أعاد إعلان صفقة القرن الاهتمام مجدداً بنقاش مفهومَي الدولة الواحدة والدولتين كحل نهائي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولكل فريق من فريقَي النقاش وجهة نظره وعناصرها المستندة إلى منطلقات نظرية وعملية. فأي من الحلّين أفضل، وعلى أي أسس؟
إن ما تضمنته صفقة القرن الأميركية الإسرائيلية (التي استوحى منها نتنياهو شروطه العشرة للتصديق فلسطينياً،[1] في مقابل الاعتراف الإسرائيلي بكيان فلسطيني شكلي على جزء متناثر من أراضي الضفة الغربية على شكل أرخبيلات)، ليس له سوى تفسير واحد هو استسلام فلسطيني كامل، وانتصار إسرائيلي كامل، وهو هدف وضعه تحالف ترامب - نتنياهو كي ينفَّذ، استناداً إلى غطرسة القوة والوقائع الأمنية والاستيطانية التي صنعتها إسرائيل على الأرض خلال 53 عاماً من الاحتلال. ويأتي هذا المسعى المحموم بعد صراع امتد على مدار قرن ويزيد، ولم يُحسم أو توضع له نهاية على أرض الواقع: فالشعب الفلسطيني لم يستسلم، وإسرائيل لم تنتصر.
إعادة تعريف إسرائيل
بقي الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي محط خلاف وتباين داخل الحركة السياسية الفلسطينية وخارجها، وتحديداً لجهة تقدير الاستعداد الإسرائيلي للحل السياسي الذي قدمته الأمم المتحدة عبر قرارَي التقسيم وعودة اللاجئين، ولا سيما أن إسرائيل أيدتهما شكلاً لأنهما كانا شرطَين دوليين للاعتراف بها في الجمعية العامة. لكنها تراجعت عنهما وعن قرارات الشرعية الدولية الأُخرى كلها، وخصوصاً بعد اتفاق أوسلو والاعتراف الفلسطيني بها، الأمر الذي يعني أن القبول الإسرائيلي بالقرارات الدولية كان مناورة وتضليلاً.
وتعود جذور الموقف الإسرائيلي إلى الفكر الصهيوني الذي استبعد منذ بداية مشروعه حقوق السكان الأصليين الوطنية، فكان الإقصاء المادي والسياسي والثقافي والمعنوي للشعب الفلسطيني هو المرتكز الأساسي لذلك المشروع، وبهذا المعنى "فإن المستعمرين الإسرائيليين جاؤوا ليبقوا، مثلما هي حال المستعمرين في أستراليا وأميركا الشمالية، فهم لا يتشابهون مع المستعمرين الآخرين في مسألة التراجع عن استعمارهم أو التعايش والتقاسم مع السكان الأصليين كما في الجزائر وجنوب أفريقيا"[2] والهند وأنغولا وموزمبيق وفييتنام. لكن في المثل الفلسطيني، فإن موقف الأغلبية الساحقة من دول العالم ومن خلال قرارات الأمم المتحدة، يتلخص بأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية في سنة 1967 غير شرعي، وأنه لا بديل من انسحاب إسرائيل من هذه الأراضي، وهذا فارق مهم بين النموذجين يحتمل فرض تراجع إسرائيلي لمصلحة تقرير المصير الفلسطيني. أمّا في الممارسة، فالأمر المطروح دائماً كان تفكيك التشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية الفلسطينية، وقطع الطريق على احتمالات إنشاء الدولة، وكذلك الاستمرار في سياسة التطهير العرقي بأساليب صامتة. وفي النهاية، تبيّن أن بين البداية والنشأة في وعد بلفور، والوضع الراهن في "صفقة القرن"، انسجاماً وتوافقاً أطاحا في محصلتهما بجميع التقديرات والأوهام الفلسطينية فيما يتعلق بحل وسط تفاوضي طوعي.
