات درويش كلها، اللهم ما يُفهم ضمناً في ديوان "ورد أقل".
III - الثورة: 1974 - 1987
"الثورة"، كعتبة بين "الفكرة الكبيرة" التي أُنجزت صيغةً، و"الدولة الصغيرة" التي لم تتحقق عياناً، كانت واسعة في تجريبها لوسائل التحرير التي كان الكفاح المسلح ذروة سنامها، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، أقرب الساحات إلى فلسطين. وقد تراوحت إزاحات درويش المكانية في الفترة 1974 - 1987 بين بيروت ودمشق وباريس وتونس، لكنه سياسياً تحوّل من مشتغل بالحقل الثقافي في مؤسسات منظمة التحرير إلى راسم لسياساتها، وخصوصاً بعد انضمامه إلى المجلس الوطني، والمجلس المركزي، ومتأخراً إلى اللجنة التنفيذية. أمّا جمالياً، فخاض معارك متوالية بشأن تعريف فلسطين، وكيفية الكتابة لها. وبين الحبر والدم، عاش درويش معاودة تعريف العدو في بيروت؛ وكوكبة تعريفه في باريس؛ والترحال نحو حل ممكن معه في تونس.
مع نهاية سنة 1973، أيقن درويش أن المشروع الثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية كان البديل الأكثر عقلانية وعملية للمشروع القومي المهزوم، فاندفع "من المركز الثقافي القاهري" إلى "الهامش الذي هو بيروت"، الذي لم يكن هانوي تماماً، ولا بالضرورة سايغون، لكنه احتضن "الحالة الثورية [و]الأدوات الثورية."[75] بكلمات أُخرى، تمكّن العنف الثوري من أن يحقق تحوّلاً لافتاً من فردية "المرتينة" إلى جمعية "البندقية" في إطار منظمة التحرير الفلسطينية التي شكلت نموذجاً لافتاً في حركات التحرر، وهتفت لها القوى الثورية في العالم.[76] وكان ذلك بفضل وضوح الرؤيا السياسية للفكرة الفلسطينية مثلما تجلّت في الميثاق الوطني الفلسطيني في سنة 1968، إلى طبيعة الصراع مع الحركة الصهيونية وامتدادها الإمبريالي العالمي، وطبيعة الدولة الديمقراطية وغير الحصرية، والانسجام القانوني بين أدوات التحرير وغايته المنشودة في تقرير المصير.
كانت بيروت على شفير الانفجار، وكان لدرويش أن يساهم في بلورة هذا الوعي الوطني من خلال عمله في مجلة "شؤون فلسطينية"، ومركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، والاتحاد العام للكتّاب والصحافيين الفلسطينيين، وكتاباته في جريدة "المحرر"، وأخيراً إصداره مجلة "الكرمل" في بيروت منذ سنة 1981.[77] وقد أتاحت هذه المنابر لدرويش فرصة صوغ بعض القرارات السياسية الحاسمة لمنظمة التحرير الفلسطينية التي أصبح عضواً في مجلسَيها الوطني والمركزي، ثم عضواً في لجنتها التنفيذية.[78] إلّا إن سنتَي 1972 و1973 شهدتا تصاعد حرب الاغتيالات الصهيونية لقيادات منظمة التحرير الفلسطينية، وخصوصاً من مثقفي الحركة الوطنية الفلسطينية من رفاق درويش، كغسان كنفاني وكمال ناصر.
وفي تشرين الأول / أكتوبر 1973، كان النصر الأول للعرب على إسرائيل،[79] بتحرير سيناء. وتعقيباً على هذه الحرب، يضيء درويش على مفارقة عودة إسرائيل إلى لغة الموت والنصر الانتحاري وخرافة التوحّد في مساده، وذهاب العرب إلى ولادة جديدة تحقق فيها نصر الحقّ على باطل القوة التي لا يتقن العدو لغة سواها، وقد أنسته الانتصارات الرخيصة اللغات كافة.[80] وصف درويش لحظة النصر على العدو وعلى الذات في آن معاً، لكن الصهيونيين لم يتعلموا من أخطائهم الانتحارية، فشعب الأنبياء والكوارث، يُحسن بناء الجدران، وأبراج المراقبة، وينسى فتحة الطوارىء، فتحل به الهزيمة، ولا يتعلم من أخطائه من "طور سيناء" حتى "أوشفيتس".[81] وفي هذا السياق، غمز درويش من قناة "أصحاب الأناقة الفكرية"، وهم المثقفون العرب الذين تحدثوا في المعركة عن غير المعركة،[82] كما أكد وحدة الهدف للمقاومة التي أعلنتها الثورة الفلسطينية، ونزعة التحرر التي أثبتت حرب تشرين التي خاضها العرب جدوى تحقق غاياتها، إذ تزداد فلسطين قرباً لا بعداً مع كل طلقة توجَّه إلى كيان العدو.
كانت هذه اللحظة حافلة بالتحققات السياسية لبعض أهداف الثورة الفلسطينية، على المستويات الفلسطينية، والعربية، والدولية، إذ: أقرّ المجلس الوطني الفلسطيني (في القاهرة 1 - 8 حزيران / يونيو 1974)، البرنامجَ المرحلي للسلطة (برنامج النقاط العشر)، والذي يتيح إقامة الدولة الفلسطينية على أي جزء يتم تحريره من فلسطين المحتلة؛ جرى الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني (الرباط، 26 - 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1974)؛ اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية (نيويورك، 14 تشرين الأول / أكتوبر 1974)؛ ألقى الرئيس ياسر عرفات خطاب "البندقية وغصن الزيتون" في الأمم المتحدة (نيويورك، 13 تشرين الثاني / نوفمبر 1974)، والذي كان درويش من ضمن المشاركين في صوغه؛[83] أقرّت الأمم المتحدة بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني.
لكن هذه "الإنجازات" كان لها تبعات سياسية كبرى على مستقبل الثورة الفلسطينية، إذ تحولت حركة التحرر الوطني الفلسطيني من حركة نقيضة للحركة الصهيونية إلى نسخة عنها،[84] وذلك بتنازلها عن مشروع "الدولة الديمقراطية" - التعددي لمصلحة مشروع "السلطة الفلسطينية" - الحصري الذي جعلها حركة ساعية لتأسيس دولة على جزء من فلسطين التاريخية لا يشكل العنصر اليهودي العربي أحد مكوناتها الديموغرافية أو الثقافية من ناحية، وتَرْكها من ناحية ثانية، الساحة للحركة الصهيونية وكيانها الاستيطاني القائم كي يتولّيا المسؤولية: عن يهود العالم، بمَن فيهم اليهود العرب، واليهود الأصلانيون "حتى بدء الغزو الصهيوني"، والذين عرّفهم الميثاق الوطني الفلسطيني في سنة 1968 بأنهم فلسطينيون أيضاً. وبالتالي، تحوّل هدف مشروع "الثورة"، وبدأت "الفكرة الكبيرة" تتحول إلى "دولة أصغر" منذ سنة 1974، حتى إعلان وثيقة الاستقلال في سنة 1988. أمّا توقيع اتفاق أوسلو، في سنة 1994، وتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني في غزة في سنة 1996، فلم يكونا إلّا من باب تحصيل الحاصل فيما يتعلق بنهاية مشروع الدولة الديمقراطية. ومع بداية الحرب الأهلية اللبنانية في 13 نيسان / أبريل 1975، تركزت اهتمامات درويش على: كوكبة النصر والهزيمة في الحرب الأهلية؛ معاودة الاجتياح والخروج الفلسطيني؛ الترحال وانتفاضة الحجارة.
1 - كوكبة النصر والهزيمة في الحرب الأهلية
كان درويش على قناعة بأن الفلسطينيين لم يبدأوا الحرب الأهلية في لبنان، وإنما وجدوا أنفسهم في "حالة دفاع عن النفس تحولت إلى حرب"،[85] إذ أراد حلفاء منظمة التحرير الفلسطينية، من الحركة الوطنية اللبنانية، الوصول إلى السلطة، وكان دخول المنظمة في هذه الحرب يعني "تحويل النظام اللبناني". عندها، وجد الفلسطينيون أنفسهم في حربٍ تبعات الانتصار فيها توازي تبعات الهزيمة، وصار مجرد الوجود الفلسطيني في لبنان، لا "الانتصار"، خطراً عليهم. ولذا، لم يتردد درويش، بسخريته اللاذعة، في القول إن خروج الثورة الفلسطينية من بيروت كان خدمة قدّمها شارون للعرب، إذ أنقذ الفلسطينيين من مستقبل سياسي مضطرب لمشروعهم الوطني،[86] كما أنه شكّ في إمكان اندلاع انتفاضة الحجارة لو كان للفلسطينيين عاصمة سياسية في بيروت.
لقد كانت الحرب الأهلية اللبنانية امتحان جدارة بالحفاظ على "طهارة المشروع الثوري"، وهو امتحان لم ينجح الفلسطينيون فيه تماماً، لكنهم لم يفشلوا. وقد ركّز درويش نقده على كارثة تل الزعتر في سنة 1976، مؤكداً أن النسيان ربما يليق بأي شيء سوى تل الزعتر الذي قلب موازين النصر والهزيمة وتعريف البطولة، لا من حيث قدرة الفلسطينيين على الصمود في وجه عدو لا وجه له، ولا من حيث إيقاع خسائر في صفوفه لم يكن يريدها... وإنما بالتكلفة المتساوية للنصر والهزيمة في الحرب الأهلية.[87] ونتج من ذلك "الحياد" الانتصاري - الهزائمي مفهمة جديدة للبطولة حين لم يعد الشاعر ولا السياسي قادرَين على "حماية النص من الانفجار"، إذ صار الفلسطيني وبطولته موضوعاً للمخاتلة: من أعدائه، وبعض أعداء أعدائه، ومن البطولة نفسها، قولاً وفعلاً.
في هذه الأجواء الدموية، توالت الأخبار عن أول "اتفاقية سلام في المنطقة" بين مصر وإسرائيل خلال الفترة 1978 – 1979، والتي انتقدها درويش لما ألحقته من أذى بالمشروعين التحرري الفلسطيني والقومي العربي،[88] فقد كان السادات نموذجاً لـ "عرب أميركا" الذين لم يتركوا شيئاً إلّا قدّموه في مسرح الرسميات العربية المنهار. ووصف درويش زيارة السادات للقدس بأنها الهزيمة العربية الثالثة (بعد سنتَي 1948 و1967)، وأخطر من وعد بلفور، ورأى في اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل انتصاراً مجانياً لها، وخطراً يتجاوز شرعنة احتلالها لفلسطين، ويتمثل في أمرين: إحداث ثغرة "في الوجدان القومي العربي يصبح الاعتراف بالكيان الصهيوني فيه شأناً قابلاً للاجتهاد"، وجعل "الصهيونية إمكانية عربية"، من ناحية؛ وفتح الباب على انعزالية عربية بخروج مصر من معركة الأمة ضد المشروع الاستعماري الصهيوني عبر زرع الجنين الصهيوني في مناطق ضعف الجسد العربي، من ناحية أُخرى.[89] وقد صبّ درويش جام غضبه على سياسات السادات الداخلية، وجمعه لمجلس الشعب المصري في القاهرة للمصادقة على المعاهدة المشؤومة، غير عارف أن ذلك سيتكرر فلسطينياً، بعد عقد ونصف عقد، في غزة.
لكن هجاء درويش للحظة العربية، في نموذجها الساداتي، لم يكن إلّا مقدمة لـ "وصف حالتنا" العربية قُبيل الحرب الإسرائيلية على لبنان بدءاً من عملية الليطاني في سنة 1978 حتى اجتياح بيروت في سنة 1982. وقد التقى في تلك اللحظة شره القوة الإسبارطية لدى إسرائيل، مع أجندات الرجعية العربية بطابعها "الصحراوي المملوكي الفاشي"، ومباركة الإمبريالية العالمية ودعمها... لتحجيم الثورة الفلسطينية وإخراجها من لبنان.[90] وهنا، أطلق درويش صرخته الشهيرة: "أنا لا أريد دعاءكمْ. أنا لا أريد سيوفكمْ. فدعاؤكم ملحٌ على عطشي. وسيفكمُ عليّ."[91]
2 - معاودة الاجتياح والخروج الفلسطيني
كانت حرب سنة 1982 مواجهة للفلسطيني مع نفسه ومع عدوه في آن معاً، إذ كان على درويش إعادة الأسئلة التي عزّت إجاباتها: هل بيروت "جدار ليس له"، أم هي جدار العرب؟ وما هو دور الكتابة في الحرب، وليس بالضرورة دور الكاتب؟ وأي أرض ستكون حاضنة للثورة الفلسطينية بعد أن غادرت عمّان (هانوي العرب)، وبيروت (التي لم تكن هانوي ولا سايغون)؟ في "ذاكرة للنسيان"، يطيل درويش مشاهد الوصف، كأنه يخشى الإجابة عن هذه الأسئلة، فيؤجلها مثلما أجّل الانتحار... لكنه يتلهى بوصف سياسات الحياة والموت، وهو يجيب على الأسئلة: سؤال الكتابة، وسؤال لبنان، وسؤال الثورة.
ولأن درويش يعرف أن "عين الكاتب سلبية، كما أن أذن القائد سلبية"،[92] فإنه أجّل الكتابة إلى أن تنتهي الحرب، وأعلن أنه سيؤجل البحث في جدوى القصيدة، لأن "على اللغة ألّا تزّج بنفسها في معركة أصوات غير متكافئة"[93] مع المدافع، وأن دور الشاعر، في الحرب، يكون خارج القصيدة: مع المواطنين والمقاتلين لتعزيز الصمود والبقاء، حيث "تنكة الماء تساوي وادي عبقر."[94] لم يشأ درويش أن يكون "مراسلاً حربياً"،[95] وإنما قال بوجوب منح "الفاعلية الإنسانية" أولوية على "الفاعلية الجمالية". حينها كان درويش قادراً على تعرية أوهام المثقفين المتناقضة: فلا "نشرة "المعركة" ستحدد مصير المعركة"،[96] ولا شعار "إنقاذ بيروت"، أي استسلامها، سيحيلها من "عاصمة الأمل العربي" إلى "مساده عربية منقولة عن الذاهبين إلى انتحارهم في أوج انتصارهم."[97] وبذا، كان "معنى بيروت" بالنسبة إلى درويش، يتحدد في بلاغة اللحظة التي يسطّرها "شعراؤها الحقيقيون" الذين لا يكتبون القصائد، بل يحرسون الحلم البسيط بالعيش بكرامة ككل البشر على أرض البشر،[98] ويدافعون عن البقاء: بقاء بيروت، وبقاء أهلها... أمّا الكتابة، فستحتاج إلى وقت طويل لتجد معادلاً موضوعياً لذلك الواقع البطولي.
