بنيامين نتنياهو ومبدأ ''رعاية قوة إسرائيل''
نبذة مختصرة: 

تعمد هذه المقالة إلى تبيان الملامح الرئيسية لسياسات بنيامين نتنياهو منذ أن تولى رئاسة الحكومة منذ عقد ونيّف، وذلك استناداً إلى شهاداته بشأنها، والتي يمكن بطبيعة الحال أن تخضع للإثبات من طرف المقربين منه أو المنظّرين لنهجه، أو للتفنيد من جانب معارضيه. والتركيز على شهاداته هو بهدف الكشف عمّا سعى ولا يزال يسعى لتحقيقه.

النص الكامل: 

سواء اقتربت نهاية عهد بنيامين نتنياهو، صاحب الولاية الأطول في تاريخ إسرائيل، أم لم تقترب بعد، على خلفية اتهامه بشبهات فساد، أو تحت وطأة أزمة فيروس كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والصحية، فإن الملامح الرئيسية لهذا العهد أصبحت ظاهرة للعيان على صعيدَي السياستين الداخلية والخارجية اللتين انتهجهما منذ أن عاد إلى سدة الحكم في سنة 2009 بعد عشرة أعوام من تسلّم ولايته الأولى في هذا المنصب خلال الفترة 1996 - 1999.

والواضح منذ الآن أن أحد أبرز تلك الملامح هو آخر ما طبع نهاية عهده، وهو التوصل إلى ما يسمى "اتفاقات أبراهام" للسلام وتطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان، والتي اعتبر نتنياهو في سياق الخطاب الذي ألقاه أمام الكنيست في 10 تشرين الثاني / نوفمبر 2020، أنها وليدة جهود متسقة بذلها على مدار أعوام طويلة، ونتيجة اتصالات علنية وسرية كثيرة أغلبيتها كانت سرية، كما أنها بالمقدار نفسه وليدة جهود متسقة أُخرى قادها خلال أعوام لتعزيز قوة إسرائيل ومكانتها في الشرق الأوسط وفي العالم.

وممّا قاله نتنياهو في الخطاب نفسه:

 تم تحقيق ذلك ["اتفاقات أبراهام"] نتيجة تغيير السياسة. الحكومات الإسرائيلية بقيادتي ترعى خلال السنوات العشر الأخيرة قوتنا الأمنية والاقتصادية والتكنولوجية والسيبرانية والدبلوماسية بشكل ممنهج. إسرائيل القوية تقرب إليها دولاً عربية أُخرى، بما فيها دول لم تكشف بعد عن التطبيع الذي يتطور بيننا، ولكن بوادر التطبيع موجودة وتنتظر أن تزهر. وإن واصلنا السياسة التي رسمتها فإنني على قناعة بأن هذا الإزهار سيكون مكشوفاً وستكون هناك دول أُخرى ستنضم إلى دائرة السلام. هذه الدائرة ستتوسع كما سيتم تعزيز الاستقرار والازدهار وسنقف معا سدّاً منيعاً ضد الإسلام المتطرف الذي تقوده إيران.

هذه الرؤية أثبتت نجاعتها وهي على نقيض الرؤية القديمة التي اشترطت كل تقدم في العلاقات الإسرائيلية العربية ولو كان صغيراً بموافقة فلسطينية. الفيتو الفلسطيني عرقل عملية السلام بشكل كامل. ومنذ إعلان بلفور [1917] وحتى أيامنا هذه يرفض الفلسطينيون الاعتراف بحقّ الدولة القومية الخاصة بالشعب اليهودي في الوجود في أرض إسرائيل. إنهم يطالبون بالانسحاب لخطوط 67 واقتلاع عشرات الألوف من الإسرائيليين [المستوطنين] من منازلهم وجرف إسرائيل باللاجئين وتقسيم القدس ومطالبات أُخرى لا تستطيع أي حكومة مسؤولة في إسرائيل قبولها. ولذا، إذا اعتمدنا على الرفض الفلسطيني لتوسيع دائرة السلام، سنضطر إلى الانتظار لمدة سنوات عديدة. ولكنني أؤمن بأن اتفاقيات السلام مع العالم العربي قد تساهم في عودة الفلسطينيين إلى رشدهم وربما نتيجة ذلك أنهم سيتنازلون عن مطالبهم المتشددة التي مغزاها العملي هو تدمير إسرائيل. وهكذا فقط سيتم شق الطريق نحو السلام الحقيقي بيننا (موقع ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي، في الشبكة الإلكترونية).