إن الصمود الفلسطيني، وأي عمل يهدف إلى إفشال المشروع النقيض، أي المشروع الإسرائيلي، يعتمدان على إعادة تعريف هذا المشروع النقيض وتحولاته، ومدى قبول ذلك على صعيد إقليمي ودولي. فحتى الآن، كان الخطأ الأكبر هو اعتقاد الاتجاه المركزي في الحركة الوطنية الفلسطينية، أن إسرائيل ربما تقبل بحلول سياسية وسط تلبّي الحقوق الوطنية ضمن سقف القرارات الدولية، اقتناعاً بمقولة إن "السلام خيار استراتيجي يصنعه شركاء من الطرفين"، وذلك من دون ضغوط وعقوبات دولية وعربية، أو نضال فلسطيني مثابر يجعل الاحتلال قضية خاسرة. وفي المقابل، كان للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، في أوج الإقبال الفلسطيني الرسمي على "السلام"، رأي آخر ينطلق من فكرة وجود "حركة إرهابية مهزومة" يمكن إشراكها في تدجين السكان وحكمهم، عبر ربط قيادتها وكادرها بمصالح خاصة مرتبطة ببقاء الاحتلال، ومن دون المسّ بالاستيطان والسيادة الأمنية الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية كلها، أو الموافقة على انتقال الحكم الذاتي الإداري إلى دولة، وهذا كله من أجل الاستحواذ على فلسطين التاريخية بغطاء فلسطيني. وكانت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تكيّف جميع المقاربات الدولية (خريطة الطريق ومفاوضات كامب ديفيد في سنة 2000) لخدمة تلك الفكرة المدعومة باستيطان وجدار فصل عنصري وإزاحات سكانية وشبكة طرق وحواجز وبوابات إلكترونية.
وبمرور أكثر من عقدين، أحدثت دولة الاحتلال تحوّلين نوعيين: الأول تقويض مقومات الدولة الفلسطينية على الأرض وما ترتب عليه من مسّ بصيرورة الكيانية الفلسطينية، والثاني إنضاج شروط الضم والسيطرة الكاملة على الموارد والسكان. ويستند ذلك إلى أربع ركائز: الأولى، دعم خارجي أميركي وصمت دولي؛ الثانية؛ تأسيس مصالح ملموسة لأكثرية المجتمع الإسرائيلي من خلال إدامة الاحتلال؛ الثالثة، الانتقال بالعلاقات العربية - الإسرائيلية إلى طور التحالف والتعاون بالتوازي مع الانفصال العربي العملي عن القضية الفلسطينية. الرابعة، عجز الوسط السياسي الفلسطيني وافتقاره إلى استراتيجيا نضال تشرك الشعب وتصنع مقومات التحرر.
الأمر المسكوت عنه فلسطينياً، والذي تسكت عنه أيضاً القوى المناهضة للاحتلال والمؤيدة للتحرر والمؤسسة الدولية، هو استبدال إسرائيل القانون والشرائع الدولية بأيديولوجيا أرض الميعاد.. أرض الأجداد والآباء، بما يحوّل الاحتلال والاستيطان الإسرائيليين غير الشرعيين للأراضي الفلسطينية إلى عمل مشروع غير قابل للتفاوض. والجديد في هذا الموضوع، هو انتقال إسرائيل من التعبئة الداخلية عبر مناهج التعليم والخطاب التعبوي السياسي والديني والفكري بشأن الحق التاريخي والوعد الإلهي الذي يشرعن الاستعمار، إلى موقف أميركي رسمي تمثّل بصورة خاصة في قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ضم القدس وتثبيت الاستيطان وشطب قضية اللاجئين وسيادة إسرائيل على كامل أرض فلسطين التاريخية بناء على تلك الأيديولوجيا الدينية المتزمتة. فلأول مرة بعد وعد بلفور وصك الانتداب يسجَّل انحياز أميركي إلى معتقد أيديولوجي في وثائق رسمية كـ "صفقة القرن" التي تحدثت عن عدد المرات التي ورد فيها اسم القدس في التوراة وهو "700" مرة،[3] كدليل على أحقية إسرائيل فيها!
إزاء التعامل الأميركي والصمت الدولي مع تقديم الأيديولوجيا، واعتماد التوراة مرجعية وناظماً في الصراع، وكتاباً تاريخياً لا يجوز الاستئناف عليه بعد أن رُقّي من كتاب لاهوتي إلى مرتبة "ميثو تاريخ"، مثلما يرى المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند،[4] فإن من المفترض الاعتراض على عملية الاستبدال الفضيحة المهينة لتطور البشرية، والمتناقضة مع ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وكشف التناقض في الادعاءات الإسرائيلية - الأميركية استناداً إلى "الهستوريوغرافيات" المسماة ما بعد صهيونية، وإنجازات علوم الآثار الجديدة، وأبحاث تاريخية قديمة منسية، فضلاً عن نظريات عصرية في بحث الأمة والقومية.[5] ومن المفترض أيضاً قطع الطريق على التحول من صراع سياسي بين مستعمرين وسكان أصليين إلى صراع ديني؛ فالصراع هو بين الحقوق الشرعية العادلة، وأطماع كولونيالية سافرة، وبين حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره من دون وصاية أو تدخّل، وبين شطب هذا الحق استناداً إلى غطرسة القوة.