قد تكون فورة الشعر التسجيلي ورّطت درويش بالقول: "وحدي أدافع عن جدار ليس لي، وحدي أدافع عن هواء ليس لي. وحدي على سطح المدينة واقف"،[99] لكن تريُّث النثر جعله يعيد التأمل في بيروت - "خيمة" الفلسطيني، و"قلعته"، و"دمعته"، و"قصته"، و"غصته"، و"اختبار الله"، و"معبد معانيه". فعلى الرغم من اعترافه بأننا "لم ولن نفهم لبنان [إذ] لا أحد يفهم لبنان، لا أصحابه المجازيون ولا صنّاعه، لا مدمّروه ولا بُناته، لا حلفاؤه ولا أصدقاؤه، لا الداخلون ولا الخارجون..."،[100] فإن درويش لم يرَ في لبنان غير اللغة التي تعزز "غريزة الوجود" مستلهمة الخطاب الناصري الذي أراد للمشروع القومي العربي أن يتجاوز جُزُر الطائفية، والإقليمية، والاستزلام... وحروب الوكالة للمستعمرين القدامى، والغزاة الجدد.
لذا، أصرّ درويش على "ألّا نرى من لبنان غير ما رأيناه من صناعة الأمل"[101] نحو فلسطين بين "بيروت وبيروت المضادة"،[102] والتي توحّد وجهة القلوب في الوطن الممتد من المحيط إلى الخليج. وبهذا الفهم لـ "فكرة فلسطين" و"تركيب لبنان"، استطاع درويش أن يتجاوز، من دون أن ينسى أو يغفر، مشاهد التواطؤ التي استطاعت أن تنأى بلبنان إلى "أقصى غابات العنصرية"، لترى أن الحرب لا تدور بين "جيش لبنان وجيش فلسطين" فحسب، بل إنها حرب ضد شعب بأسره أيضاً.[103] وربما أراد درويش لهذه الذاكرة تحديداً أن تذهب إلى النسيان، لكنه كان يرغب في تخليد مديحه لمَن كانوا يحمون النشيد ببنادقهم، من اللبنانيين - الفلسطينيين والفلسطينيين - اللبنانيين وأنصارهم.
قبالة هذا التأمل للحرب على لبنان وعلى الثورة الفلسطينية، لم ينزّه درويش القيادة الفلسطينية عن الأخطاء، وإنما أكد أن "المحاكمة التي تستحقها الثورة" هي خلوّها من المحاكمات،[104] لكنه لم يُخفِ إعجابه بياسر عرفات الذي مع أنه كان محاصراً في بيروت، إلّا إنه يُحسن التلاعب بمشاعر مناحم بيغن في تل أبيب.[105] فالقائد يعرف أهمية توجيه الرسائل عبر البريد العاجل، وكان حريصاً على وجود أوري أفنيري الذي قدم من الأشرفية لرؤية عرفات خلال لقائه مندوبي الصحافة العالمية، كما كان حريصاً بعفويته الثورية الحاسمة، على أن "يمرّغ بيغن في مزيد من الجنون"، حين سأله الصحافي إلى أين سيذهب، حين يخرج من بيروت، فأجاب بلا تردد: "إلى بلادي. سأذهب إلى القدس."[106] ويتمم درويش المهمة، حين يسأله الصحافي أين ذهبت كوفيّة أبو عمار الشهيرة، وكان يرتدي القبعة العسكرية لأنه يحارب، فيجيب درويش: إنها "في كل مكان".
لقد أعلن درويش أن "مَن لا بحر له، لا بَرّ له"،[107] إذ أحس بـ "قدر إغريقي يتربص بأبطال صغار"،[108] لكن ذلك الإحساس، حصرياً، هو الذي دفعه إلى أن يعيد مفهمة البطولة قُبيل خروج الثورة الفلسطينية من بيروت إلى تونس. كان درويش على ثقة بأن مَن راهنوا على انكسار البطل الفلسطيني، عربياً، لن يدفعوا بالبطل إلى الضجر من دوره؛[109] لكنه لم يكن فرحاً بمَن راهنوا، إسرائيلياً، على إمكان سرقة دور الضحية من البطل الفلسطيني (الذي انتصروا عليه عسكرياً).[110] فوجود عشرات الآلاف من الرافضين للحرب (والخائفين على أن يفقد المنتصر هوية الضحية) في ميادين تل أبيب، كان يعني انقلاب "ميزان العدالة الرملي"، وهو أمر لا تقبله ذاكرة المغلوبين، وإن قَبِله تاريخ المنتصرين المروّجين لخرافة التفوق الأخلاقي للمجتمع الإسرائيلي بين العرب، وغيرهم من الصامتين في العالم.
لم يكن درويش متواضعاً عندما وصف هول الخروج من بيروت، بالتراجيديا الإغريقية أو بـ "السبي الرابع"،[111] وإنما أكد أن وصف الحالة الفلسطينية يضيف إلى الميثولوجيا أكثر ممّا يقتبس منها، ذلك بأن ما أصاب الفلسطينيين كان "خلاصة كل نماذج العذاب."[112] لكن تقييمه لقرار القيادة الفلسطينية الخروج من بيروت،[113] اتسم بمديح أخلاقيتها اللافتة: فقد كان الانتصار مستحيلاً؛ وكان على صاحب أي ضمير وطني أن يكون على قدر عالٍ من الإنسانية بتفضيل "الانسحاب" على الموت الجماعي، وإن كان في ذلك اعترافاً بالغ التكلفة بموازين القوى؛ فضلاً عن السبب الأكثر أخلاقية بعدم تحويل بيروت إلى أندلس فلسطينية.[114]
وعلى الرغم من معارضة درويش رحلة "الاستدراج" إلى طرابلس، عاطفياً وسياسياً، فإنه أدرك أنه كان على عرفات القيام بعدة مهمات، بعيداً عن جماليات البلاغة في وصف "نحلة الفكرة" التي "تُبدع خليتها على أية زهرة ممكنة"، مع أنها محرومة من البر والبحر.[115] كان عليه: أن يفكر فيما بعد قرطاج، لا فيما بعد بيروت وطرابلس؛ أن يعلّي صرخته، في التراجيديا الإغريقية - الفلسطينية لتتغير النتيجة بعد أن ينقضّ الجمهور على الممثلين "الذين انحصرت أدوارهم الثورية والقومية والوطنية والشخصية في هدف واحد هو: ذبح الروح الفلسطينية"؛ أن يطرد الجامعة العربية من إطاره، وأن يعيدها متى شاء؛ أن يحافظ على القرار الفلسطيني المستقل على الرغم من تكالب الأميركيين، والإسرائيليين، وبعض العرب... على الفلسطيني وقراره، من أجل "الانتقام من بطولة بيروت"؛ أن يحافظ على أسلحة الشرعية الشعبية والمؤسساتية والدولية مهما تتآكل بقية الأسلحة؛ أن يؤكد حرمة الدم الفلسطيني وأن مَن يسفكه تحل به وببلده اللعنة.
لم يخرج درويش مع المقاتلين من بيروت، لأنه لم يكن قائداً ولا مقاتلاً، بل كان شاعراً.[116] لم يكن يعتقد أن الإسرائيليين سيدخلون إلى بيروت حتى وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا، وأيقن أن البقاء هناك نوع من العبث، وخصوصاً بعد أن جاءت القوات الصهيونية أكثر من مرة للبحث عنه، واضطر إلى الاختفاء بعد أن أدرك أنه لم يكن "شاعراً فقط".[117] بعدئذ، غادر بيروت، بالتعاون مع ضابط في الجيش اللبناني،[118] وقد رتّب له السفير الليبي خروجاً "آمناً" عن طريق الأشرفية إلى طرابلس. وعلى خطى المقاتلين الفلسطينيين الذين غادروا بيروت من دون أن يُسمح لهم بحمل حتى حقيبة، بقرار من الرئيس عرفات كي يقولوا للعالم "نحن نخرج من بيروت ولا نحمل معنا شيئاً إلّا ما تبقّى من دمنا، ولسنا كالآخرين"،[119] ترك درويش لوحاته وكتبه، ولم يحمل معه إلّا دفتر ملاحظاته، قبل أن يكتب "يا أهل لبنان الوداعا"،[120] ووصل إلى دمشق، وأقام فيها أسبوعاً قبل المغادرة إلى تونس حيث التقى الرئيس عرفات الذي حثّه على إصدار مجلة "الكرمل" حيثما يريد.[121] اختار نيقوسيا، وذهب إليها لترتيب شؤون ترخيص المجلة، قبل أن يسافر إلى باريس ويقيم فيها نحو عشرة أعوام، كان يزور خلالها تونس ليكون قريباً من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وغيرها من مدن العالم لاعتبارات ثقافية، إلى حين "مجيئه" إلى فلسطين في سنة 1995.
كانت مذبحة صبرا وشاتيلاً التعبير الأكثر دموية للتحالفات المعلنة وغير المعلنة بين طائرات الصهيونيين ومدافع بعض العرب وحرابهم (ومرتزقتهم الفلسطينيين) للإجهاز على الفكرة الفلسطينية وحامليها، بغطاء صمت عالمي، كان فيما يتعلق بأميركا، تواطؤاً تاماً مع القتلة. وقد سمّى درويش هؤلاء على نحو واضح ابتداء من تل الزعتر، ومروراً بصبرا وشاتيلا وحرب المخيمات، وانتهاء بمصير العملاء بعد تحرير الجنوب. حينها، أعاد درويش التأمل في عدة قضايا للإجابة عن سؤال: ماذا جرى للعرب؟ "القومية العربية، الأمة العربية، الوحدة العربية، فكرة التطبيق العربي البائس للاشتراكية."[122] كان على "الزمن الفلسطيني" أن يواجه "اللحظة المريضة" للرسميات العربية التي سعت، عبر نسخة رديئة من الفكر الواقعي الذي يقبل بالأمر الواقع ولا يفهمه بغية تغييره، للاحتفاظ بقوة الحرب وقوة السلام من خلال علاقتها الإشكالية بمنظمة التحرير الفلسطينية.[123] فمنذ سنة 1967، كانت هذه الأنظمة تخشى زعزعة "سلامها" الداخلي مع شعوبها، و"سلامها" الخارجي مع إسرائيل وأميركا، وذلك هو الخطر الذي شكّلته الثورة الفلسطينية التي كان مشروعها مثالاً نافياً لنكوص الرسمية العربية.
بعد مغادرة بيروت، صاغ درويش أكثر مواقفه جذرية من الصهيونية وإسرائيل، وذلك بالتفريق بين "الرسالة الفلسطينية" القائمة على رغبة التحرر والاستيعاب الإنساني، مثلما تجلّت في مقترح "الدولة الديمقراطية"، وبين "الرسالة الإسرائيلية" القائمة على الاستعمار والانغلاق نحو الآخر الإنساني، كما تجلّت في حصرية "دولة اليهود".[124] وبذا، تحددت موقعية الفلسطيني والإسرائيلي من قضايا: الضحية، والنصر والهزيمة، فقد دحض درويش مقولة أن تحوُّل الضحية إلى جلاد هو سبب الفظائع التي ارتُكبت في لبنان، بالقول إن الصهيونية لم تكن قط ضحية، وإنما مارست الجريمة مرتين: واحدة بالتطهير العرقي والقتل الفعلي الذي حصد مئات آلاف الفلسطينيين؛ وأُخرى بالقتل المعنوي لـ "روح الضحية اليهودية" في السياق الأوروبي بكل ما فيه من فاشية ونازية ولاساميّة، حين اقترفت الجريمة الأولى. وعليه، لم يعد في وسع الصهيونية ودولتها المجرمة أن تُواصلا سرقة دور الضحية واحتكاره، لا من الفلسطينيين - ضحيتها المستمرة، ولا من اليهود - الناجين الذين تدّعي أنها تنطق باسمهم وهي تخون ضميرهم الإنساني وأخلاقيات التعاطف مع مآسيهم السابقة.[125] ومع أن النضال ضد نزعات اللاسامية هو جبهة إنسانية، إلّا إن درويش يرى في ذلك شأناً فلسطينياً، وخصوصاً أن إسرائيل تصر على الخلط بين الإسرائيلي واليهودي والصهيوني، لتجعل من دفاع الضحية الفلسطينية عن نفسها جريمة بحقّ ناجين متعطشين للدم دفاعاً عن مشروع استعمارهم الاستيطاني في فلسطين.
حققت إسرائيل نصرها العسكري على وضع عربي مهترىء، أمّا الفلسطينيون فانتصروا، وبإمكانات متواضعة، على الانهيار العربي والصمت العالمي، وصمدوا في وجه العدوان الصهيوني، كما أنهم على الرغم من فداحة الخسائر البشرية والعسكرية، انتصروا بالبقاء.[126] وبين "فائض القوة" الذي تمثله قلعة الانتحارية الإسرائيلية، و"فائض الحقّ" الذي يمثله كوخ الصمود الفلسطيني، تبدد ضمير العالم، وتضامن العرب، وشرعية إسرائيل... وانتصرت فكرة الحرية الفلسطينية. ولعل الاستنتاج اللافت والأهم الذي توصّل إليه درويش، بين "موقعية" الفلسطيني من ثنائية الجلاد والضحية، و"موقعه" على ميزان النصر والهزيمة، هو أن الصهيونيين ضيّقوا "غيتو دولة اليهود" على أنفسهم، "وبرهنوا على أنهم غير جديرين بأي شيء، بأية إقامة آمنة على أية أرض."[127] وكان من شأن ذلك أن يعمّق القناعة بأن العلاقة بين الفلسطينيين والصهيونية هي علاقة مواجهة مستمرة، وأن "البحث عن صيغ للتعايش والاعترافات المتبادلة"، ليس إلّا عبثاً، وإلغاء للذات، وزرعاً للأوهام.[128] وذهب درويش إلى أبعد من ذلك، حين عرّى الجوهر الحصري للصهيونية، فكرة ومشروعاً، بالقول إنه لا يمكنها التعايش ليس مع الفلسطينيين فحسب، بل مع أي أحد في العالم أيضاً، ما دام الإسرائيليون يصرّون على قسمة العالم، مانوياً، إلى: اليهود وغير اليهود، وجعل العلاقة مع غير اليهود علاقة عداء سرمدي.