وفي واقع الحال، فإن ما يمكن توصيفه بأنه "مبدأ رعاية القوة" يشكّل مبدأ موجِّهاً لنتنياهو منذ ما بعد اندلاع الثورات العربية في سنة 2011، مثلما سنذكر لاحقاً، وهو ينسحب في الوقت عينه على سياسته الداخلية التي تقوم على تمجيد "مبدأ الحوكمة" شبه الديكتاتوري حتى لو على حساب سيادة القانون، كأن مهمة الدولة الرئيسية هي الحكم بأي ثمن ومهما يحدث، الأمر الذي تؤكده أيضاً عدة دراسات إسرائيلية. وبلغ هذا النهج ذروته مع سنّ "قانون القومية الإسرائيلي" في سنة 2018، والذي شطب المبدأ الملزم بتحقيق وضمان المساواة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع المواطنين، بغضّ النظر عن الانتماء الديني أو العرقي أو الجنسي. وتصاعدت وتيرة هذا النهج في الآونة الأخيرة مع تقديم لوائح اتهام ضد نتنياهو إلى المحكمة بشبهة ارتكاب مخالفات فساد خطرة.

كذلك لا يجوز الاستهانة بما تلقّاه هذا المبدأ من دعم في ظل وجود إدارة أميركية متماهية مع اليمين الإسرائيلي وسرديته، قادها الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب.

 عودة إلى البداية

يمكن تحديد نقطة إطلاق "مبدأ رعاية القوة" على مستوى السياسة الخارجية بما في ذلك حيال قضية فلسطين، فيما بات يُعرف بـ "خطاب بار - إيلان 2" الذي ألقاه نتنياهو في 6 تشرين الأول / أكتوبر 2013، والذي اعتبره اليمين الإسرائيلي بأنه الخطاب الأفضل له كرئيس للحكومة، نظراً إلى كونه ظهر، من خلال الخطاب، في مظهر "اليهودي المنتصب القامة" الذي يطرح على المعارضين أن "وجود الشعب اليهودي في وطنه"، هو مطلب لا يقبل التأويل، وهو الاعتراف بحقّ هذا الشعب في دولة خاصة به هي إسرائيل كي يُتاح إمكان المضي قدماً نحو حل حقيقي للصراع. وفي رأي عدد من الناطقين بلسان هذا اليمين، فإن آخر جملة في خطاب رئيس الحكومة هذا - والتي قال فيها حرفياً: "كلما عززنا قوتنا، وزِدنا دولتنا رسوخاً، وبنينا اقتصادنا وعززنا مجتمعنا، وباختصار كلما أصبحنا أقوياء، سنحت الفرصة لنقل هذا التغيير إلى جيراننا أيضاً" - تثبت استمرار تمسّك نتنياهو بسياسة "الجدار الحديدي" التي وضعها زئيف جابوتنسكي، والتي قامت على أساس معادلة فحواها: كل ما لا تستطيع إسرائيل تحقيقه مع الشعوب العربية بالقوة يمكنها أن تحققه بمزيد من القوة.

وفي واقع الأمر، فإن أقطاب اليمين الإسرائيلي، قبل هذا الخطاب، كانوا يعبّرون عن تململهم من بعض الخطوات التي أقدم عليها نتنياهو وجعلته، بكيفية ما، ينأى بنفسه عن المواقف اليمينية التقليدية. وتم توجيه جُلّ سهام النقد إلى ما يلي: خطاب "بار - إيلان 1" الذي ألقاه نتنياهو في 14 حزيران / يونيو 2009 وتبنّى فيه "حل دولتين لشعبين"، وهو "خلاصة نظرية اليسار الصهيوني"؛ تجميد البناء في المستعمرات عشرة أشهر والاستعداد لتمديد ذلك في مقابل الاعتراف بـ "دولة الشعب اليهودي"؛ تجميد جزئي للاستيطان في القدس وفي مدن الضفة الغربية كافة؛ الاستعداد للتفاوض بشأن الانسحاب من هضبة الجولان؛ المعاملة الباردة للمستوطنين الذين يسكنون خارج "الكتل الكبرى".