إن إعادة تعريف إسرائيل، والإجابة عن أسئلة، مثل: لماذا تنفصل إسرائيل - دولة ومجتمعاً - عن عالم المبادىء والقيم العالمية (حقوق الإنسان، واتفاقيات جنيف، وقرارت الأمم المتحدة، والمنظمات الحقوقية، وغيرها)، وتتدثر بخرافة الحقّ التاريخي اليهودي في فلسطين المخالف للمعايير العلمية والحقوقية كافة؟ ولماذا لا تعترف إسرائيل بجريمة التطهير العرقي الكبرى في أواخر أربعينيات القرن العشرين وتواصل العمل بها بأشكال متنوعة؟ سؤالان يعنيان أن المطلوب هو إعادة الاعتبار إلى الصراع الفكري، وتجاوز الابتزاز والإرهاب الفكري الإسرائيلي الصهيوني، والحفاظ على مبدأ عدالة فلسطين وتحررها في مواجهة طريق إسرائيل الاستعماري والعنصري. فطريق فلسطين مقترن بتفوّق سياسي وأخلاقي ومعنوي، وخصوصاً في مرحلة الانحطاط والهوان والاندلاق العربي على الدولة الاستعمارية التي تخوض الآن تثبيت احتلالها وتوسعها الاستعماري، وتثبيت سيطرتها على الشعب الفلسطيني بصيغة نظام أبارتهايد استعماري.
الاستراتيجيا الملائمة
ثمة رؤيتان إلى حل القضية الفلسطينية: الأولى تعتمد على منطق القانون والقرارات الدولية لقيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، والثانية هي الإيمان بالعدالة المطلقة المتمثلة في قيام دولة فلسطينية على كامل التراب التاريخي.
الرؤية الأولى هي العدالة النسبية لفلسطين عبر الحل الدولي الذي يعطي فلسطين نظرياً دولة على 22% من الأرض، وهو حل ظالم، ومع ذلك، فإن دولة الاحتلال تعمل على إفشاله عملياً، لكنه يحظى بدعم دول وشعوب ومنظمات في سائر أنحاء العالم، وقيمته الأساسية تكمن في أنه يشكل غطاء للنضال الفلسطيني بجميع أشكاله، كالدفاع عن حق اللاجئين الفردي والجمعي في العودة وذلك بحسب القرار رقم 194، والتصدي لجريمة الاستيطان ومصادرة الأراضي والموارد، ولجرائم القتل، والتدمير والتطهير العرقي، والتمييز عبر منظومات قوانين، وممارسة حق تقرير المصير.
إن قيام الدولة الفلسطينية يمكّن الشعب الفلسطيني من استخدام الهيئات الدولية من أجل ممارسة الضغوط ومعاقبة ومحاكمة دولة الاحتلال، ويساعد في بناء جبهة عالمية ضد الاحتلال والعنصرية. هناك مَن يقول إن دولة الاحتلال دمرت مقومات الدولة على الأرض، وهذا صحيح، إذ إن إحباطها كان هدفاً مركزياً عملياً للمستوطنين ولمعسكر أرض إسرائيل الكاملة وللمؤسسة الأمنية الإسرائيلية وللفكر الصهيوني، وهؤلاء يعتبرون الدولة الفلسطينية اختراقاً للمشروع الاستعماري العنصري الديني الرافض للآخر الفلسطيني، وبداية العد العكسي لانطفاء هذا المشروع.