وفي الآن نفسه، كان درويش واضحاً في انتقاده للضمير العالمي الذي لم يكن في وسع قلبه أن يصحو مرتين في القرن العشرين، قاصداً إبادة اليهود من طرف الوحش النازي، ومجازر الصهيونية وإسرائيل بحقّ الفلسطينيين التي "لم تحوّل حاسة التعاطف إلى فاعلية الاعتراف بحقّ الضحية الفلسطينية أن تحيا وأن تتحرر."[129] وفي خضم هذا الغاب، العالمي والصهيوني وحتى العربي الذي لا يمكن تسميته، صرخ درويش مطالباً بـ "سبت" سلام للفلسطينيين، يشبه "سبت التاريخ" الذي طالب به موشيه هاس ليهود أوروبا، ومدافعاً عن حقّ الفلسطيني الذي صار "التائه الجديد"، في الدفاع عن نفسه في المخيمات والمنافي وفي كل مكان.
هنا، يؤكد درويش حقّ الضحية في قول قصتها، وحقّ "البطولة أن تتذكر هيكلها العظمي"، وحقّ الفلسطيني في أن يحلم في "ما بعد" ثالوث الرعب الصهيوني - العالمي - العربي.[130] فصبرا وشاتيلا (1: خلال الاجتياح؛ 2: في حرب المخيمات؛ 3: في فم الشبح)،[131] "اسمان للدم يتخذان هيئة السؤال - الجواب - الاتهام الشامل"، ولم يعد بعد هولهما متسع أمام أحد لأن يكون بريئاً: لا القائل، ولا القاتل، ولا الشاهد الصامت، ولا المتواطىء على القول والقتل والصمت. "جنونٌ أن تكون فلسطينياً"،[132] لكن العقلانية كلها تتجلى في إصرار الفلسطيني على الجنون، على فلسطينيته، على الحلم بوطن مثلما يحلم الآخرون منذ "إعلان القاتل الأول: إن فلسطين بلد بلا شعب، حتى إعلان القاتل ما قبل الأخير: إن الفلسطينيين شعب زائد" وما رافقه من تعقيبات للقاتل الأول "إن غير اليهود يقتلون غير اليهود، فما ذنب اليهود؟"[133] لم يكن أمام الفلسطيني، في نكبته المستمرة، إلّا الإصرار على "أن يكون فلسطينياً أكثر، فلسطينياً حتى الوطن والحرية، فلسطينياً حتى الموت، لأنه لا يملك خياراً آخر"،[134] ولا يملك إلّا رفض تحرير لبنان من فكرة فلسطين، وإبعاد فلسطين عن تركيب لبنان.
3 - الترحال وانتفاضة الحجارة في سنة 1987
صحيح أن "اللحظة العربية المريضة" هي التي أدت إلى خروج الثورة الفلسطينية من لبنان، لكن الأعوام الخمسة التي تلتها، حتى اندلاع انتفاضة الحجارة، كانت الزمن الأكثر اعتلالاً عربياً وإسرائيلياً. فقد صار هذا الزمن (العربي / الإسرائيلي) في لبنان وغيره، زمناً واحداً ضد الفلسطيني:[135] في "حرب المخيمات" التي شنّتها "أشباح لا تُسمّى" على الفلسطيني الذي يراد محو اسمه وذكره؛ أمّا خارج لبنان، فحاول بعض الرسميات العربية النيل من تمثيلية منظمة التحرير الفلسطينية، تارة بوكلاء فلسطينيين من داخل "البيت الفلسطيني" بعد أن صاروا خارجه، وأُخرى بتوفير مناخ ملائم للصهيونيين لاستكمال مشروعهم الاستعماري، لا في فلسطين فحسب، بل في تقسيم الجسد العربي أيضاً، بدعوى "الحياد" والـ "لا حرب ولا سلام".
غير أن الزمن الإسرائيلي، أيضاً، لم يكن عفيّاً، وكان درويش عارفاً باعتلال ذلك الزمن الذي "اصطدم [فيه] الوعي الإسرائيلي بالحقيقة الفلسطينية"،[136] في لحظة انتفاضة الحجارة في سنة 1987. وبالمقارنة مع العقليات الاستعمارية التقليدية،[137] ساجل درويش عدداً من المثقفين الإسرائيليين، فكان منهم: اليهودي العربي الذي لم تستطع بوتقة الصهر صهره، وظل واعياً بجُرمية الصهيونية بحقّ اللاجىء الفلسطيني و"اللاجىء اليهودي" (يوسي شيلواح)؛ والليبرالي "البريء من السياسة" الذي تعرّف إلى زمن الاحتلال الأصفر من خلال سياساته في الضفة الغربية وقطاع غزة (ديفيد غروسمان)؛ وآخرون رأوا أن الزمن الأجوف لا يعمل لمصلحة الصهيونيين (داليا رابيكوفتش؛ آسا كشير؛ عيدي تسيمح؛ يورمياهو يوفيل)؛ ومنهم مَن سخر من قدرة الصهيونية على تقمّص المنتصر، أكان جزءاً من تاريخه الغربي، أم ذاكرته المشرقية، فهي الغرب إن انتصر والشرق إن انتصر (يهودا عاميخاي)؛ ومنهم مَن لم يتمكن من استيعاب الصدمة بأن الفلسطينيين لا يحبون محتليهم، فأعلن أن البندقية هي لغة الحوار بينه وبين درويش (ناتان زاخ؛ عاموس كينان)؛ ومنهم مَن واصل الدفاع عن قداسة الجلاد وتأبيد الضحية اليهودية، موقظاً "لاسامية معكوسة" من خلال فهمه للتاريخ الإنساني بأنه تاريخ عدائي لليهود (إيلي فايزل). وعلى الرغم من المبالغة القليلة في تقدير كتابات بعضهم، فإن درويش كان يدرك أن انتقاد بعض هؤلاء الكتّاب للزمن الإسرائيلي والنظام الصهيوني، كان على مستوى فردي، ولم يتحول إلى وعي مجتمعي.
في هذه الأجواء، اندلعت انتفاضة الحجارة الفلسطينية في 9 كانون الأول / ديسمبر 1987، معلنة بداية زمن فلسطيني جديد يوحّد بطولة الخارج المنحسرة ببطولة الداخل الممتدة، بعد أن أرهصت بذلك عملية فدائية بطائرة شراعية في شمال فلسطين حملت مقولة واحدة: "الثورة لم تبتعد عن فلسطين". وجاءت الانتفاضة الشعبية حاملة "حجر الوعي" الذي زلزل ما وقَر في فهم العرب والإسرائيليين والعالم عن انطفاء جذوة الثورة.[138] وبذا، كان اندلاع الانتفاضة، من ناحية، رداً طبيعياً على الانكفاء العربي والقمع الصهيوني، وتعزيزاً لمركزية القضية الفلسطينية في الصراع، ومن ناحية أُخرى، فعلاً تطهّرياً على المستوى الفلسطيني.
وعلى الرغم من حماسة درويش لانتقال الثورة من الخارج إلى الداخل، فإن تعابير "تعديل" المشروع الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، بدأت تتسلل إلى خطابه. فقد حاول درويش التفريق بين "وطن" الفلسطينيين التاريخي الذي يعرفونه جيداً، و"دولة" فلسطينية ممكنة في حدود هذا الوطن، و"ذلك فارق فرضته قسوة هذا العالم، وموازين القوى الدولية والعربية التي لا تسلم المطالب الوطنية المرحلية من التأثر بها، مهما تصاعد التوتر بين الحقّ التاريخي والهدف المرحلي."[139] واعتبر درويش ذلك من أهم الحقائق التي ينبغي للوعي العالمي أن يستوعبها، ويتعامل معها مع "أن للفلسطينيين وطناً، واسم هذا الوطن فلسطين. وأن فلسطين هي الأرض التي أنشأ عليها الإسرائيليون دولتهم. وأنها الأرض نفسها وليست أرضاً أُخرى."[140] كما حثّ العالم أيضاً، ومن ضمنه الصهيونيون، إلى أن يبتكروا طرقاً جديدة تمكّنهم من الكفّ عن مطالبة الضحية الفلسطينية بتوفير شروط الحماية التاريخية لمستقبل جلادها، وإتاحة مجال في التاريخ لاستيعاب حقوق الفلسطينيين السياسية.
ووردت أوضح الإشارات إلى هذا التفريق الجوهري في حوار مع صحافي إسرائيلي بشأن السجال الهائل الذي أحدثته قصيدة "عابرون في كلام عابر"[141] التي كان درويش قد كتبها كردة فعل أولى على اندلاع انتفاضة الحجارة في سنة 1987. فدرويش لم يدرج القصيدة في أي من دواوينه، إلّا إنها وُصفت فيما بعد بأنها "تسجيلية"، وفُهم لاحقاً، وضمنياً، أنها كانت قصيدة "مليئة بالحجارة".[142] غير أن درويش في الحوار الصحافي بدا "مدافعاً" عن شعرية القصيدة: إن مطالبة الفلسطيني لعدوه الإسرائيلي بالخروج من جرحه وملحه وبحره، يجب أن تدرأ عن الشاعر تهمة اللاسامية التي كيلت ضده إلى حدّ الذهاب إلى مقاضاته في المحاكم الفرنسية. وعلى الرغم من انزعاج درويش من ماهية الردود الإسرائيلية، فإنه كان يعي أن الثقافة الصهيونية، في مؤسستَيها الدينية والتاريخية، تدفع الفلسطيني الأصلاني إلى تبنّي "دفاعات أولية"[143] عن النفس من خلال محاججات الماضي والحاضر، بين سياسات الأصالة "في الوطن"، والجدارة "بدولة فيه".
وعلى الرغم من تلك النزعة، فإن درويش لم يَحِد يوماً عن رأيه بضرورة عدم منافسة العدو الصهيوني في الحفر أعمق في الأسطورة بين الفلسطيني الجديد وشبح الكنعاني القديم.[144] إلّا إن القصيدة، مثلما مرّ آنفاً، أشعلت سجالاً هائلاً في الأوساط الصهيونية، تحوّل إلى هستيريا شاملة على صفحات الجرائد وفي محاضر الكنيست،[145] وخصوصاً بعد أن تُرجمت أربع مرات، وبعد أن زعمت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن درويش وجّه "ضربة قاتلة إلى اليسار الإسرائيلي الذي يدعو إلى ضرورة الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وأن اليمين الإسرائيلي سينشرها كإعلان انتخابي كما أفاد الشاعر حاييم غوري!"[146] لم يرَ درويش في القصيدة أكثر من قصيدة، ولم تغيّر "هستيريا القصيدة" لا في وعيه الخاص، ولا في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي، ولا في الضمير العالم، حقيقة أن مَن رمى الآخر في البحر والصحراء، ليس الفلسطينيين بل جلادهم الصهيوني الذي لم، ولن، يتنازل عن احتكار دور الضحية.
سخر درويش من هستيريا القصيدة، ومن الشعراء على صفحات الجرائد إلى السياسيين كيتسحاق شمير الذي قال: "كنت سأقرأها كلها، لكنني لا أريد أن أمنحها شرف الظهور في محاضر الكنيست"،[147] ومن حقيقة أن المجتمع الإسرائيلي لم يتوحد على أمر مثلما توحّد ضد القصيدة. غير أن سخرية درويش اقترنت بـ "عرض" سياسي ذي دلالة يشير إلى بداية "قناعته" بواقعية التفريق بين "الوطن" و"دولة" ممكنة على أرض الوطن، على الأقل في الخطاب الموجه إلى الرأي العام العالمي الذي أحرجه درويش بالسؤال: "أيهما أقسى: الاحتلال، أم الدعوة إلى زوال الاحتلال؟"،[148] كما أحرج الإسرائيليين بتحدٍّ ساخر، أن يفككوا المستعمرات في مقابل تفكيك القصيدة.
لقد وضعت انتفاضة الحجارة هذا الوعي، والدولة بأكملها على المحك، إذ كان عليها أن تواجه جوهرها العنصري الذي تنهش فيه يهوديةُ الدولة ديمقراطيتَها، وأن تواجه أيضاً، انهيار ما تبقّى من صورتها كـ "احتلال متنوّر" أمام الأطفال الحفاة الذين يهزمون، بالحجارة، جيشها المدجج بكل ما يحتاج إليه جلاد حداثي: من قنبلة الغاز إلى القنبلة النووية. لكن الوعي الصهيوني، حين لم يستطع تكذيب الصورة، أو تحسينها، اتهم الكاميرا، وذلك لتدشين قداسة فوق تاريخية للجلاد اليهودي الذي لم يعد في وسعه احتكار دور الضحية بعد أن فضحت الكاميرا، التي "ليس بوسعها أن تكون لاساميّة"، سياسة تكسير "العظام" التي جاء بها يتسحاق رابين ضمن استراتيجيا "القبضة الحديدية" لإخماد الانتفاضة.[149] فبعد أن احتكر الإسرائيليون الصورة لعقود، خانتهم الكاميرا، فأحالوها "من سلعة إلى عقيدة" تمكّن من اتهام الواقع والكاميرا، وبالتالي التاريخ الذي رفض مهمته كحاضنة حصرية لاضطهاد اليهود وحدهم، بتهمة اللاسامية. وتوزّع ردّ درويش على هذه النزعة بمقولتين: كشف، في الأولى، ماهية "اللاسامية الجديدة والمقلوبة" التي تورّط فيها الصهيونيون واعتذاريّوهم في العالم؛ بينما دعا في المقولة الأُخرى، إلى أن تكلفة الاحتلال على إسرائيل ليست بالمواجهة فحسب، بل بالكشف أيضاً عن حجم الأذى الذي ألحقته بيهود العالم ومكانتهم كضحية بعد جرائم أوروبا بحقّهم منذ محاكم التفتيش حتى محارق الوحش النازي وحملات اللاسامية الفعلية بعدها... إذ إن ذلك كله لن يمكّنهم من تحقيق تكافؤ أخلاقي مع ضحاياهم الفلسطينيين.
IV - الدولة: 1988 - 2008
أُعلنت ولادة "الدولة" في المنفى قبل وفاة درويش بعقدين، لكن "السلطة الفلسطينية" لم تكن تحققاً لـ "الفكرة" الكبيرة، ولا مآلاً تحررياً لـ "الثورة الواسعة"، وبالتأكيد لم تقرر مصير مَن ساروا، ولا يزالون، في "الرحلة" الطويلة. ولم تدم "الإزاحة" السياسية لدرويش، كعضو في اللجنة التنفيذية، أكثر من سبعة أعوام، غير أن الإزاحة المكانية من المنفى إلى فلسطين، "راجعاً" لا "عائداً"، كانت الأبرز والأعمق تأثيراً. وقد انشغل درويش جمالياً بوصف "البيت" بعد أن لم تقد الطريق إلّا إلى عتبته، فبدأ رحلة البحث عن الشعر الصافي التي لم تنتهِ. وامتد مفصل "الدولة" في حياة درويش من سنة 1988 إلى سنة 2008: فأعلن الفلسطينيون استقلالهم، وشاركوا في مؤتمر مدريد للسلام، ووقّعوا أوسلو، وأسسوا سلطة فلسطينية... واستقال درويش من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكنه لم يستقل من مهمته في ترسيم الحدود الجمالية لفلسطين، والحقوق السياسية للفلسطينيين، بين: معاودة - الفردوس الأندلسي؛ وكوكبة - الوطن الفلسطيني، والترحال - في الدولة المعلقة.