ومنذ ذلك الخطاب لوحظ أن نتنياهو يشدد على أن ثمة واقعاً أمنياً جديداً يواجه إسرائيل ويُلزمها بزيادة قدرات جيشها، سواء منها الهجومية التي تكلّف أموالاً طائلة، أو الدفاعية التي تكلّف أموالاً طائلة أيضاً، الأمر الذي يعني ضرورة الحصول على موارد مالية أكبر كثيراً ممّا كان الجيش التقليدي الذي يخوض حرباً بالأسلحة التقليدية بحاجة إليه. ولتحقيق هذا يجب أن يكون الأمر مستنداً إلى اقتصاد قوي.

ففي خطاب ألقاه نتنياهو أمام المؤتمر الدولي الرابع عشر لـ "معهد سياسة مكافحة الإرهاب" في هيرتسليا في 11 أيلول / سبتمبر 2014، أشار إلى أن الشرق الأوسط يتمزق أشلاء، إذ ينهار بعض الدول فيه، وتصعد من فتحات الكثبان الرملية تيارات إسلامية متشددة بشتى أشكالها حاملة معها عداواتها القديمة - الجديدة. وفي ضوء ذلك يواجه الشيعة السنّة، وتتصارع التيارات السنّية بعضها مع بعض، مع إجماعها على مكافحة الغرب وإسرائيل. وتوظّف جميع هذه التيارات المتشددة الأسلوب ذاته - "الإرهاب" الذي يستهدف أولاً أبناء شعوب هذه التيارات، ثم يستهدف إسرائيل. غير أن "الإرهاب" الذي يستهدف إسرائيل يمارَس - في رأي نتنياهو – على نحو شديد الخصوصية، لأنه لا يستهدف المدنيين الإسرائيليين فحسب، بل يجري تطبيقه بدايـة أيضاً من خلال استخدام المدنيين لديهم [يقصد الفلسطينيين] دروعاً بشرية.

وسبق في سياق خطاب استراتيجي اعتبره البعض استثنائياً، وألقاه نتنياهو أمام ندوة عقدها "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب في 29 حزيران / يونيو 2014، وكان موضوعها "خيارات إسرائيل بعد وصول الحل الدائم [مع الفلسطينيين] إلى طريق مسدودة"، أن طرح نتنياهو عقيدة سياسية - أمنية من المفترض في رأيه أن تسمح لإسرائيل بأن تعبر بسلام الاضطرابات الحالية، وتسونامي الإسلام المتشدد. والحصة الأساسية في "عقيدة نتنياهو" هذه مخصصة لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط الذي سيستمر في نظره أعواماً عديدة سيهدد الإسلام المتشدد خلالها السلام في المنطقة وأمن سكانها لعقد من الزمن أو أكثر على الأقل.

وتكلم نتنياهو عن أربعة تحديات أمنية تقع في صلب هذه العقيدة:

الأول، تحصين الحدود والدفاع عنها عن طريق بناء سياج أمني في الشرق عند منطقة الحدود مع الأردن، إلى جانب السياج الموجود في هضبة الجولان، وذلك الموجود في سيناء (على طول منطقة الحدود مع مصر). يضاف إلى ذلك وجود عسكري إسرائيلي على نهر الأردن والمحافظة على استقلالية إسرائيل العسكرية. وأوضح نتنياهو أنه في ظل الشروط الحالية، لا يمكن الاعتماد على قوات عربية درّبها أجانب، معطياً نماذج لفشل هذه النظرية غامزاً فيها من قناة الولايات المتحدة التي دربت الجيش العراقي، وكيف أنه انهار بعد انسحابها من هناك.

الثاني، السيطرة الأمنية على المنطقة الواقعة بين الأردن والتجمعات السكانية الإسرائيلية. بكلمات بسيطة، لا تريد إسرائيل أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة من السلاح الثقيل فحسب، بل تريد أيضاً أن تكون إسرائيل قادرة على القيام بعمليات إحباط وردع عسكرية داخل أراضيها، وبذلك تكون الدولة الفلسطينية ذات سيطرة سياسية واقتصادية فقط. ورفض نتنياهو مقولة أن السيطرة الأمنية الإسرائيلية تشكل تعدياً على السيادة الفلسطينية، وأعطى مثالاً اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية التي توجد فيها قوات عسكرية أميركية للدفاع عن المصالح الأمنية للولايات المتحدة.