من هنا، يجب عدم التسليم لدولة الاحتلال بإزالة الدولة الفلسطينية عن الطاولة، بل إن الرفض الإسرائيلي لهذه الدولة يؤكد صحة هذا الهدف الفلسطيني، وذلك أخذاً بنظرية الأهداف المتناقضة. فالدولة المستقلة الحقيقية ليست هدفاً مبدئياً فحسب، بل إنها أيضاً، مركز يرعى النضال التحرري، ويعيد بناء روافع تطور المجتمع الفلسطيني كالانتقال من الاقتصاد الريعي إلى تطوير الموارد من داخل المجتمع والتجمعات في الشتات؛ ومن التعليم الصفّي إلى التعليم التحرري الذي يطلق طاقات الأجيال الجديدة؛ ومن القوانين المتخلفة التمييزية إلى منظومة قوانين عصرية تضمن الحريات والمساواة؛ ومن بنية المؤسسات البيروقراطية الشائخة إلى مؤسسات قائمة على الكفاءة والتخطيط والإنجاز والحداثة. كما أن الدولة هي المركز الذي يجسد الترابط والتكامل بين مصالح المكونات الفلسطينية (الشتات، والضفة، والقطاع، ومناطق 48)، ويرعى المطالب، ويعالج المشكلات، ويستجيب للحاجات، ويدافع عن مصالح كل فلسطيني في أي مكان. إن فشل منظمة التحرير والسلطة الفلسطينيتين في تحقيق ما سبق لا يعني أن هدف إقامة الدولة الفلسطينية فقد مبرره وحاجته، بل يعني ضرورة إحداث تغيير حقيقي في واقعَي المنظمة والسلطة، وإعادة بناء النظر في البنية السياسية الفلسطينية، ومثلما يقول غسان كنفاني: "عند الفشل لا نغير أهدافنا الوطنية بل نغير الفاشلين."
من هذا المنطلق، دعا ناصر القدوة إلى التمسك بالدولة الوطنية وتجاوز الأخطاء القاتلة التي رافقتها، كالتسليم بأن دولة الاحتلال هي التي تعطي دولة، معتبراً أن "هذا قلبٌ لكل شيء، للتاريخ والحقائق وللقانون وللموقف السياسي الصحيح"، ومؤكداً أن "الدولة الفلسطينية قائمة، وأن وجودها لا يخضع للتفاوض." والخطأ الآخر الذي أضر بهدف الدولة، بحسب القدوة، هو "التقليل من شأن الاستعمار الاستيطاني"، والتعامل معه، لا بكونه نقيضاً لإقامة دولة فلسطينية وإحلال المستعمرين مكان الشعب الفلسطيني، ولا بصفته حياة أو موت وجريمة حرب بحسب القانون الدولي، وإنما الاكتفاء بأن ما يقوم به ما هو إلّا أعمال "أحادية الجانب".[6]
والأمر الجدير بالمراجعة هو تجربة السلطة بمؤسساتها وأجهزتها وإداراتها وقوانينها وآليات اتخاذ القرار التي قدمت نموذجاً لا يبعث على الثقة، بل ساهم في إقناع أوساط شعبية واسعة بأن الدولة على هذه الشاكلة لا لزوم لها. إن تراجع القيادة الفلسطينية الرسمية أخيراً عن تعليق الاتفاقات مع دولة الاحتلال وإعادة السفيرَين الفلسطينيين إلى أبو ظبي والدوحة يكشف عن خلل سياسي وتنظيمي، أكان ذلك التفرد في اتخاذ القرار، أو إعادة ارتهان مشروع السلطة السياسي لثالوث قوامه النظام العربي الرسمي وأميركا ودولة الاحتلال، على الرغم من اعتماد هذا الثالوث صفقة القرن كحل نقيض وتصفوي للحقوق الفلسطينية. وعلى الرغم من البراهين الساطعة على مدى عقود على أن الثالوث لا يملك غير الحل الإسرائيلي الهادف إلى تصفية القضية الفلسطينية، فإن القيادة الفلسطينية لم تفكر في بناء مسار بديل يعتمد على طاقات الشعب الفلسطيني وعلى حلفاء حقيقيين.