1 - معاودة الفردوس: الاستقلال وما قبله
على الرغم من التحولات الهائلة في المشروع الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية التي استبدلت خطاب "الحقوق السياسية" بخطاب "الواقعية السياسية"، فإن درويش استمر في الحلم بحلّ متكامل للقضية الفلسطينية ينهي مظلومية الفلسطينيين، لكنه عبّر عن ريبته في أن تقود تلك التحولات إلى غاية "التحرير" الذي من أجله أُنشئت "المنظمة". ولم تكن واقعية درويش سياسية فحسب، بل كانت محكومة أيضاً بضوابط جمالية وأخلاقية ووطنية تبدّت، تباعاً، منذ إعلان "وثيقة الاستقلال" في الجزائر في سنة 1988.
جمالياً، بقي شعر درويش معادلاً موضوعياً لفلسطين: حلماً ووطناً ودولة، له ولأجيال من الفلسطينيين الذين تعرّفوا إلى أمكنة ذاكرتهم من خلال شعره الذي أتاح "للغائب عن الجغرافيا، الحاضر في صورتها" أن يتخذ من الشعر بيتاً يسكنه. وأخلاقياً، ظل درويش مدافعاً عن الضحية الفلسطينية غير مسلّم بهزيمتها، وذلك عبر تقمصه دور الشاعر الطروادي في جميع قضايا الحرية، ليس لأنه مهزوم، بل لأنه مهووس بالنص الغائب الذي لم تكتبه الضحية، أو لم يجده المنتصرون لها، والباحثون عن صوتها، في مدوّنة التاريخ.[150] أمّا سياسياً، فكانت بوصلة درويش هي بصيرته النافذة في قراءة التاريخ، بصفته موظفاً لا قاضياً،[151] إذ تغدو وظيفته تدوين الظلم لا تحقيق العدل. وبالتالي، فرّق درويش بوضوح بين ثلاث دلالات لفلسطين: الفردوس المفقود، والوطن التاريخي، والدولة الممكنة على جزء من الوطن.
لم يدم هذا التفريق طويلاً قبل أن يوضع درويش على المحك لصوغ أصعب الوثائق الرسمية في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي وثيقة "إعلان الاستقلال" التي كُلّف درويش من طرف اللجنة التنفيذية بصوغها بعد أن رُفضت الصيغة الأولى التي أعدّها قانونيون، فجاءت "جافة لا ترتقي إلى تاريخية اللحظة ومتطلباتها."[152] وإذا تساءل المرء عن تلك "اللحظة" التي اقتضت تدخّل الشاعر - السياسي، فليس أقدر على شرحها من الرئيس الفلسطيني الحالي. فبُعيد اندلاع انتفاضة الحجارة في سنة 1987، تعرضت منظمة التحرير الفلسطينية لأكبر حملة ضغط في تاريخها من طرف: الأميركيين الذين ما فتئوا يهددون بترك الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني على قارعة الطريق في مؤتمر السلام "الخلاصي"؛ والروس الذين جعلوا من قبول القرارَين الأمميين 242 و338 - الفارغين من أي دلالة سياسية باستثناء الاعتراف بشرعية وجود إسرائيل - أساساً للعملية السياسية الموعودة من دون تحديد موقف سياسي واضح من قرار التقسيم رقم 181؛ والنظام العربي الذي توزعت تبعيّته بين هذين القطبين...[153] لقد كان على الفلسطينيين إبداع "مبادرة سياسية" يقبلها العالم، وتزكّيها الرسمية العربية، ويتبنّاها المجلس الوطني الفلسطيني.
ولضمان إنجاح تلك المبادرة، انتقت القيادة الفلسطينية درويش للاضطلاع بتلك المهمة التي يجب أن تعطي "المبادرة"، المصممة دولياً، منطقاً وطنياً. قَبِل درويش التحدي، وصاغ "وثيقة الاستقلال" في منفاه الباريسي، على نحو يحقق التوازن المنشود. وفي إثر عودته إلى تونس، كان هناك خشية من "حجم التغيير الذي سيجريه أبو عمار على هذا النص"،[154] لكن تلك الخشية لم تكن في محلها، إذ "عندما تقدم ياسر عرفات في الدقائق الأولى من فجر يوم 15 تشرين الثاني [نوفمبر] 1988 إلى منصة الخطابة في قاعة قصر الأمم في العاصمة الجزائرية ليتلو 'إعلان الاستقلال' التاريخي، قرأ نص محمود درويش كما كتبه الشاعر دون إضافة أو حذف كلمة واحدة"،[155] على عكس ما يفيد به إدوارد سعيد بأن الوثيقة خضعت لبعض التغييرات، وتحديداً مفهوم "الذاكرة الجماعية" الذي تحاور كثيراً هو ودرويش بشأن ضرورة إبقائه في النص.[156] وجرى تبنّي المبادرة السياسية بأغلبية ساحقة، بينما تم تبنّي "وثيقة الاستقلال" بالإجماع.
2 - كوكبة الوطن: مدريد وما بعدها
لم تطل فرحة الفلسطينيين بـ "إعلان" الاستقلال، وتواصلت الضغوط السياسية على القيادة الفلسطينية، عبر المقترحات البديلة التي أجهزت عليها انتفاضة الحجارة على الأرض. فوافقت القيادة الفلسطينية على المشاركة في "مؤتمر مدريد للسلام" بوفد مشترك مع الأردن في سنة 1991. أمّا درويش، فشهدت نظرته إلى التشابه القائم بين الأندلس وفلسطين تغيّراً لافتاً على الرغم من تأكيد الفارق الجوهري الأكبر بين "الفردوسين": وهو أن فلسطين فردوس قابل للاستعادة، وذلك تفوّق جمالي على الفردوس الإلهي.[157] ولأن الأندلس تختزل المنفى واستحالة العودة سياسياً، فقد كتب درويش ديوانه "أحد عشر كوكباً"[158] إحياء للمئوية الخامسة على سقوط غرناطة، بالتزامن مع عقد مؤتمر مدريد للسلام، ومن بعده توقيع اتفاق أوسلو في مطلع تسعينيات القرن المنصرم... فجاء الديوان الذي أبدى درويش امتعاضه من تفسيره سياسياً، مثقلاً بذاكرة الخسارات التاريخية وشعرية المخذولين على امتداد خمسة قرون 1491 - 1991.
نُشر هذا الديوان بعد إقرار منظمة التحرير الفلسطينية "وثيقة إعلان الاستقلال" الفلسطينية بكلمات درويش الذي كان يدرك أن السياسة قد تقود إلى "العدالة الممكنة" لأنها لن تحقق أبداً "العدالة المطلقة". لم يكن إعلان الاستقلال في الجزائر إعلاناً فقط لولادة دولة فلسطينية في المنفى، بل تضمّن أيضاً اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، وقد أكد ذلك المشاركةُ في مؤتمر مدريد للسلام. غير أنه حين كُشف عن مفاوضات أوسلو السرية في سنة 1993، تبيّن أنها أدارت ظهرها للمبادىء الواردة في "وثيقة الاستقلال"، والتي أعيد تأكيدها في خطاب الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد للسلام في سنة 1991. عندها، قدّم درويش استقالته من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، واستقال معه: إدوارد سعيد، من عضوية المجلس الوطني الفلسطيني، واصفاً اتفاق أوسلو بأنه "فرساي فلسطينية"[159] و"خيانة للتاريخ"؛[160] وشفيق الحوت من اللجنة التنفيذية، والذي وصف الاتفاق بأنه إعلان للمبادىء بلا مبادىء.[161] أمّا درويش فرفض الاتفاقية لأنها حلت مشكلة الأمن الإسرائيلية ولم تحل القضية الفلسطينية،[162] معرباً عن تفهّمه لانتقاد سعيد، وغيره، للرئيس عرفات الذي "أقدم على مجازفة تاريخية كبرى" بشجاعة وهو يعرف أنه سيخرج من الإجماع الفلسطيني، ولن يحظى بالإجماع العربي والدولي. لكنه أيضاً، انتقد بعض المؤيدين للاتفاق لأنهم "يدافعون عن النص، وينتقدون الأداء"، و"يعطون دون أن يدروا مبررات سياسية للإسرائيليين أكثر من نقدها."[163] كان انتقاد درويش للاتفاق مبدئياً، لكنه أبدى، كذلك، خشيته من "الغموض" الذي يملأ نص الاتفاق، والذي سيستغله الأقوى - الإسرائيلي لخلق واقع جديد بحكم الأمر الواقع.
3 - ترحال الدولة: وجبة أوسلو السريعة
كشف أكرم هنية في مقالته الوداعية عن درويش، الحيثيات التي أحاطت باستقالة محمود من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورجوعه إلى فلسطين، ورفضه المشاركة في الحكومة الفلسطينية: "في ربيع 1994 كنت ومحمود ضمن أعضاء وفد رافق الرئيس الراحل ياسر عرفات في زيارة إلى جنوب أفريقيا للاحتفال بنهاية الحكم العنصري، وتنصيب نيلسون مانديلا رئيساً للبلاد. وخلال الرحلة استدعاني الرئيس [....] لمناقشة تشكيل أول حكومة فلسطينية، فقد كان استحقاق العودة إلى الوطن يقترب، وكان مطلوباً وفق الاتفاقات أن تبدأ منظمة التحرير بتسمية الوزراء الذين سيتسلمون الحقائب المختلفة، وبعد مناقشة مجموعة من الأسماء بادرني أبو عمار: طبعاً محمود درويش يستلم (وزارة) الثقافة. ترددت للحظات قبل أن أجيب: أخ أبو عمار، في التاريخ الحديث لشعبنا رمزان: أنت ومحمود درويش، أنت الرمز الوطني والسياسي، وهو الرمز الثقافي، محمود سيعود إلى الوطن، وربما كان من الأفضل أن يواصل إنجازه الثقافي بعيداً عن تعقيدات المرحلة القادمة. لم يناقش أبو عمار كثيراً، على غير عادته، لكنه، كعادته، لم يستسلم على الفور وقال في النهاية: لنسأل محمود. وكان الاعتذار هو رد محمود. ولم يؤثّر ذلك على الإطلاق على العلاقة الوثيقة بين أبو عمار ومحمود الذي كان قد استقال قبل شهور من تلك الرحلة من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مسجلاً علناً انتقاداته وملاحظاته على اتفاق أوسلو. غير أن هذه الانتقادات التي ثبتت صحتها، لم تجعل محمود درويش يتردد لحظة في أن يحزم حقائبه في المنفى الباريسي كي يعود إلى ما هو متاح من أرض الوطن"،[164] في سنة 1995.
غير أن جملة "وكان الاعتذار هو رد محمود" حملت وراءها كثيراً من التفصيلات غير الاعتذارية وذات المغزى التي قصّها درويش، راصداً التحولات السياسية بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية التي كانت في قيد التأسيس في حينه، إذ أفصح عن مفارقات جارحة بشأن عرض أبو عمار عليه أن ينضم إلى الحكومة الفلسطينية، فحواها: "سأل أبو عمار: 'ما ضرّ مارلو أن يكون وزيراً في حكومة ديغول؟' فأجبتُ بلا تردد: يا سيادة الرئيس هنالك ثلاثة فروق على الأقل: أولاً، فرنسا ليست الضفة الغربية وقطاع غزة؛ ثانياً، مكانة ياسر عرفات ليست مكانة شارل ديغول؛ وثالثاً، محمود درويش ليس أندريه مارلو. هذه، يمكنك القول، فروق صغيرة، لكنه إن حصل وأصبحت فلسطين بعظمة فرنسا، وأصبح ياسر عرفات شارل ديغول، وبلغ محمود درويش مكانة مارلو… فإنني، عندئذ، أفضل أن أكون جان بول سارتر!"[165] وعلى الرغم من العلاقة المميزة بين "الرمزين"،[166] فإن درويش لم يرد التورط في مجازفة سياسية كان يعلم بطلان أساسها الأخلاقي والقانوني.
لم يرفع درويش مستوى سخريته من المشاركة في حكومة فلسطينية تحت بنادق الاحتلال الإسرائيلي إلّا لقناعته بأنه لا سيادة ولا إمكان لثقافة تحررية في هكذا شرط استعماري. ولعل مقارنة بين رفض درويش هذا العرض، وقبوله أن يكون عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1987، تفصح عن شيء كثير. فقد كان درويش في فرنسا حين تمت تزكيته لعضوية اللجنة التنفيذية، وكتب حينها مقالة بعنوان: "قبل كتاب الاستقالة"، تذمّر فيها من تلك "العقوبة الفخرية"، وتساءل: "وماذا عليّ أن أفعل؟ وماذا يفعل شاعر في اللجنة التنفيذية؟... [هل] أعتذر عن الموقع الجديد؟ ما عليّ، الآن، إلّا الامتثال للإرادة الوطنية... سأكون، كما كنت، جندياً صغيراً في معركة الحرية وفي معركة النشيد... سأدافع عن الفروق الصغيرة."[167] لكن دفاعه عن "الفروق الصغيرة" كان معاودة لا تنتهي حين انتهى المشروع الفلسطيني إلى ما انتهى إليه، من فشل، بعد الوصول إلى فلسطين. ولذا، كان التردد في قبول ذلك المنصب في منظمة التحرير الفلسطينية، والرفض المطلق لأي منصب في السلطة الفلسطينية، لأنه لم يرد لتلك الحمولة السياسية أن تثقل مشروعه الإبداعي، ولا أن تفرض أي قيد عليه، ولا منه على منظمة التحرير الفلسطينية.
أتى درويش إلى فلسطين بعد تأمله الطويل لفلسطين من المنافي، لكنه لم "يعد". وعلى الرغم من التناقضات العديدة لـ "الرجوع"، والتي حدت بدرويش إلى القول، "أتيت ولكنني لم أصل. وجئت ولكنني لم أعد"،[168] فإنه لم يرفض الرجوع إلى فلسطين حتى إن كانت "العودة" الحقيقية، بالنسبة إليه وإلى ستة ملايين لاجىء فلسطيني، عصية على التحقق. فالعودة الحقيقية كان يجب أن تكون فقط إلى مسقط رأسه، البروة، في أعالي الجليل. ففي فترة مبكرة، في سنة 1973، تأمل درويش سقوط قريته البروة، مستدعياً تقاطع المصائر بين فلسطين، والأندلس بصفتها واقعاً تاريخياً لا يمكن استعادته على الرغم من المقارنات السياسية والثقافية والتاريخية التي قد تصل إلى حد التطابق مع فلسطين. وبينما يمكن استعادة الأندلس مخيالياً، فإن درويش بقي متردداً بشأن فلسطين التي حذّر من تحويلها قسراً إلى فردوس مفقود، وكان إيمانه بنجاح المشروع الثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية حافزاً على أن يحذّر بلا تحفّظ من "التسليم بمصطلح الأندلس"،[169] الذي يلاشي المسافة بين أسطورية الفقد، وممكن الاستعادة.