الثالث، التعاون الإقليمي بين إسرائيل ودول عربية معتدلة بهدف كبح الإسلاميين المتشددين. وكرّر نتنياهو رغبته في التعاون مع دول الخليج وفي طليعتها السعودية، لكنه أقرّ للمرة الأولى علناً بأن إسرائيل مستعدة لمساعدة الأردن عسكرياً، وأنها تؤيد تطلّع كردستان نحو الاستقلال السياسي. كما اعتبر مصر شريكاً مهماً في هذا المعسكر.

الرابع، منع إيران من التحول إلى دولة عتبة نووية. ففي رأي نتنياهو، من الأفضل لإسرائيل وللسلام في العالم عدم التوصل إلى اتفاق مع إيران على التوصل إلى اتفاق سيىء. وسبب ذلك أنه إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، فإن العقوبات الاقتصادية على إيران ستستمر، وفي النهاية ستضطر طهران إلى الرضوخ لمطالب الغرب بدلاً من أن يخضع الغرب لمطالبها. ويطالب نتنياهو بتجريد إيران من قدرتها على تخصيب اليورانيوم، مثلما جرى مع سورية لدى تجريدها من القدرة على إنتاج سلاح كيميائي.

واستشفت عدة تحليلات في حينه أن هناك بنداً أساسياً وجديداً في "عقيدة نتنياهو الأمنية" برز في هذا الخطاب، فحواه السعي لإيجاد "حل موقت" للصراع مع الفلسطينيين، لكن فقط في إطار التعاون الإقليمي.

 تحوّلات في علاقات إسرائيل الخارجية

على صعيد علاقات إسرائيل الخارجية في عهد نتنياهو يمكن أن نشير إلى ما يلي، على سبيل المثال، لا الحصر:

1 - في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، استغل نتنياهو الأزمة مع تركيا لإقامة تحالف إقليمي يضم قبرص واليونان، استهدف تعزيز مكانة إسرائيل في تلك المنطقة، من خلال خلق فرص اقتصادية وتعزيز التعاون في مجال الطاقة.

2 - يرى نتنياهو أن أوروبا الغربية تصبح، وباستمرار، أكثر معاداة لإسرائيل، وذلك على خلفية التدفق غير المضبوط للاجئين والمهاجرين المسلمين، والتأثير الذي يمارسونه في هذه القارة، فضلاً عن اعتباره أن معاداة الصهيونية هي معاداة دفينة للسامية. ولذا، يعمل نتنياهو من أجل تقليص تأثير الاتحاد الأوروبي في إسرائيل، من خلال تقليص مدى اعتماد إسرائيل على هذا الاتحاد. وتجسدت هذه المحاولات في تقرّب إسرائيل من دول أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى التي لا تشعر بالارتياح ضمن الاتحاد الأوروبي.