إن بقاء استراتيجيا الاعتماد على التفاوض من خلال الثالوث غير"المقدس" لا يوصلنا إلى أكثر من حل صفقة القرن الفاقع أو المموه. والآن، تقف القيادة الرسمية عاجزة أمام صفقة القرن والتتبيع الخليجي والعربي بذريعة تعليق الضم الذي لم يتوقف أساساً، وتستنكف عن بناء عناصر قوة جديدة في مقدمها شراكة الشعب الفلسطيني في المعركة السياسية وما يقتضيه ذلك من إرساء عملية ديمقراطية واسعة، وشراكات شعبية عربية ودولية، وهي بعودتها إلى مسار أوسلو وامتداداته العربية والدولية، تغلق الأبواب جميعها أمام مسار بديل من أوسلو . إن البنية السياسية التقليدية تقف عاجزة في معركة الضم والتتبيع، وتكتفي برفع الشعارات.. وكفى الله المؤمنين شر القتال. وهكذا، تعود القيادة الفلسطينية مرة أخرى إلى لعبة إدارة الصراع مع فارق دخول الحل الإسرائيلي في حيز التطبيق.
لقد وضعت عودة السلطة الفلسطينية إلى مسار أوسلو المعارضين لهذا المسار أمام تحدي بناء مسار بديل أكثر من أي وقت مضى، والتوقف عن المعارضة السلبية التي تقتصر على رفض أوسلو، والعمل على بناء مسار وطني وشعبي بديل. وما لم تحدث تعديلات ديمقراطية جوهرية في البنية السياسية الفلسطينية، فإن هذه البنية لن تقوى على ترجمة الوظائف المناطة بها في نشأتها تحت الاحتلال وما بعد استقلالها، ولن تكون على مستوى التحديات الكبرى في المراحل كافة.
الرؤية الثانية لحل القضية الفلسطينية، هي العدالة المطلقة التي تُطرح على بساط البحث في مواجهة العدمية الإسرائيلية - الأميركية الشديدة الاستفزاز لشعب فلسطين في كل مكان، وساحة هذه العدالة هي أرض فلسطين الكاملة. لكن للأسف هذه العدالة لا تملك المقومات ولا الغطاء الشرعي الدولي والإقليمي، بل إنها محض يوتوبيا وحلم سعيد، وخصوصاً إذا توقفنا عند استحقاقاتها، كهزيمة إسرائيل الدولة النووية التي تملك ترسانة ضخمة من السلاح الأحدث، وتحوز دعم أقوى دولة في العالم، بما فيه الغرب كله، ومجموعات من الدول التي تربطها شبكة مصالح مع إسرائيل مثل روسيا والصين والهند وغيرها.
إن الظفر بعدالة نسبية مؤيدة من السواد الأعظم من دول وشعوب العالم، يعني اضطرار إسرائيل إلى التراجع عن استعمارها (احتلال 67)، وعن الأبارتهايد. هذا التراجع الضروري والممكن، والذي يتجسد في إقامة دولة فلسطينية من خلال النضال والضغط والعقوبات والعزل، يفتح الطريق أمام العدالة الناجزة التي ترتبط بشركاء، هم: أولاً، الشعوب العربية المناهضة لعلاقات التبعية والدور الإسرائيلي في تعميقها؛ ثانياً، شركاء من مجتمع المستعمرين الإسرائيليين يناهضون الكولونيالية والعنصرية الإسرائيلية والدولة الدينية المتزمتة، وهم شركاء من المحتمل أن يساهم تراجع الاحتلال في استقطابهم بوتائر أعلى، بينما يساهم بقاء الاحتلال في تحول المجتمع الإسرائيلي إلى مجتمع أكثر عنصرية وفاشية؛ ثالثاً، وهو أهم عنصر في النضال من أجل عدالة ناجزة، ونعني به جهوزية الشعب الفلسطيني التي ستُنضجها الدولة الفلسطينية، في حين يساهم الاحتلال في تفكيك تلك الجهوزية وكبحها.