كان على درويش أن يودّع تونس، البلد الوحيد الذي لم يخرج الفلسطينيون منه طرداً، وهو يعلم أن مصطلح "العودة" إلى الوطن الشخصي في بروة - الجليل، لا يرادف واقع "الرجوع" إلى كيانية في الوطن الجماعي في رام الله – الضفة، ذلك بأنه أراد أن يكون مع أبناء شعبه مع أن المكان ليس وطنه الشخصي، ولا ذكريات فيه. وقد عبّر درويش عن ذلك بوصف مجيئه إلى رام الله بأنه لم يكن وصولاً إلى البيت، وإنما إلى ساحة خلفية للبيت ملأى بالألغام والفقر.[170] وكان من شأن هذا الإعداد لـ "الرجوع" الذي لا "عودة" فيه، أن يفتح صندوق باندورا التساؤلي في ذهن درويش القادم إلى فلسطين الجديدة التي أفاقت على "حاجز الواقع" الإسرائيلي في "الوطن التاريخي". حاملاً منفاه المستمر، كان درويش يهجس بحصّة الفلسطينيين من الغد، خارج عوالم الكلمات، وماذا سيفعل الشاعر من دون منفى، على الرغم من بقاء الاحتلال قوة متفردة في تذكير الشاعر بمنفاه الداخلي، وأنه لن يكون منتصراً إلّا باللغة.[171] ولذا، تزاحمت الأسئلة في "ثنائية البيت والطريق" التي كان على الفلسطينيين طرحها، حتى إن لم يمتلكوا الإجابات: سياسياً، وثقافياً، وإدارياً.
وفقاً لأوسلو، وُعد الفلسطينيون بـ "غزة وأريحاً أولاً"، وإذا كانوا "أولاداً طبيبين، لن تكون أخيراً"،[172] فسافر درويش من القاهرة إلى غزة،[173] بعد ما يزيد على ربع قرن من المنفى. واصل درويش السؤال عن المسافة حتى وصل إلى غزة، وأصرّ على إخفاء وجهه عن "إلحاح الكاميرات المنصوبة لالتقاط نشوة العائد، ولتصوير الكلمات المُعدّة لهجاء المنفى. قلت: أتيتُ ولم أصل، وجئت ولم أعد."[174] وسط خراب غزة التي لم ترمم نفسها بعد، لم تكن المناسبة احتفالية بالنسبة إلى درويش، إذ كان يعي تماماً، في ظل الحواجز والمستعمرات وأبراج المراقبة الإسرائيلية، بأنه: "يحتاج إلى علم جغرافيا جديد ليعرف الحدود الفاصلة بين الخطوة والخطوة التالية، وبين الممنوع والمسموح، كصعوبة العثور على الغامض والواضح في اتفاقيات أوسلو."[175] وفي اليوم التالي، يشارك في جولة "العائدين" على المخيمات، في "مدينة البؤس والبأس"، ليتأكد من صدق يقينه بشأن أوسلو ووهم "العودة" إلى بلد لم يدرِ أي داهية قانوني صاغ معاهدة "الرجوع" إليه.
أدرك درويش أن تلك البداية هي "فلسطين الجديدة" بعد أن شاهد تداخل الحواجز والمستعمرات والجدران وأبراج المراقبة الصهيونية، وحجم تشوّه الخريطة الفلسطينية، من دون أن يفقد الأمل: فـ "هذه هي البداية. غزة وأريحا أولاً، فنحن في أول الطريق، في أول الأمل."[176] كان يتمنى الوصول إلى الجليل، وطنه الشخصي، لكنه لم يكن قادراً، حينها، على الوصول إلى أريحا. لم تتح له قسوة الواقع أن يحلم بـ "أكثر من زيارة يعود الزائر بعدها إلى توازنه الصعب بين منفى لا بد منه وبين وطن لا بد منه. فلا يعرف هذا العكس ذاك، ولا ذاك بنقيض هذا. ففي كل وطن منفى، وفي منفى بيت من الشعر [ليردد:] لم أعد بعد. لم تنتهِ الطريق لأقول مجازاً إن الرحلة ابتدأت."[177]
وفي استعادة لتسلل درويش من لبنان إلى فلسطين مع والده في سنة 1949، يسرد محمود قصة زيارته للجليل بـ "تصريح موت"، مدته ثلاثة أيام، لحضور جنازة إميل حبيبي في سنة 1996،[178] تماماً كالتصريح الذي كان يُمنح لوالده قبل 43 عاماً، والذي هدد الحاكم عسكري درويش بسحبه من والده.[179] هنا، يشير درويش إلى مفارقة تحوّل مفهوم "الفردوس المفقود" الذي قارنه بـ "جنة الله" و"طروادة" و"الأندلس"،[180] غامزاً من قناة "المؤرخين الجدد" الذين لا يحتاج الفلسطيني إلى اكتشافاتهم ليعرف أنه لاجىء، وأنه طُرد من الجنة، وهو الحاضر - الغائب.[181] ويجدر الذكر أن والدته عاتبته بمرارة على تلك الزيارة، قائلة: "أكان على صاحبك أن يموت لكي نراك؟"[182]
أدرك درويش أن "فلسطين صارت عكس ما عداها... وصارت هي الفردوس المفقود إلى حين"، لأن الوصول إليها، "زائراً" بتصريح، كان نهاية الحلم بانتهاء "الموقّت" (المنفى) وابتداء "الدائم" (الوطن). وبذا، ازدادت المسافة بين منفاه الداخلي (وقد رجع فعلاً)، ومنفاه الخارجي (والعودة لم تتحقق بعد)، فصار السؤال الوجودي الأكثر إلحاحاً: "أيّنا المهاجر: نحن، أم الوطن؟" [183] ولذا، أدرك درويش، وقد علّمه الزمن الحكمة، وعلّمه التاريخ السخرية، أن ثنائية "البيت والطريق" في مخياله الشعري لم تعد تكفي لتفسير "مجيئه" إلى مكانه الأول، لا "عودته" إليه، لأن "المرء لا يزور نفسه."[184] أطلق درويش خلاصته المطمئنة، أنه وإن لم تتحقق العودة، فإن المكان لا يزال هناك، وأن ثمة بشارة ستندلع في زمن ما يكون أكثر صلاحية لتحقق العودة الحقيقية، لا المجازية.
لكن آلام "الزيارة" للذات القديمة (فلسطين المحتلة منذ سنة 1948)، لم تحل دون تأكيد درويش حقوق أبنائها السياسية. فنضال أبناء الشعب الفلسطيني هناك لم يكن من أجل المكان فحسب، بل من أجل الزمان أيضاً، ذلك بأن المعركة لم تقتصر على النجاة من التطهير العرقي خلال النكبة، بل اتخذت أشكالاً جديدة تختزلها استحالة قبول إسرائيل بأن تكون "دولة كل مواطنيها"، بل إنها ذهبت إلى تطرف أكثر من ذلك بإقرار "قانون القومية اليهودية" بعد رحيل درويش بعقد من الزمن.[185] هنا، دعا درويش فلسطينيي 1948 إلى أن يخوضوا معركة المواطنة والمعركة الثقافية، وأن ينقلوا القضية الفلسطينية من الجيوب إلى المنبر الأساسي،[186] لكنه يستدرك أن ليس ثمة تناقض بين حقّ الأقلية الأصلانية في فلسطين المحتلة منذ سنة 1948 بالانتماء إلى الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وحقّهم في المواطنة في دولة استعمارية استيطانية فُرضت عليهم منذ النكبة. وبذا، فإنه لا يرى ضيراً من الجمع في النضال بين "المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية"،[187] على الرغم من الاستحالة التي خلقتها إسرائيل لأن تكون ديمقراطية ويهودية في آن معاً، الأمر الذي جعل الفلسطينيين يؤجلون البحث عن حلول نظرية وعملية للتوتر القائم بين هويتهم الفلسطينية و"مواطنتهم الإسرائيلية" التي أُكرهوا عليها بفعل الاستعمار.
وبالتالي، رأى درويش أن لفلسطينيي 1948 دوراً سياسياً (في تحديد الهوية الفلسطينية) ضمن ما تتيحه غابة "الديمقراطية الإسرائيلية" من هوامش، وآخر تربوياً (في تحديد الهوية الإسرائيلية) فيما تتيحه غابة "الثقافة الإسرائيلية" من مركز.[188] وعلى الرغم من إدراكه أن ذلك عصيّ على التحقق، فإنه حضّ على خوض غمار تعريف الدولة لذاتها بأنها يهودية، والمجتمع لذاته بأنه يهودي، وأن الديمقراطية لن تتمكن من توحيد هذين الضلعين في مثلث رومانسي ناجح، لأن على الأقلية العربية الأصلانية أن تواصل رفضها درس الطاعة للنظام، وأن تستمر في تحدّي طابع الدولة الأحادي القومية، والذهاب بذلك نحو تأكيد تحليلات الإسرائيليين أنفسهم بعدم صلاحية نموذج إسرائيل كدولة - يهودية - ديمقراطية، محتلة.
لم تكن تأملات محمود فيما يجب أن يكون في فلسطين المحتلة بلاغة حالمة، ولم يكن وصف الواقع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة تطيّراً، وإنما صار درويش على مستوى الحياة اليومية يذوق مرارة الاتفاق الكارثي. وقد تساءل عن كيفية عيش الفلسطينيين في ظل تشظي خريطة بلدهم، الجغرافية والديموغرافية، الأمر الذي كان يعني أنه ليس في "وسعك أن تكون طبيعياً في واقع غير طبيعي."[189] وفي هذا السياق، سخر درويش من دعوات مثقفين إسرائيليين للفلسطينيين إلى أن يساعدوا الإسرائيليين في تطبيع العلاقة مع أنفسهم، ذلك بأنه "لا حياة طبيعة مع الاحتلال، وتحت الاحتلال، ولا حياة طبيعة أيضاً مع النفس لمَن يواصل مع الاحتلال."[190] وكان هذا التصور للحياة غير الطبيعية تأسيساً لتوجهات الهوية الوطنية في "فلسطين الجديدة" في علاقتها بالاحتلال، إذ إن الاتفاق السياسي لن يغير الطبيعة الحصرية للأيديولوجيا الصهيونية التي قامت على أساسها دولة إسرائيل ككيان استعماري استيطاني، ولن يمكّن الفلسطينيين من "العودة إلى الوراء إلّا لمتطلبات النشيد."[191] ومتطلبات النشيد عنت مراجعة كشف الجرائم الصهيونية، والمطالبة بالاعتراف بها، وعمل ما يلزم لا للمصالحة، بل إعادة الانسجام إلى الذات الفلسطينية التي لا تقبل أن يعرّفها "المؤرخون الجدد" بأنها كانت ضحية، وخصوصاً في فلسطين المحتلة منذ سنة 1948 - أي خوض صراع على الحاضر والماضي في آنٍ معاً، فحواه أن تحمُّل إسرائيل المسؤولية التاريخية عن ذلك، وهو أمر لن يحدث، لن يكون كافياً لإنهاء المظلمة التاريخية للفلسطينيين إلّا بحلّ سياسي "عادل"، وليس "ممكناً" فقط.
ومع تحقق نبوءته بشأن أوسلو، جدد درويش تأمله في المفارقات التي سبقت مجيئه إلى فلسطين عارفاً بالواقع الذي ينتظره على أرض سلطة من كلام أُعلن تأسيسها في "مسرحية باطلة" جعلت من "إعلان الدولة" الذي صاغه بنفسه، نصاً أدبياً ليس إلّا، وأن الاحتلال لم يخرج من الباب إلّا ليدخل من الشباك متحكماً في شؤون البيت كافة. ويصف درويش حالة الانفصام تلك بالقول: "تصير إلى اثنين: واحد يقول نعم، وواحد يقول لا! ولكن، لِمَ كل هذا الصخب الاحتفالي الكاذب الذي يخدّر العالم بالصور؟ تسمّرت أمام التلفزيون واتخذت هيئة المحايد في حضرة الحيرة التي أقامت حاجزاً بين العقل والقلب. العقل يقول: إنها مسرحية باطلة. والقلب يسأل: كيف أنجو من سحر الإخراج؟ العشب أخضر، والمناخ ملائم للعيد، وسيد العالم جذاب. يقترب العدوان اللدودان ويتصافحان. أحدهما على مضض، والثاني بثقة مرحة. والجمهور المنتقى بعناية باذخة، يصفّق لانعطافة التاريخ في حديقة البيت الأبيض. لكن اللغة التي تسمعها تعيد قلبك إلى صوابه: لا، ليست هذه لغتي. فأين بلاغة الضحية التي تسترجع ذاكرة عذابها الطويل، أمام شقاء اللحظة التي ينظر فيها العدو في عين العدو ويشد على يده بإلحاح؟ أين أصوات القتلى السابقين والجدد الذين يطالبون باعتذار ليس من القاتل فحسب، بل من التاريخ أيضاً؟ أين حيرة المعنى في لقاء الضد بالضد؟ وأين الصرخة الملازمة لعملية جراحية يُبتر فيها الماضي عن الحاضر في مغامرة السير إلى غد ملتبس... وأين لغتي؟"[192] لم تكن أوسلو، إذاً، إلّا "وجبة سريعة لا تشبع الهوية الجائعة"،[193] وسجناً، للقيادة والشعب، تورط فيهما الراحل عرفات. وقد صدقت قراءة درويش لاتفاق أوسلو منذ البداية بأنه لم يكن سوى "مشروع أمني يحوّل السلطة الفلسطينية إلى تابعة لإسرائيل"،[194] وليس طريقاً إلى الدولة على جزء من الوطن مثلما أراده الفلسطينيون، ولا خطوة على طريق التحرير.