3 - فتح نتنياهو الاقتصاد الإسرائيلي أمام أسواق جديدة لم تكن متاحة أمامه من قبل: ففي آسيا، عزز نتنياهو العلاقات مع اليابان التي قام بزيارة مهمة لها في أيار / مايو 2014، ثم استضاف رئيس حكومتها في كانون الثاني / يناير 2015. كما حدث تحوّل في العلاقات الإسرائيلية - الصينية، إذ يولي نتنياهو الصين أهمية عليا للاقتصاد الإسرائيلي، نظراً إلى سوقها الهائلة والعدد الضخم جداً لمواطنيها، الأمر الذي يجعلها قوة اقتصادية كامنة غير محدودة بالنسبة إلى إسرائيل. وفي آذار / مارس 2017، أجرى نتنياهو زيارة للصين في ذكرى مرور 25 عاماً على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، مصطحباً معه مجموعة من أرباب الصناعة ورجال الأعمال الإسرائيليين من قطاعات عديدة متنوعة. وخلال تلك الزيارة، جرى توقيع 25 اتفاقية للتعاون في عدة مجالات تصل قيمتها الإجمالية، وفق التقديرات الصينية، إلى نحو مليارَي دولار. كما أجرى نتنياهو زيارة لسنغافورة في شباط / فبراير 2017، وقبل ذلك بعام واحد، قام رئيس حكومة سنغافورة بزيارة لإسرائيل استغرقت أربعة أيام، وهي الزيارة الأولى لرئيس حكومة سنغافورية إلى إسرائيل، وخلال الزيارة، جرى توقيع اتفاقية تعاون بين الدولتين. كما أجرى نتنياهو زيارة أُخرى لأستراليا، وذلك بعد زيارته لسنغافورة مباشرة. وفي تموز / يوليو 2017، زار إسرائيلَ رئيسُ الحكومة الهندية، ناريندرا مودي، في أول زيارة يقوم بها زعيم هندي. وعلى غرار الصين، فإن نتنياهو يولي العلاقات مع الهند أهمية اقتصادية بعيدة المدى، وكانت هذه العلاقات قد توثقت بصورة جدية قبل تلك الزيارة بوقت طويل، وذلك في إثر تسلّم مودي مهمات منصبه. وعشية زيارة هذ الأخير لإسرائيل، أعلنت الصناعات الجوية الإسرائيلية أنها وقّعت مع الهند صفقة تبلغ قيمتها مليارَي دولار لتزويد الجيش الهندي بمنظومات دفاع جوية. وتُعتبر هذه صفقة التصدير الأمني الأكبر في تاريخ الدولة. وعززت إسرائيل في عهد نتنياهو علاقاتها أيضاً مع دول إسلامية في آسيا الوسطى، تتمتع بأهمية استراتيجية أمنية قصوى نظراً إلى قربها من إيران. وفي كانون الأول / ديسمبر 2016، أجرى نتنياهو زيارة لأذربيجان هي المرة الثانية التي يزور فيها رئيس حكومة إسرائيلية هذه الدولة (في المرة الأولى أيضاً كان نتنياهو نفسه هو رئيس الحكومة)، ثم قام بزيارة كازاخستان. وإلى جانب تعزيز المصالح الأمنية الإسرائيلية، جرى توقيع اتفاقيات اقتصادية مهمة بين الدولتين. وبذل نتنياهو جهوداً دبلوماسية أُخرى قبل ذلك بشهر واحد، حين قام بزيارة هي الأولى لرئيس حكومة إسرائيلية إلى جنوب أميركا. فخلال يوم واحد، زار ثلاث دول هي الأرجنتين وكولومبيا والمكسيك وعقد اجتماعات مع رؤسائها. ورافق نتنياهو في زيارته تلك وفد كبير من رجال الأعمال الذين أرادوا إدخال المنتوجات الإسرائيلية إلى الأسواق الكبيرة في أميركا الجنوبية.

4 - قام نتنياهو في حزيران / يونيو 2017 بزيارة لأفريقيا الغربية شملت كلاً من أوغندا، وكينيا، ورواندا، وأثيوبيا، وليبيريا. وكان الهدف من تلك الزيارة تقريب القارة الأفريقية الغربية إلى إسرائيل، بعد عقدين من الإهمال الدبلوماسي والسياسي. وكان القصد تغيير المواقف المعادية التي اعتمدتها دول أفريقيا حيال إسرائيل في الهيئات والمنتديات العالمية، وهنا أيضاً كانت الاستراتيجيا واضحة تماماً: التكنولوجيا والمعرفة الإسرائيليتان في مقابل التغيير في المواقف والتوجهات السياسية. وخلال الزيارة، أصبح نتنياهو الزعيم غير الأفريقي الأول الذي يلقي خطاباً أمام مؤتمر دول أفريقيا الغربية، والتي تشكل الدول الإسلامية ثُلث أعضائها.