الأمر المهم، مثلما يقول الكاتب اللبناني حازم صاغية، هو عدم وضع القضية الفلسطينية في "خانة الأساطير"، أي في خانة "العدالة المطلقة"، والمطالبة بكل شيء أو لا شيء، وتحويل القضية الفلسطينية إلى قضية لا حل لها، وإلى ورقة للاستخدام من طرف دول وفصائل، تحت مسمى الحقوق الكاملة والانتصار. وفي هذا السياق، يدعو صاغية إلى الاحتفاظ بالجسم السياسي للقضية (سياسة ومصالح وحقوق ) بعيداً عن الرفض وثنائيات متضادة من نوع: عودة أو لا عودة؛ تحرير كامل أو لا تحرير؛ قتال أو تسوية؛ مطلق أو نسبي.[7]
الخلاص من الاحتلال أولاً
يدور الحديث في أوساط إسرائيلية ودولية عن تعليق الضم أو تأجيله، وقد تعزز موقف التعليق بعد إعلان الاتفاق الإماراتي - الإسرائيلي الذي جاء في بنده الأول تعليق الضم. إن تأجيل الضم، أو تعليقه، أو التراجع عنه بمعزل عن إلغاء مقوماته على الأرض، لا يغير من حقيقة ممارسته وتحويله إلى أمر واقع. ويتضح ذلك في بنود مشروع صفقة القرن، والتي تؤكد بقاء الاحتلال ودوامه، وفرض السيادة الإسرائيلية على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة المجاز ضمها، وتلك غير المحبذ ضمها لأسباب ديموغرافية بحتة. وباختصار، فإن الحل الإسرائيلي - الأميركي (صفقة القرن) حسم قضية بقاء الاحتلال بترسيم ومن دونه، كما أن سقوط دونالد ترامب وفوز جوزيف بايدن لا يغيرا من طبيعة الحل الإسرائيلي ما لم يحدث تغيير في أسس الحل. وفي هذا الصدد، اعترف باراك أوباما في كتابه الجديد "أرض الميعاد" بأنه فشل في زحزحة موقف نتنياهو من الاستيطان، وتعرّض لضغوط كبيرة أدت إلى تراجعه. وعلى ضوء الاختراق الذي أحدثته صفقة ترامب في الموقف العربي المعبّر عنه في اتفاقات التتبيع المزرية، ثمة احتمال باستئناف التفاوض الفلسطيني - الإسرائيلي على قاعدة المفهوم الإسرائيلي لحل الصراع مع اختلاف في المصطلحات، وما عودة السلطة الفلسطينية إلى الاتفاقات المبرمة إلّا مؤشر إلى ذلك.
إزاء ذلك، من المنطقي طرح قضية الاحتلال والاستيطان على بساط البحث، وإنهاء عهد التعايش مع الاحتلال ووقائعه الزاحفة، وزمن العيش من دون تحرر أو حقوق، والاكتفاء بالخطابات والمواقف والشكاوى وممارسة الدور السلبي للضحية. لهذا، من الضروري تغيير قواعد اللعبة السياسية التي فرضتها دولة الاحتلال كأمر واقع، وذلك عبر وضع خطة أو برنامج خلاص إجرائي بمشاركة جميع القوى السياسية (المنظمة وفصائلها وحركتا "حماس" والجهاد الإسلامي)، والمجتمع المدني ومؤسساته وأطره.
وكأولوية مهمة، يجب إسقاط صفقة القرن، والبداية تكون بالعمل على تحويل الاحتلال والاستيطان إلى قضية خاسرة، وذلك عن طريق: تنظيم احتجاجات جماهيرية سلمية مستمرة ضد الاستيطان في محيط المستعمرات والطرق المؤدية إليها والحواجز العسكرية والأراضي المصادرة؛ إنهاء العمالة الفلسطينية داخل المستعمرات إلى غير رجعة، وتأمين بدائل للعمال؛ رفع قضية الاستيطان في المحاكم الدولية على أنها جريمة حرب؛ المقاطعة الشاملة للسلع والمنتوجات الإسرائيلية التي لها بديل فلسطيني أو عربي أو أجنبي؛ استئناف مسيرات الاحتجاج في قطاع غزة، وتحويل الشريط الحدودي إلى ميادين احتجاج شعبي يتم من خلالها طرح قضايا الحصار ومحاكمة الاحتلال؛ التواصل مع الحركات والقوى الداعمة لتحرر الشعب الفلسطيني.
إعادة النظر في البنية المؤسساتية الفلسطينية
إن الصمود والبقاء المنظّمين للشعب، وتغيير قواعد الصراع مع الاحتلال، أمور تتطلب بنية تنظيمية جديدة تملك ديناميات التغيير والتطور. وربما لا يختلف كثيرون على خواء البنية المؤسساتية القائمة وضعف قدرتها على المواجهة والاضطلاع بمهمات كبيرة، إذ إن مؤسسات المنظمة والسلطة شائخة وعاجزة، ولهذا لا مناص من إعادة بنائها كي تكون بمستوى التحديات، بل يجب اتخاذ قرارات استراتيجية تكون قادرة على استيعاب قطاعات كبيرة من المواطنين في الحياة السياسية.