V - نهاية أنسنة التاريخ: بين الفكرة والدولة
في "فلسطين الجديدة"، ازداد التوتر بين دورَي درويش كشاعر وسياسي، وأصبح دور منظمة التحرير الفلسطينية أقل وضوحاً وأكثر إثارة للجدل في ظل كيانية سياسية جديدة لسلطة بلا سلطة. وكانت الخيارات السياسية لدرويش في تحوّل دائم من حيث الحلول المطروحة للقضية الفلسطينية، شأنه في ذلك شأن رفيقه إدوارد سعيد: من الدولة الديمقراطية الميثاقية، إلى الدولتين، إلى دولة على جزء من الوطن التاريخي، إلى إشارات جمالية، أكثر من كونها مقترحات سياسية، للدولة الواحدة.[195] وبينما كان الخطاب الفلسطيني، منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، مستنداً إلى بلاغة الحقوق السياسية، فإن فلسطين نفسها، بعد تأسيس السلطة الفلسطينية، أحيلت إلى مجازٍ، وبقيت دعوات التحرر برسم المجهول.
فبعد تيقّنه من بطلان "مسرحية" أوسلو صار درويش يدعو الفلسطينيين إلى التواضع في وصف حلمهم الدولاني، مجدداً تشديده على تحقق نبوءته الشهيرة: "ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة"، ومقترحاً ألّا يتوقفوا عند تقييم أين وصلوا في إنجاز الدولة (العلم؛ النشيد الوطني؛ السجاد الأحمر؛ السجون؛ الشرطة؛ الضرائب؛ الفساد الإداري؛ فساد الديمقراطية)، وأن يذهبوا إلى ما وراء خيبة الأمل، أي إلى ما وراء الدولة من أسئلة الإبداع، والحرية، والأمل.[196] وهنا، أشار درويش إلى إمكان إقامة علاقة مع فلسطين "تتماهى فيها الصوفية والبراغماتية"، الأمر الذي يتضمن إقراراً باستحالة تحقق "حل عادل" للقضية الفلسطينية، ذلك بأن "الحل" و"العدالة" مفهومان متناقضان.[197] فـ "الحل" يجب أن يكون شاملاً، ومنصفاً لمظالم الفلسطينيين أينما يكونوا. وقد تقاطع ذلك مع معنى النكبة لدى درويش في "نداء الشعب الفلسطيني" الذي سرد فيه المأساة الفلسطينية المستمرة؛ وامتدح خيارات الحركة الوطنية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية "من البندقية إلى غصن الزيتون"؛ وساق المبرر تلو الآخر للتحولات التي اكتنفت هذا المشروع السياسي، قائلاً: "ومن منطلق الإيمان بالسلام قيمة إنسانية عليا ومصلحة وطنية، كان علينا أن نميز بين حدود وطننا التاريخي وبين حدود حقّنا المعترف به دولياً في إقامة دولتنا المستقلة على جزء من أرض فلسطين، إلى جانب دولة إسرائيل التي كان إنشاؤها مرتبطاً بنشوء الدولة الفلسطينية"،[198] ومؤكداً أنه على الرغم من الواقع السياسي الصعب وعدم توازن القوى، فإن الحقوق التاريخية والسياسية والجمالية للفلسطينيين في وطنهم لا تخضع للتفاوض ولا المساومة.
لكن هذا الخطاب الداعم لشرعية منظمة التحرير الفلسطينية كان دائم الإحالة إلى انعدام العدالة في مشروع أوسلو، وأنه لن يوصل الفلسطينيين إلى شيء سوى ما يريده أعداؤهم. من هنا، صار الوطن، فعلاً مثلما أشار إلياس خوري باكراً، هو المنفى الدائم حين "رجع" الفلسطينيون ولم "يعودوا"، وصار منفى درويش دائرة سرمدية: إذ إنه، مثلما لمّح دائماً، كان في المنفى قبل الخروج من فلسطين، وفي الشتات، وحين رجع إليها: "منفاي لم يبدأ خارج الوطن. إحساسي بالمنفى بدأ وأنا في الوطن."[199] وهنا، تأمل الفلسطينيون، بأثر رجعي، مسلسل الانهيار الذي بدأ بإعلان مشروع "السلطة الوطنية" في سنة 1974، لكن بشكل أكثر وضوحاً في "وثيقة الاستقلال"، فوقف درويش موزع الهوى بين عقله وقلبه أمام "بُكم الضحية" التي لم تتمكن حتى من إلقاء خطابها في حفل توقيع اتفاق أوسلو في واشنطن في سنة 1993،[200] وإنما ألقاه عدوّها نيابة عنها، مثلما لاحظ إدوارد سعيد، بينما اكتفى المتحدث باسم الضحية بخطاب "رجل الأعمال".
وقبالة هذا الواقع التصعيدي الهائل للمأساة الفلسطينية على مستوى الرسمية الفلسطينية، حاول درويش، وهو يدافع، شعرياً، عن الحبكة والذاكرة، أن يرافع، سياسياً، عن عدالة المشروع الوطني وإعادة ترجمته بمصطلحات سياسية حين غرقت "الفكرة" عن ثبات "الدولة". ففي أوج اجتياحات جيش الاحتلال الإسرائيلي للمدن الفلسطينية خلال انتفاضة الأقصى التي أيّد درويش حقّ الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم خلالها،[201] أكد رغبة الفلسطينيين في السلام، لكن السلام، في ظل وجود الاحتلال، لن يتحقق، إذ "لا سلام بين سادة وعبيد."[202] ولذا، توزعت هذه المرافعة على أربعة محاور، هي: إنهاء الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967؛ وقف أشكال التمييز العنصري ضد "المواطنين" العرب في فلسطين المحتلة منذ سنة 1948؛ تحقيق العودة للاجئين الفلسطينيين في الشتات من خلال تنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 194؛ إقامة "الدولة".
وهنا، يمكن قراءة تصوّر درويش للحل السياسي على مستويين لا يخلوان من التناقض في محاولة منه لـ "أنسنة التاريخ": الأول هو خيار الدولة الواحدة، الذي يبدو كدعوة رومانسية امتزج فيها حنين درويش إلى بدايات انخراطه السياسي اليساري في صفوف الحزب الشيوعي، قبل مغادرته فلسطين في ستينيات القرن الماضي، بقواعد اللغة الجديدة لـ "دولة كل مواطنيها" التي ظهرت على السطح مع تأسيس حزب التجمع الديمقراطي في سنة 1995. والآخر، هو حل الدولتين الذي يبدو فيه درويش ناطقاً غير رسمي باسم الرسمية الفلسطينية التي أدركت وقوعها في مصيدة أوسلو مع فقدان القدرة على الخروج منها.
ففي تشخيص متأخر، نسبياً، لبدايات المشروع الوطني الفلسطيني وسيرورته ومآلاته، يصرّ درويش على ضرورة استمرار حلم الحرية لكن من "دون شاعرية الحلم القديم" في التحرير، والذي حال دون نجاحه ارتباطه بأمرين هائلين: المشروع القومي العربي الذي فشل، فاضطر الفلسطينيون إلى البحث عن حل وطني، ومشروع حل المسألة اليهودية الذي نجح وكان على رأس أولوياته ليس إنهاء وجود الآخر الفلسطيني فحسب، بل القضاء أيضاً على ذلك الوجود جغرافياً وديموغرافياً وثقافياً. ويشير درويش إلى حل الدولة الديمقراطية (الميثاق الوطني الفلسطيني في سنة 1968) كإبداع فلسطيني بين هذين التحدّيَين، إذ حافظ، من ناحية، على روح المشروع العربي، وحاول، من ناحية أُخرى، التعامل مع "الموجودين" على أرض فلسطين التاريخية كمتساوين في الحقوق والواجبات، لكن من دون امتياز للدين أو العرق أو القومية... غير أن المشروع لم ينجح نظراً إلى قوة الآلة الصهيونية وحلفائها والمتواطئين معها.
لم يتردد درويش من إبداء خشيته من "أن يسمح الإسرائيليون للسلطة الفلسطينية أن تسمي هذه الجيوب غير المترابطة دولة"، لأن ذلك لن يجعلها مستقلة، ولن ينهي وجود المستعمرات الراسخة فيها، ولن يحل القضية الفلسطينية من حيث الحقوق السياسية. وعليه، فقد رأى درويش أن خيار الدولة الميثاقية انتهى، وأن خيار الدولتين غير ممكن.[203] ولعل هذا "النَّفَس" الجديد في تصوّر الحل السياسي الذي يأخذ بعين الاعتبار "طبيعة التطور التاريخي في تقاطع المصائر الإنسانية أن تجعل هذه الأرض المقدسة بلداً لشعبين"،[204] بدأ يظهر في تعبيرات درويش السياسية، وخصوصاً حين يكون الأمر ذا علاقة بمصير فلسطينيي فلسطين المحتلة منذ سنة 1948، بعد اتفاق أوسلو... واقترن بالدعوة إلى "دولة فلسطينية عاصمتها القدس"، أي أن اقتراحه السابق يتعلق بفلسطينيي فلسطين المحتلة منذ سنة 1948 وحدهم.
يبدو أن درويش أدرك استحالة تحقق مشروع الدولة الواحدة (الميثاقية الفلسطينية)، والدولة الواحدة (دولة كل مواطنيها الإسرائيلية)، فكانت له أقوال أُخرى في أوج الاجتياحات العسكرية للمدن الفلسطينية في سنة 2002، وجاءت تلك الأقوال شعرية في "حالة حصار"،[205] ونثرية تدعو إلى إنهاء الاحتلال وإنعاش مشروع "دولة الاستقلال" الذي صاغ إعلانه قبل عقد ونصف عقد من الزمن. ولم يكن مفاجئاً تأكيد درويش لمقولاته التي أطلقها في انتفاضة الحجارة التي اندلعت في أواخر سنة 1987: "أيهما أقسى: الاحتلال أم الدعوة إلى زوال الاحتلال"،[206] وإنما كان المفاجىء هو العودة إلى بلاغة "الدولة المستقلة وعاصمتها القدس"، و"إنهاء الاحتلال"، مثلما جاء في خطاب ترحيبي له بوفد البرلمان العالمي للكتّاب خلال زيارتهم التضامنية لفلسطين، والتي تضمّن جدولها زيارة للرئيس الفلسطيني المحاصر ياسر عرفات... ففي الخطاب، أكد درويش موقفه السياسي، داعياً أنصار الحرية في العالم إلى أن يساعدوا الفلسطينيين في استكمال "أنسنة التاريخ"، ومواصلة الإصابة بداء "الأمل في التحرر والاستقلال. الأمل في حياة طبيعية لا نكون فيها أبطالاً ولا ضحايا."[207] لكن هذا الأمل كان مطارداً على الدوام من طرف إسرائيل التي كانت لحظة ميلادها لحظة إماتة مستمرة لحقّ الفلسطينيين في العودة، والدولة، وتقرير المصير.
تواصل العدوان الإسرائيلي الوحشي على الشعب الفلسطيني، وتواصلت استعارات درويش الكبرى في ترسيم سلالة المعاناة من شهيد الفلسطيني الأول (السيد المسيح) إلى شهيدهم غير الأخير (السيد عرفات).[208] وعلى الرغم من العبء الذي تحمله تلك الاستعارة، فإن درويش لم يكفّ عن الاعتقاد بضرورة تفكيك البطل البلاغي، ومناشدة الضحية الفلسطينية أن تغادر صليبها الذي فرضه عليها الاحتلال الإسرائيلي الوحشي. ولذا، أطلق صرخته الأخيرة التي يعلن فيها أن إدراك المعاناة الفلسطينية، والسعي لوقفها، هما المعيار الأخلاقي لأي إنسان في العالم، إذ إن "مَن لم يصبح فلسطيني القلب، لن يتعرف على هويته الأخلاقية."[209]
رحل ياسر عرفات، وعمّر درويش بعده أربعة أعوام شهد فيها انهيار المشروعين الممكنين لأنسنة التاريخ، وقد استغرق في وصف ما حلّ بالمشروع الوطني الفلسطيني بمرارة، عبر حديثه عن سياسات الضبط والمراقبة الصهيونية،[210] واستحكام الانقسام بين الفلسطينيين. وخلال تلك الفترة التي شهدت تدهوراً حاداً في حالته الصحية التي يوجزها أنه كان يحمل قنبلة موقوتة في صدره،[211] واصل درويش، من ناحية، تأمله في الحرب المفتوحة على غزة وفلسطين، حين تساءل عمّا يريده نيرون المعاصر وهو يتفرج على حريق فلسطين؟[212] ومن ناحية أُخرى، كان درويش يدرك أن المعارضة والسلطة يجب أن يتوحدا في مقاومة الاحتلال.[213] غير أن حسابات حقل العقلانية الدرويشية لم توافق حسابات بيدر الجنون الفلسطيني، فشهد انقسام الجسد الفلسطيني قبل عام من رحيله، وكتب عنه بمرارة، في "أنت منذ الآن غيرك"،[214] مقترحاً حلاً لإنهاء الانقسام والتحول إلى شعب، ما بعد الدولة، والذي أشار إليه سابقاً، بشعب الأمل.[215] رحل درويش مريضاً بالأمل، مصلوباً عليه، وربما لا نملك اليوم إلّا تشخيص ذلك المرض الخلاصي، من دون المساس بحقّه الدائم في الوجود.
* هذه الدراسة هي الجزء الثاني للدراسة التي نُشرت في "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 122 (ربيع 2020)، ص 159 – 186، بعنوان: "متلازمة درويش (1): النصر، الهزيمة، المنفى".
[1] محمود درويش، "ديوان محمود درويش" (بيروت: دار العودة، 1994)، المجلد الثاني، ص 77.
[2] أشار درويش إلى هذا الترتيب في المقابلة المتلفزة المطولة التي أعيد نشرها في: نبيل عمرو، "محمود درويش في حكايات شخصية" (رام الله: مؤسسة محمود درويش، 2014)، ص 107.
[3] يقول إلياس خوري إن محمود درويش "حوّل الشعر قهوة للصباحات.. والحلم وشاحاً للحب"، في: مهند عبد الحميد (إعداد)، "محمود درويش: سنكون يوماً ما نريد" (رام الله: وزارة الثقافة الفلسطينية، 2008)، ص 157 - 169؛ إلياس خوري، "الديوان الأخير"، "الكرمل"، العدد 90 (1 نيسان / أبريل 2009)، ص 23 - 36؛ عمرو، "محمود درويش في حكايات شخصية"، مصدر سبق ذكره، ص 59 - 113.
[4] انظر: محمود درويش، "وداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلام" (بيروت: مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 1974)، ص 60.
[5] انظر: إلياس خوري، "سؤال النكبة: الصراع بين الحاضر والتأويل - إدوارد سعيد و(مسألة فلسطين)"، "الكرمل"، العدد 78 (شتاء 2004)، ص 46 - 55؛ إلياس خوري، "الوطن المخيم - الوطن المنفى"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 41 (شتاء 2000)، ص 137 - 142.