5 - منذ عدة أعوام يجري الحديث عن تقارب غير مسبوق بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. ففي حزيران / يونيو 2015، التقى المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية آنذاك، دوري غولد، في واشنطن، بالجنرال السعودي أنور عشقي، المقرب جداً من دوائر الحكم في السعودية. وبحسب مصادر رفيعة في القدس، فإن هذا اللقاء حظي بموافقة ومباركة مسبقتين من رئيس الحكومة الإسرائيلية ومسؤولي الحكم في السعودية. وفي شباط / فبراير 2016، التقى وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، موشيه يعلون، بمدير وكالة الاستخبارات السعودية السابق، الأمير تركي الفيصل، خلال المؤتمر الدولي للأمن الذي عُقد في برلين، وبعد ذلك ببضعة أيام، نُشرت أنباء غير مؤكدة أفادت بأن وفداً عسكرياً رفيع المستوى من السعودية وصل إلى إسرائيل في زيارة سرية. وأخيراً كشفت وسائل إعلام إسرائيلية عن لقاء عقده نتنياهو برفقة رئيس الموساد يوسي كوهين في مدينة نيوم، وهو أمر نفاه لاحقاً وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان. مثل هذه الزيارات واللقاءات جرى، أيضاً، بين مسؤولين إسرائيليين كبار وبين نظرائهم من البحرين والكويت وعُمان وقطر. ففي 17 أيلول / سبتمبر 2017، نُشر أن حاخامَين اثنين من المسؤولين في "مركز شمعون فيزنطال" زارا دولة البحرين في بداية تلك السنة، واستمعا إلى ملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة، وهو يدعو إلى إلغاء المقاطعة العربية على إسرائيل، ويعلن السماح لمواطني دولته بزيارة إسرائيل.

6 - عزّز نتنياهو علاقاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بغية وضع وتحديد آليات تمنع حالات محتملة من سوء التفاهم والصدام بين الجيشين، الإسرائيلي والروسي، في الأراضي السورية.

 استمرار أم قطيعة مع سياسة الأسلاف؟

بدأنا هذا العرض بآخر التصريحات الصادرة عن نتنياهو فيما يتعلق بما سمّاه "الشروط التي يجب توفرها لتحقيق سلام حقيقي بين إسرائيل والفلسطينيين"، والتي اختزلها بتنازل الجانب الفلسطيني عن "مطالب متشددة مغزاها العملي هو تدمير إسرائيل"، على حدّ تعبيره. وحدّد هذه المطالب بما يلي: رفض الفلسطينيين الاعتراف بحقّ الدولة القومية الخاصة بالشعب اليهودي في الوجود في أرض إسرائيل؛ مطلب الانسحاب إلى خطوط 1967 واقتلاع عشرات الألوف من الإسرائيليين [المستوطنين] من منازلهم؛ إغراق إسرائيل باللاجئين؛ تقسيم القدس؛ إلخ.

ولا بدّ هنا من التشديد على أن ما يطرحه نتنياهو بالنسبة إلى الفلسطينيين يُعتبر، بكيفية ما، استمراراً للسياسة المطروحة إزاء تسوية قضية فلسطين، مثلما جرى التعبير عنها من خلال أسلافه، وحتى بعد انطلاق هذه التسوية في طريق لم تكن قد عُبّدت من قبل - طريق المفاوضات المباشرة - بدءاً من مسار أوسلو في سنة 1993. ومع ذلك، لا بدّ من أن نأخذ في الاعتبار ما يلي:

أولاً، إن نتنياهو هو مَن بدأ بالدفع قدماً نحو معادلة أن الطريق إلى تسوية قضية فلسطين تمرّ عبر تطبيع علاقات إسرائيل مع أكثر ما يمكن من الأنظمة العربية خلافاً لما اتّبعه أسلافه كافة.

ثانياً، استغل نتنياهو الانقسام بين قطاع غزة والضفة الغربية ووجود كيانَين سياسيين مختلفين في المنطقتين، فتعامل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية الخاضعة لسيطرة حركة "فتح" بشكل منفصل عن قطاع غزة الخاضع لسيطرة حركة "حماس".

وبما أننا نكتب هذا الكلام في مناسبة ذكرى مرور ربع قرن على اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق يتسحاق رابين الذي وقّع "اتفاق أوسلو"، فإنه يجدر بنا أن نستعيد أهم ما ورد في آخر خطاب ألقاه رابين في الكنيست في 5 تشرين الأول / أكتوبر 1995، أي قبل شهر واحد من اغتياله، والذي تحدث في سياقه عن رؤيته بشأن جوهر التسوية مع الفلسطينيين، والتي ليس مبالغة القول إنها بقيت ترخي بظلالها على التطورات اللاحقة.