فالمجلس الوطني المتضخم بحاجة إلى خفض عدد أعضائه عبر إلغاء العضويات غير الفاعلة والتي لا تشارك في لجان فاعلة، بينما يكمن الحل لغياب إمكان إجراء انتخابات في القدس وفي بعض أماكن الشتات، في اعتماد عضوية للاتحادات الشعبية والمهنية المنتخبة، والتي من المفترض إعادة تنظيم عملية الانتخاب فيها على أسس جديدة تتجاوز نظام الكوتا وسيطرة الحزب الحاكم عليها. الفلسطينيون بحاجة إلى مجلس وطني فاعل بعضوية قادرة على العمل والاجتماع، وبمشاركة "حماس" والجهاد الإسلامي وجميع القوى السياسية والشخصيات الاجتماعية المستقلة والفاعلة.
أمّا بالنسبة إلى السلطة الوطنية، فإن هناك فائضاً كبيراً عن الحاجة في عدد الوزارات والهيئات الموازية وعدد الوزراء ومَن هم في مرتبة وزراء. والسؤال هو: لماذا لا يتم اختزال الوزارات إلى عشر، والاستغناء عن أكثرية المؤسسات التي لا وظيفة عملية لها، ولا معنى لاستمرار بقائها عبئاً على الموازنة؟ المطلوب هو تقليص طبقة كبار الموظفين بمَن في ذلك الوزراء السابقون، ولا شك في أن دمقرطة المؤسسة الرسمية يعزز من شرعيتها الداخلية والخارجية. غير أن دمقرطة المؤسسات العامة المشتركة وثيقة الصلة بدمقرطة المؤسسات الحزبية التي لا تقل سوءاً عن المؤسسات العامة. ومن أجل ضمان الديمقراطية التي تعني إشراك قطاعات واسعة من الشعب، فإن ذلك يحتاج إلى:
1 - إعادة تعريف العلاقة بين المنظمة والدولة والسلطة والمعارضة وحل التناقض في الصلاحيات، استناداً إلى قانون يحدد مهمات كل مؤسسة، والتكامل فيما بينها، وإيجاد صيغة لحل ازدواجية السلطة وازدواجية المركز القيادي، واستخدام القضية الفلسطينية كورقة إقليمية؛ والأهم رفض جميع أشكال التبعية الأمنية والاقتصادية لسلطات الاحتلال، وخصوصاً التنسيق الأمني.
2 – إنشاء صندوق مالي وطني مستقل (أو تطوير الصندوق الوطني للمنظمة)، يكون له نظام خاص لا يخضع لتحكّم جهة معينة، ولا يُستخدم في الضغط والعقاب السياسي ويعمل بشفافية، ويستند أساساً إلى تطوير الموارد من داخل المجتمع والتجمعات الفلسطينية، وتشجيع الاستثمار التعاوني، ويخضع للرقابة.
3 - هيئة رقابة مستقلة تتابع الالتزام بمعايير الكفاءة والأداء، وتساهم في تجاوز الأنظمة البيروقراطية البائسة المعمول بها في ديوان الموظفين، وهيئة التقاعد، وسياسة التوظيف والترفيع استناداً إلى الولاء والنفاق السياسي الكاذب.
4 - هيئة مستقلة لمكافحة الفساد، تعيد طرح ملفات الفساد الإداري والسياسي والمالي، وتُخضع جميع المتهمين من كبار المسؤولين للمحاسبة واستعادة الأموال المسروقة بأثر رجعي؛ هيئة تمارس الشفافية وتتجاوز سياسة إبرام الصفقات مع المسؤولين المدانين.
إن المهمات السابقة لا تتحقق تلقائياً وعبر المطالبة فقط، بل تحتاج أيضاً إلى نضال ديمقراطي مثابر يعدّل ميزان القوى الداخلي. أمّا إخفاق التغيير من داخل المؤسسة الرسمية، بما في ذلك المؤسسة الحزبية، فيطرح روافع تغيير من خارج المؤسسة من نوع:
- تطوير نموذج المقاطعة (BDS) داخلياً، وتجاوز حالة الضعف والسلبية التي تعتري عمل المؤسستين الرسمية والحزبية داخل فلسطين.
- إعادة النظر في بناء مؤسسة ضمان اجتماعي، ووضع قوانين تلبّي مصلحة العمال من خلال نقابات عمال مستقلة، وعدم انتظار الحلول والتفاهم بين أرباب العمل والحكومة.