[6] انظر: درويش، "وداعاً أيتها الحرب..."، مصدر سبق ذكره، ص 28، 40.
[7] انظر: إلياس خوري، "الهزيمة والنكبة المستمرة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 111 (صيف 2017)، ص 22 - 30.
[8] عبد الرحيم الشيخ، "الزمن الموقوت: عن نكبة فلسطين ومسارات التحرير"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 118 (ربيع 2019)، ص 23.
[9] إلياس خوري، "النكبة المستمرة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 89 (شتاء 2012)، ص 40. وعن أشْكَلَةْ درويش للزمن في هذا الإطار، انظر: إلياس خوري، "محمود درويش: الهوية وسؤال الضحية"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 83 (صيف 2010)، ص 52 - 60.
[10] انظر: إلياس خوري، "مدخل إلى قراءة الهولوكوست والنكبة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 117 (شتاء 2019)، ص 87 - 93.
[11] انظر: خوري، "الوطن المخيم..."، مصدر سبق ذكره، ص 137 - 142.
[12] الشيخ، "الزمن الموقوت..."، مصدر سبق ذكره، ص 23.
[13] لمزيد بشأن ذلك، انظر:
- W. F. Edwards, Pascal's Arithmetical Triangle: The Story of a Mathematical Idea (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 2002).
[14] انظر:
Walter Benjamin, Illuminations: Essays and Reflections (New York: Schocken Books, 2007), pp. 253-264.
[15] انظر: فيصل درّاج، "فالتر بنيامين ولاهوت التاريخ"، "الكرمل"، العدد 86 (شتاء 2006)، ص 155 - 171.
[16] انظر:
Gilles Deleuze, Difference and Repetition, translated by Paul Patton (London: Athlone Press, 1994); Gilles Deleuze, The Logic of Sense, translated by Mark Lester (New York: Columbia University Press, 1990).
[17] لمزيد من التفصيلات، انظر:
Gilles Deleuze and Felix Guattari, A Thousand Plateaus: Capitalism and Schizophrenia (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1987), pp. 479, 494, 500.
[18] للاطلاع على أفضل المصادر الإثنوغرافية في هذا السياق، انظر: محمود درويش، "يوميات الحزن العادي" (بيروت: مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 1973)؛ امتياز دياب، "ميلاد الكلمات" (رام الله: وزارة الثقافة الفلسطينية، 2019).
[19] انظر: محمود درويش، "ثلاث شهادات شفهية"، "الكرمل"، العدد 7 (1983)، ص 228.
[20] دياب، "ميلاد الكلمات"، مصدر سبق ذكره، ص 109.
[21] خوري، "محمود درويش حوّل الشعر قهوة للصباحات..."، مصدر سبق ذكره، ص 159.
[22] انظر: المصدر نفسه.
[23] انظر: المصدر نفسه، ص 160.
[24] انظر: عمرو، "محمود درويش في حكايات شخصية"، مصدر سبق ذكره، ص 61.
[25] انظر: درويش، "يوميات الحزن العادي"، مصدر سبق ذكره، ص 52.
[26] دياب، "ميلاد الكلمات"، مصدر سبق ذكره، ص 11 - 12.
[27] محمود درويش، "لماذا تركت الحصان وحيداً" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 1995).
[28] محمود درويش، "حيرة العائد: مقالات مختارة" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2007)، ص 40.
[29] محمود درويش، "في حضرة الغياب: نص" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2006)، ص 38 - 39.
[30] محمود درويش، "أنا الموقع أدناه محمود درويش / بحضور إيفانا مرشليان" (بيروت: دار الساقي، 2014)، ص 74.
[31] لمزيد بشأن نظام الحكم العسكري، انظر: مصطفى كبها (محرر)، "الأقلية الفلسطينية في ظل الحكم العسكري وإرثه" (حيفا: مدى الكرمل / المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، 2014).
[32] درويش، "أنا الموقع أدناه..."، مصدر سبق ذكره، ص 44 - 45، 65 - 66؛ خوري، "محمود درويش حوّل الشعر قهوة للصباحات..."، مصدر سبق ذكره، ص 163.
[33] درويش، "يوميات الحزن العادي"، مصدر سبق ذكره، ص 43 - 44.
[34] انظر: المصدر نفسه، ص 115.
[35] انظر: سيمون بيتون، "الأرض تورّث كاللغة"، موقع "يوتيوب" الإلكتروني، 1998، في الرابط؛ وانظر أيضاً: محمود درويش، "لا قداسة لجلاد"، "الكرمل"، العدد 52 (تموز / يوليو 1997)، ص 221.
[36] John Felstiner, Paul Celan: Poet, Survivor, Jew (New Haven: Yale University Press, 1995), p. 56.
[37] انظر، مثلاً: دياب، "ميلاد الكلمات"، مصدر سبق ذكره، ص 103 - 107.
[38] خوري، "محمود درويش حوّل الشعر قهوة للصباحات..."، مصدر سبق ذكره، ص 164. وللاطلاع على بعض التفصيلات البيوغرافية لدرويش في حيفا، انظر: درويش، "وداعاً أيتها الحرب..."، مصدر سبق ذكره، ص 71 - 152.
[39] عمرو، "محمود درويش في حكايات شخصية"، مصدر سبق ذكره، ص 65.
[40] انظر: دياب، "ميلاد الكلمات"، مصدر سبق ذكره، ص 82.
[41] محمود درويش، "حوار مع محمود درويش"، أجراه سامر أبو هواش، "نزوى"، 1 كانون الثاني / يناير 2002، في الرابط الإلكتروني؛ وللاطلاع على تحوّل دلالات "سجِّل أنا عربي"، انظر: محمود درويش، "ذاكرة للنسيان. الزمان: بيروت، المكان: يوم من أيام آب 1982" (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، 1987)، ص 218.
[42] خوري، "محمود درويش حوّل الشعر قهوة للصباحات..."، مصدر سبق ذكره، ص 164 - 165.
[43] دياب، "ميلاد الكلمات"، مصدر سبق ذكره، ص 61، 114.
[44] درويش، "يوميات الحزن العادي"، مصدر سبق ذكره، ص 75 - 76، 81.
[45] درويش، "لا قداسة لجلاد"، مصدر سبق ذكره، ص 221؛ بيتون، "الأرض تورّث كاللغة"، مصدر سبق ذكره.
[46] انظر: درويش، "وداعاً أيتها الحرب..."، مصدر سبق ذكره، ص 77. وانظر أيضاً: درويش، "ذاكرة للنسيان..."، مصدر سبق ذكره، ص 154 - 159. ولمزيد من التأملات المتأخرة بشأن تجربة السجن، انظر: درويش، "في حضرة الغياب..."، مصدر سبق ذكره، ص 59 - 66.
[47] انظر: دياب، "ميلاد الكلمات"، مصدر سبق ذكره، ص 112 - 113.
[48] انظر: المصدر نفسه، ص 113.
[49] المصدر نفسه، ص 112.
[50] انظر: المصدر نفسه، ص 114.
[51] انظر: المصدر نفسه، ص 109 - 110؛ وللاطلاع على نماذج من أوامر الرقابة العسكرية والصحافية، انظر: المصدر نفسه، ص 103 - 107.
[52] انظر: دياب، "ميلاد الكلمات"، مصدر سبق ذكره، ص 109؛ عمرو، "محمود درويش في حكايات شخصية"، مصدر سبق ذكره، ص 65.
[53] درويش، "يوميات الحزن العادي"، مصدر سبق ذكره، ص 119.
[54] دياب، "ميلاد الكلمات"، مصدر سبق ذكره، ص 27.
[55] سجن معسياهو هو سجن درويش الأول، ويقع في مدينة الرملة، وكان ذلك في سنة 1965. وقد وردت في "دفتر معسياهو" عبارة: "السجن الأول: سجني الأول قاسٍ مثل حبي الأول." للمزيد، انظر: دياب، "ميلاد الكلمات"، مصدر سبق ذكره، ص 85.
[56] محمود درويش وسميح القاسم، "الرسائل" (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 1990)، ص 76.
[57] انظر: دياب، "ميلاد الكلمات"، مصدر سبق ذكره، ص 74.
[58] انظر: المصدر نفسه، ص 14 - 22، 19 - 20.
[59] انظر: درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 149. وانظر أيضاً: فيصل درّاج، "شاعر المقاومة في جميع الأزمنة"، في عبد الحميد، "محمود درويش..."، مصدر سبق ذكره، ص 263 - 268.
[60] انظر: عبد الرحيم الشيخ، "متلازمة درويش (1): النصر، الهزيمة، المنفى"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 122 (ربيع 2020)، ص 159 - 164. وانظر أيضاً: "حوار مع الشاعر محمود درويش – الحلقة الأولى"، "فصل المقال"، العدد 29 (1997)، ص 22.
[61] درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 157. وانظر أيضاً: ص 79.
[62] دياب، "ميلاد الكلمات"، مصدر سبق ذكره، ص 9.
[63] انظر: عمرو، "محمود درويش في حكايات شخصية"، مصدر سبق ذكره، ص 65 - 66.
[64] للاطلاع على نماذج من تلك القراءة، انظر: محمود درويش، "قراءة عابرة في دماغ الصقور"، ص 137 - 153، ومحمود درويش، "أنا وأنت والحرب القادمة"، ص 154 - 173، في درويش، "يوميات الحزن العادي"، مصدر سبق ذكره.
[65] في رسالته إلى محمد ميعاري، بتاريخ 14 أيلول / سبتمبر 1968، يظهر السياق الزمني التقريبي لذلك المهرجان، وفي هذه الرسالة يبدي درويش أسفه على تلك الضجة، كما يُبدي امتعاضاً، بأثر رجعي، من تلك "النكتة السمجة" و"الفرية السوداء" في رسالتين متأخرتين لسميح القاسم في سنة 1986. للمزيد، انظر: دياب، "ميلاد الكلمات"، مصدر سبق ذكره، ص 67؛ ودرويش والقاسم"، الرسائل"، مصدر سبق ذكره، ص 93، 115.
[66] لمزيد عن معاناة درويش، كغيره من اللاجئين الفلسطينيين، في المطارات العالمية، انظر: محمود درويش، "عابرون في كلام عابر" (بيروت: دار العودة، 1994)، ص 129 - 134؛ درويش، "في حضرة الغياب..."، مصدر سبق ذكره، ص 50 - 57.
[67] لمزيد بشأن الحادثة، انظر: درويش، "يوميات الحزن العادي"، مصدر سبق ذكره، ص 9 - 11.
[68] محمود عباس، "طريق أوسلو - موقِّع الاتفاق يروي الأسرار الحقيقية للمفاوضات" (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط 1، 1994)، ص 28 - 29.
[69] فصل المقال، "حوار مع الشاعر محمود درويش – الحلقة الأولى"، مصدر سبق ذكره، ص 22 - 23.
[70] درويش، "يوميات الحزن العادي"، مصدر سبق ذكره، ص 196 - 197.
[71] المصدر نفسه، ص 134 - 135.
[72] انظر: فصل المقال، "حوار مع الشاعر محمود درويش – الحلقة الأولى"، مصدر سبق ذكره، ص 22 - 23.
[73] المصدر نفسه، ص 23.
[74] "حوار مع الشاعر محمود درويش - الحلقة الثانية"، "فصل المقال"، العدد 30 (1997)، ص 22.
[75] المصدر نفسه، ص 22.
[76] انظر: درويش، "يوميات الحزن العادي"، مصدر سبق ذكره، ص 247 - 255.
[77] انظر: فصل المقال، "حوار مع الشاعر محمود درويش – الحلقة الثانية"، مصدر سبق ذكره، ص 22.
[78] للمزيد، انظر: عمرو، "محمود درويش في حكايات شخصية"، مصدر سبق ذكره، ص 49 - 50.
[79] كانت منظمة التحرير الفلسطينية والجيش الأردني قد سجّلا قبل انتصار تشرين الأول / أكتوبر 1973، انتصاراً في معركة الكرامة في سنة 1968، لكن الانتصار في تلك المعركة لم يحظَ، في حدود علمنا، بكثير في كتابات درويش.
[80] انظر: درويش، "وداعاً أيتها الحرب..."، مصدر سبق ذكره، ص 49.
[81] لمزيد بشأن مسألتَي الدين والقومية في تاريخ اليهود وما جلبتاه عليهم من كوارث، انظر: حسن خضر، "أ. ب. يهوشواع: ساعدونا على تطبيع العلاقة.. مع أنفسنا"، "الكرمل"، العدد 50 (كانون الثاني / يناير1997)، ص 188 - 201.
[82] انظر: درويش، "وداعاً أيتها الحرب..."، مصدر سبق ذكره، ص 56 - 57.
[83] انظر: درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 90؛ درويش، "ثلاث شهادات شفهية"، مصدر سبق ذكره، ص 232.
[84] انظر:
Edward Said, The Politics of Dispossession: The Struggle for Palestinian Self-Determination, 1969–1994 (New York, New York: Pantheon Books, 1994), p. xix.
[85] انظر: فصل المقال، "حوار مع الشاعر محمود درويش – الحلقة الثانية"، مصدر سبق ذكره، ص 22 - 23.
[86] المصدر نفسه، ص 23.
[87] انظر: محمود درويش، "في وصف حالتنا: مقالات مختارة 1975 – 1985" (بيروت: دار الكلمة للنشر، 1987)، ص 14 - 19.
[88] المصدر نفسه، ص 7 – 13، 20 - 67.
[89] انظر: المصدر نفسه، ص 23 - 30.
[90] لمزيد بشأن مفهمة درويش للنصر والهزيمة: انظر: درويش، "وداعاً أيتها الحرب..."، مصدر سبق ذكره، ص 65 - 69؛ درويش، "في وصف حالتنا..."، مصدر سبق ذكره، ص 52 - 58.
[91] درويش، "في وصف حالتنا..."، مصدر سبق ذكره، ص 68.
[92] المصدر نفسه، ص 95.
[93] المصدر نفسه، ص 74.
[94] المصدر نفسه، ص 80.
[95] المصدر نفسه، ص 81.
[96] المصدر نفسه، ص 85.
[97] المصدر نفسه، ص 85 - 87.
[98] انظر: درويش، "ثلاث شهادات شفهية"، مصدر سبق ذكره، ص 207.
[99] درويش، "الديوان"، مصدر سبق ذكره، المجلد الثاني، ص 17.
[100] درويش، "ذاكرة للنسيان..."، مصدر سبق ذكره، ص 58 - 65.
[101] المصدر نفسه، ص 62.
[102] انظر: درويش، "في وصف حالتنا..."، مصدر سبق ذكره، ص 166. وانظر أيضاً: درويش، "ذاكرة للنسيان..."، مصدر سبق ذكره، ص 115 - 122.