وممّا قاله رابين في ذلك الخطاب:

 إننا نعتبر أن الحل الدائم (للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني) سيكون في إطار أراضي دولة إسرائيل التي ستشمل أغلبية مناطق أرض إسرائيل – كما كانت عليه الحال أيام الانتداب البريطاني، وسيقام إلى جانبها كيان فلسطيني سيكون وطناً لمعظم السكان الفلسطينيين المقيمين في قطاع غزة والضفة الغربية، ونريد أن يكون هذا الكيان أقل من دولة كي يصرّف على نحو مستقل حياة الفلسطينيين الذين يخضعون له... وستتجاوز حدود إسرائيل لدى التطبيق الدائم لخطوط ما قبل حرب الأيام الستة، حيث إننا لن نعود إلى حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967... وسيجري تثبيت الحدود الأمنية للدفاع عن دولة إسرائيل في غور الأردن، في أوسع معنى لهذا المفهوم.

وأضاف رابين: "إن القدس ستكون موحدة بوصفها عاصمة إسرائيل وتحت سيادتها، لتشمل كذلك [مستوطنتَي] معاليه أدوميم وغفعات زئيف"، مؤكداً أنه "لقد توصلنا إلى اتفاق، وتعهّدنا أمام الكنيست بعدم اقتلاع أي مستوطنة في إطار الاتفاق المرحلي، وبعدم تجميد البناء والنمو الطبيعي."

ولعله ليس من قبيل المصادفة أن نتنياهو، ولدى مشاركته في مناسبات إحياء ذكرى اغتيال رابين، يؤكد أن الشعب في إسرائيل موحد حيال ضرورة التوصل إلى السلام، لكن من دون أن يتنازل عن حقه في الحياة في البلد، وعن حقه في الدفاع عن أمنه وسلامته، فضلاً عن كونه موحداً حيال مطلب الحفاظ على القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل إلى الأبد. فمثلاً في الجلسة الخاصة التي عقدها الكنيست الإسرائيلي في هذه المناسبة في سنة 2010، اقتبس نتنياهو فقرات طويلة من آخر خطاب ألقاه رابين لإسناد ما أكده لاحقاً في كلمته فيما يتعلق بضرورة عدم تجميد أعمال البناء في المستعمرات، وضرورة أن تكون الدولة الفلسطينية العتيدة منزوعة السلاح وتعترف بإسرائيل كـ "دولة الشعب اليهودي".

وأهم ما قاله نتنياهو في هذا الشأن:

 تقتضي الحاجة أن أبدي هنا والآن ملاحظتين قصيرتين: الأولى بشأن البناء والتجميد [في المستعمرات]، حيث سبق أن قلت إن تجميد أعمال البناء [الذي قامت به حكومته آنذاك] هو إجراء موقت كان بمثابة بادرة حسن نية لم تُقدم عليها أي حكومة سابقة، وإنني أعتبر كلام رابين في هذا الخصوص إقراراً آخر بصحة هذا الأمر، بالإضافة إلى حقيقة أن البناء في المستوطنات القائمة في يهودا والسامرة [الضفة الغربية] لا يتناقض مع السعي للسلام والتسوية. أمّا الملاحظة الثانية فأرجو التعقيب من خلالها على ما قاله رابين لدى تطرّقه إلى الكيان الفلسطيني الذي سوف يقوم من أنه "سيكون أقل من دولة"، ولا أعلم تحديداً مغزى كلامه في حينه، إلّا إننا نتحدث الآن عن قيام دولة منزوعة السلاح تعترف بدولة الشعب اليهودي، إذ لا نريد أن نحرم الفلسطينيين من حق تقرير المصير ولا نريد التحكم بهم. إن ما نرغب فيه هو أن تكون الدولة اليهودية معترفاً بها ومحمية. وإن إصرارنا على قضية الأمن لا يأتي من باب النزوات أو التبريرات.

 ممّا تقدّم كله، ووفقاً للمنطق السليم، نجد أن المؤسسة السياسية الإسرائيلية استمرت بعد رابين في تطبيق المدلول الحقيقي لـ "إرث مسار أوسلو"، ولا سيما التشديد على وجوب أن تكون أي تسوية للصراع مستندة أساساً إلى تلبية "حاجات إسرائيل الأمنية" بموجب مفهومها هي لهذه الحاجات.

السيرة الشخصية: 

أنطوان شلحت: كاتب وباحث فلسطيني.