- إعادة النظر في دور الاتحادات الشعبية ووظائفها، كاتحاد الكتّاب، واتحاد الفنانين، واتحاد المعلمين، والمرأة، والطلاب، وخروجها من قبضة السلطة ومن نظام الكوتا الذي قام بدور أداة سيطرة وتحكّم في عملها. ولا شك في أن عملية الإحياء تبدأ بنضال مستقل وبمجموعات ضغط وبأجسام مستقلة.
- المجتمع الفلسطيني بحاجة إلى ثورة في التعليم تزيل القيود عن عقول الأجيال الجديدة، وتفتح عملية التعليم على المعرفة والحداثة والإبداع والابتكار. والبداية تكون باعتماد جسم مهني أكاديمي مستقل، وبتحويل مهمة تطوير التعليم إلى قضية رأي عام.
هذه المهمات وغيرها تتحقق فقط بمبادرات وبقصص نجاح وبنضال جدي، وهي مهمات مترابطة تعوزها رؤية هي أقرب إلى عقد وطني اجتماعي.
عقد وطني اجتماعي جديد
في ظل المستجدات كلها، واحتمالات المستقبل، فإن من الضروري بمكان، تجديد العقد الوطني الاجتماعي.
لقد أدى الميثاق الوطني دور عقد وطني حتى نهاية الانتفاضة الأولى في سنة 1994 وبداية مرحلة اتفاق أوسلو الذي أنهته صفقة القرن، والتحولات الاجتماعية الكبيرة، ودخول الإسلام السياسي إلى الحلبة السياسية.
إن تجديد العقد الوطني بحيث يصبح عقداً اجتماعياً وطنياً، أمر أساسي للتعريف بكل من: المشروع الوطني؛ الهدف المركزي؛ أشكال النضال والإصلاحات في البنية الإدارية والتنظيمية؛ الالتزام بالحريات وبالتعدد السياسي والثقافي والديني، وبالعدالة والمساواة بين مكونات المجتمع؛ تحديد العلاقة بين المكونات في الداخل والخارج، وداخل الداخل، أي مناطق 48. إن التفاهم والاتفاق بشأن هذه القضايا والمهمات هو عقد وطني اجتماعي بحد ذاته.
المصادر:
[1] شروط نتنياهو العشرة هي: 1) ضم القدس الموحدة كعاصمة لإسرائيل؛ 2) ضم 30% من أراضي الضفة بحيث تخضع لقانون إسرائيلي، لكن من دون إعطاء السكان جنسية إسرائيلية؛ 3) فرض السيادة والسيطرة الامنية الإسرائيلية على كامل الضفة الغربية؛ 4) شطب حق العودة وعدم قبول عودة أي لاجىء فلسطيني؛ 5) السيطرة الإسرائيلية على الأجواء والمعابر والمياه الإقليمية، وألّا يكون للكيان الفلسطيني حدود مع أحد؛ 6) تقاسم المسجد الأقصى مكانياً وزمانياً؛ 7) اعتبار القرارات والمرجعيات الدولية لاغية؛ 8) بقاء المستعمرات والاعتراف بها؛ 9) الاعتراف بإسرائيل دولة للشعب اليهودي (يهودية الدولة)؛ 10) جمع سلاح قطاع غزة والحفاظ على أمن غلافه.
[2] الاقتباس هو من حوار مع ميساء شقير بعنوان: "افتراض الاستعمار الاستيطاني إقرار بهزيمة فلسطين وأبدية إسرائيل"، في موقع "عرب 48"، 16 / 5 / 2020، في الرابط الإلكتروني.
[3] عزمي بشارة، "صفقة ترامب – نتنياهو: الطريق إلى النص، ومنه إلى الإجابة عن سؤال ما العمل" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، 2020).
[4] شلومو ساند، "اختراع الشعب اليهودي" (المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية / مدار، 2010).
[5] المصدر نفسه.
[6] ناصر القدوة، "مرة أُخرى.. الدولة الوطنية والثبات عليها هو الأساس"، موقع صحيفة "الحدث" (26 / 7 / 2020)، في الرابط الإلكتروني.
[7] حازم صاغية، "إرجاع القضية الفلسطينية إلى السياسة!"، "الشرق الأوسط"، 2 / 8 / 2020، في الرابط الإلكتروني.