[103] درويش، "ذاكرة للنسيان..."، مصدر سبق ذكره، ص 168 - 169.
[104] انظر: المصدر نفسه، ص 40 - 41.
[105] المصدر نفسه، ص 102.
[106] المصدر نفسه، ص 103.
[107] درويش، "الديوان"، مصدر سبق ذكره، المجلد الثاني، ص 13.
[108] درويش، "ذاكرة للنسيان..."، مصدر سبق ذكره، ص 107.
[109] انظر: المصدر نفسه، ص 124 - 125.
[110] انظر: المصدر نفسه، ص 137. وانظر أيضاً: درويش، "ثلاث شهادات شفهية"، مصدر سبق ذكره، ص 215.
[111] لمزيد بشأن توصيف درويش لـ "أسطورية" قيادة الرئيس عرفات لتلك المرحلة، انظر: درويش، "ثلاث شهادات شفهية"، مصدر سبق ذكره، 217 - 218، 232.
[112] انظر: المصدر نفسه، ص 223 - 224.
[113] انظر: محمود درويش، "ياسر عرفات.. والبحر"، "الكرمل"، العدد 10 (تشرين الأول / أكتوبر 1983)، ص 4 - 5. ولمزيد بشأن هذا المشهد ودلالاته، انظر: درويش، "في حضرة الغياب..."، مصدر سبق ذكره، ص 82.
[114] درويش، "ثلاث شهادات"، مصدر سبق ذكره، ص 223.
[115] انظر: درويش، "ياسر عرفات.. والبحر"، مصدر سبق ذكره، ص 6.
[116] انظر: درويش، "ذاكرة للنسيان..."، مصدر سبق ذكره، ص 14، 188 - 191.
[117] انظر: درويش، "ثلاث شهادات شفهية"، مصدر سبق ذكره، ص 205؛ عمرو، "محمود درويش في حكايات شخصية"، مصدر سبق ذكره، ص 101.
[118] درويش، "ثلاث شهادات شفهية"، مصدر سبق ذكره، ص 205، 229.
[119] المصدر نفسه، ص 220.
[120] درويش، "الديوان"، مصدر سبق ذكره، المجلد الأول، ص 59 - 65.
[121] انظر: محمود درويش، "وُلدت على دفعات"، حاوره عبده وازن، "الكرمل"، العدد 86 (كانون الثاني / يناير 2006)، ص 61 - 63.
[122] درويش، "ثلاث شهادات شفهية"، مصدر سبق ذكره، ص 213.
[123] للمزيد، انظر: درويش، "في وصف حالتنا..."، مصدر سبق ذكره، ص 128 - 136. وانظر: درويش، "ثلاث شهادات شفهية"، مصدر سبق ذكره، ص 212.
[124] انظر: درويش، "ثلاث شهادات شفهية"، مصدر سبق ذكره، ص 231.
[125] المصدر نفسه، ص 222 - 226.
[126] المصدر نفسه، ص 222.
[127] المصدر نفسه، ص 212.
[128] المصدر نفسه، ص 207.
[129] درويش، "في وصف حالتنا..."، مصدر سبق ذكره، ص 144.
[130] المصدر نفسه، ص 150.
[131] لمزيد بشأن استمرار العدوان على مخيم شاتيلا، بعد المجازر، انظر: درويش، "عابرون في كلام عابر"، مصدر سبق ذكره، ص 117 - 122. وهذه العناوين هي الفصول الثلاثة المكوّنة للكتاب.
[132] درويش، "في وصف حالتنا..."، مصدر سبق ذكره، ص 156.
[133] المصدر نفسه، ص 157 - 158. ولمزيد عن الإعلان الصهيوني بشأن "أرض بلا شعب"، وإعلان بشير الجميّل بشأن "الشعب الزائد"، وتحالف القتلة على لحم الفلسطيني، وانتقاد عدم قدرة "المشروع العربي" على استيعاب "المشروع الفلسطيني"، واشتراك النظام العربي في تصفية الفلسطيني وضرب شرعية منظمة التحرير الفلسطينية خلال حرب المخيمات، وصمود الفلسطينيين في "انتظار البرابرة"، انظر: درويش، "في وصف حالتنا..."، مصدر سبق ذكره، ص 156 - 175؛ درويش والقاسم، "الرسائل"، مصدر سبق ذكره، ص 151 – 155، 159 - 162.
[134] درويش، "في وصف حالتنا..."، مصدر سبق ذكره، ص 162؛ درويش، "في حضرة الغياب..."، مصدر سبق ذكره، ص 81.
[135] درويش، "عابرون في كلام عابر"، مصدر سبق ذكره، ص 113.
[136] المصدر نفسه، ص 87.
[137] للاطلاع على فحوى هذه السجالات، انظر: المصدر نفسه، ص 29 - 110.
[138] انظر المصدر نفسه، ص 18 - 19.
[139] المصدر نفسه، ص 20.
[140] المصدر نفسه، ص 24.
[141] ظهرت القصيدة في: "اليوم السابع"، العدد 194 (25 كانون الثاني / يناير 1988)، وأعيد نشرها في "عابرون في كلام عابر"، مصدر سبق ذكره، ص 51 - 53.
[142] محمود شقير، "محمود درويش وهذا الغياب"، في عبد الحميد، "محمود درويش..."، مصدر سبق ذكره، ص 292.
[143] "حوار مع الشاعر محمود درويش - الحلقة الثالثة"، "فصل المقال"، العدد 31 (1997)، ص 23. وانظر أيضاً: درويش، "عابرون في كلام عابر"، مصدر سبق ذكره، ص 60؛ درويش والقاسم، "الرسائل"، مصدر سبق ذكره، ص 167 - 171.
[144] انظر: درويش، "في حضرة الغياب..."، مصدر سبق ذكره، ص 35.
[145] للمزيد، انظر: درويش والقاسم، "الرسائل"، مصدر سبق ذكره، ص 167 - 171؛ درويش، "عابرون في كلام عابر"، مصدر سبق ذكره، ص 63 - 69.
[146] انظر: درويش والقاسم، "الرسائل"، مصدر سبق ذكره، ص 56؛ درويش، "عابرون في كلام عابر"، مصدر سبق ذكره، ص 69.
[147] درويش، "عابرون في كلام عابر"، مصدر سبق ذكره، ص 68.
[148] المصدر نفسه، ص 68 - 69.
[149] المصدر نفسه، ص 32.
[150] انظر: بيتون، "الأرض تورّث كاللغة"، مصدر سبق ذكره.
[151] درويش، "يوميات الحزن العادي"، مصدر سبق ذكره، ص 277.
[152] أكرم هنية، "صحراء هيوستن: الشاعر في رحلته الأخيرة"، "الكرمل"، العدد 90 (نيسان / أبريل 2009)، ص 129.
[153] انظر: عباس، "طريق أوسلو..." مصدر سبق ذكره، ص 40 - 41.
[154] هنية، "صحراء هيوستن..."، مصدر سبق ذكره، ص 129.
[155] المصدر نفسه، ص 130. وانظر أيضاً: عبد الصمد بن شريف، "ضد الغياب: حوارات مع محمود درويش" (دبي: مجلة دبي الثقافية - الإصدار 89، 2013)، ص 53.
[156] انظر:
Edward Said, “Intifada and Independence”, Social Text, no. 22 (Spring 1989), p. 33.
[157] انظر: محمود درويش، "أثر الفراشة: يوميات" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2008)، ص 209؛ درويش، "الديوان"، مصدر سبق ذكره، المجلد الثاني، ص 435.
[158] محمود درويش، "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي" (عكا: دار العربي، 1993).
[159] Edward Said, “A Palestinian Versailles”, The Progressive, vol. 57, no. 12 (December 1993), pp 22-26.
[160] إدوارد سعيد، "القلم والسيف: حوارات مع دافيد بارساميان"، ترجمة: توفيق الأسدي (دمشق: دار كنعان للدراسات والنشر، 1999)، ص 129 - 151.
[161] شفيق الحوت، " اتفاقات عرفات - رابين ومصير منظمة التحرير الفلسطينية"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 18 (ربيع 1994)، ص 14 - 23.
[162] انظر: درويش، "في حضرة الغياب..."، مصدر سبق ذكره، ص 141 - 142؛ وانظر أيضاً: "حوار مع محمود درويش - الحلقة الخامسة"، "فصل المقال"، العدد 33 (1997)، ص 18 - 20.
[163] بن شريف، "ضد الغياب..."، مصدر سبق ذكره، ص 40 - 41.
[164] هنية، "صحراء هيوستن..."، مصدر سبق ذكره، ص 128 - 129.
[165] بيتون، "الأرض تورّث كاللغة"، مصدر سبق ذكره. ولمزيد بشأن طبيعة مخاوف درويش من العمل السياسي، انظر أيضاً: بن شريف، "ضد الغياب..."، مصدر سبق ذكره، ص 44 - 45.
[166] انظر: خوري، "محمود درويش حوّل الشعر قهوة للصباحات..."، مصدر سبق ذكره، ص 156، 164.
[167] درويش، "عابرون في كلام عابر"، مصدر سبق ذكره، ص 160.
[168] انظر: درويش، "في حضرة الغياب"، مصدر سبق ذكره، ص 145؛ بن شريف، "ضد الغياب..."، مصدر سبق ذكره، ص 64 - 66.
[169] انظر: درويش، "يوميات الحزن العادي" مصدر سبق ذكره، ص 34 - 35.
[170] انظر: درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 12 - 13.
[171] انظر: درويش، "في حضرة الغياب..."، مصدر سبق ذكره، ص 142 - 143.
[172] المصدر نفسه، ص 143.
[173] المصدر نفسه، ص 144.
[174] المصدر نفسه، ص 145.
[175] المصدر نفسه، ص 145 - 146.
[176] درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 47.
[177] المصدر نفسه، ص 47.
[178] المصدر نفسه، ص 47 - 48. ولعل من المفارقة أن حبيبي كان، قبل عامَين من رحيله، قال لدرويش إن زيارة بيت أمه في الجليل لها شروط يخجل من قولها. انظر: المصدر نفسه، ص 47.
[179] انظر: درويش، "يوميات الحزن العادي" مصدر سبق ذكره، ص 43 - 44.
[180] المصدر نفسه، ص 31 - 46.
[181] انظر: درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 41.
[182] درويش، "في حضرة الغياب..."، مصدر سبق ذكره، ص 159.
[183] انظر: درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 46.
[184] المصدر نفسه، ص 32.
[185] المصدر نفسه، ص 31 - 37.
[186] لمزيد من التفصيلات بشأن موقف درويش من أبناء فلسطين المحتلة منذ سنة 1948، انظر: فصل المقال، "حوار مع الشاعر محمود درويش – الحلقة الخامسة"، مصدر سبق ذكره، ص 18 - 19؛ وانظر أيضاً: المصدر نفسه، "الحلقة السادسة"، العدد 34 (22 - 28/ 5 / 1997)، ص 22 - 23.
[187] درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 35.
[188] انظر: فصل المقال، "حوار مع الشاعر محمود درويش – الحلقة السادسة"، مصدر سبق ذكره، ص 22 - 23.
[189] درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 17.
[190] المصدر نفسه، ص 21.
[191] المصدر نفسه، ص 22 - 23.
[192] درويش، "في حضرة الغياب..."، مصدر سبق ذكره،، ص 141.
[193] درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 92 - 93.
[194] عمرو، "محمود درويش في حكايات شخصية"، مصدر سبق ذكره، ص 106.
[195] لمزيد بشأن هذه المسألة، انظر: عبد الرحيم الشيخ، "المثقفة اليهودية الأخيرة، جوديث بتلر: قارئة لسعيد ودرويش"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 87 (صيف 2011)، ص 93 - 119.
[196] لمزيد بشأن تعثّر حلم الدولة على الرغم من "صغرها"، انظر: عمرو، "محمود درويش في حكايات شخصية"، مصدر سبق ذكره، ص 107.
[197] انظر: درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 73.
[198] محمود درويش، "نداء الشعب الفلسطيني في الذكرى الخمسين للنكبة"، "الكرمل"، العدد 55 - 56 (نيسان / أبريل 1998)، ص 8.
[199] بيتون، "الأرض تورّث كاللغة"، مصدر سبق ذكره.
[200] سعيد، "القلم والسيف..."، ص 143.
[201] انظر: درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 92 - 93.
[202] ورد ذلك في رسالة وجهها محمود درويش إلى العالم وبُثت في 15 أيار/مايو 2001، لمناسبة ذكرى النكبة، بعنوان "لن نبدأ من النهاية، غدنا يبدأ الآن: نداء الشعب الفلسطيني في الذكرى الثالثة والخمسين للنكبة"، وقد نُشرت في العديد من وسائل الإعلام، وبينها جريدة "الحياة" اللندنية.
[203] فصل المقال، "حوار مع الشاعر محمود درويش – الحلقة الخامسة"، مصدر سبق ذكره، ص 18 - 19.
[204] درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 67 - 68. وقد ورد هذا التعبير في خطاب درويش في تأبين إميل حبيبي في سنة 1996.
[205] انظر: محمود درويش، "الأعمال الجديدة" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2004)، ص173 - 265.
[206] درويش، "عابرون في كلام عابر"، مصدر سبق ذكره، ص 68.
[207] انظر:
Mahmoud Darwish, “An Incurable Malady: Hope”, al-Ahram Weekly, issue 580 (2002).
[208] درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 90 - 91.
[209] Mahmoud Darwish, “A War for War’s Sake”, Al-Ahram Weekly, issue 581 (April 2002),
[210] بشأن الجدار وعبث سياسات المراقبة الصهيونية، انظر: درويش، "أثر الفراشة..."، مصدر سبق ذكره، ص 83 - 84.
[211] لمزيد من التفصيلات عن مرض درويش، ورحلة علاجه الأخيرة، انظر: هنية، "صحراء هيوستن..."، مصدر سبق ذكره، ص 123 - 150؛ حسن خضر، "صورة أولى لسيد الكلام"، "الكرمل"، العدد 90 (نيسان / أبريل 2009)، ص 196 - 227.
[212] ورد هذا التعبير في أكثر من مصدر: هنية "صحراء هيوستن..."، مصدر سبق ذكره، ص 129 – 130؛ خضر، "صورة أولى لسيد الكلام"، مصدر سبق ذكره، ص 201؛ عمرو، "محمود درويش في حكايات شخصية"، مصدر سبق ذكره، ص 20.
[213] انظر: درويش، "حيرة العائد..."، مصدر سبق ذكره، ص 20.
[214] انظر: درويش، "أثر الفراشة..."، مصدر سبق ذكره، ص 269 - 275.
[215] المصدر نفسه، ص 93 - 94.