كيف تصوّر خليل السكاكيني نظام التربية والتعليم الحديثين؟
التاريخ: 
21/12/2020
المؤلف: 

لماذا الرجوع اليوم إلى منوّر فلسطيني عاش في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين؟ هل هو حنين إلى الماضي؟ أم هو رغبة في البحث في كتابات هذا المنوّر ومواقفه عن أجوبة لأسئلة الحاضر؟

الواقع أن ما يبرر الرجوع إلى السكاكيني، في ظني، هو أن الإشكاليات الرئيسية التي تصدى لها في زمانه ما زالت تواجهنا، بصورة أو بأخرى، حتى الآن، وهو الشعور بأهمية التعرف إلى كيفية تصديه لهذه الإشكاليات في زمانه والاستئناس بها.

من هو خليل السكاكيني؟

هو مثقف فلسطيني ولد في القدس في سنة 1878 وتوفي في القاهرة في سنة 1953. تميّز بغنى عدته المعرفية  وبنزوعه الإنساني، سار على خطى رواد النهضة العربية؛ إذ هو تأثر كثيراً، كما يبدو في كتاباته، بأستاذه اللبناني في "مدرسة الشباب" (الكلية الإنكليزية لاحقاً)، نخلة زريق (توفي سنة 1921) الذي كان قد تلقى تعليمه، كما يذكر جهاد أحمد صالح في كتابه: "الرواد المقدسيون في الحياة الفكرية والأدبية في فلسطين"، في مدرسة "المعلم" بطرس البستاني الوطنية، ودرس العربية على يد رائد آخر من رواد النهضة في بلاد الشام هو الشيخ ناصيف اليازجي، كما تأثر بالنهضوي الشامي المتمصر فرح أنطون، صاحب مجلة "الجامعة"، الذي تعرّف إليه خلال وجوده في الولايات المتحدة الأميركية، وكان الأديب النهضوي طه حسين هو الذي زكّاه ليكون عضواً في "المجمع العلمي العربي" في القاهرة. 

وبتأثير هؤلاء النهضويين، حمل السكاكيني رسالة في الحياة تمثّلت في نقل مجتمعه الفلسطيني من التقليد إلى الحداثة؛ فدعا إلى العقلانية،  وأكد أهمية دور المرأة المجتمعي، وانتقد العادات والتقاليد الاجتماعية المتخلفة التي تحول دون تعبئة طاقات النساء، وبشّر بوطنية علمانية يجتمع حولها جميع الفلسطينيين بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية والطائفية، كما كان من أوائل المثقفين الذي استوعبوا العلاقة الوثيقة بين الوطنية والمواطنة، وأدرك  خطورة المشروع الصهيوني على بلده ودعا إلى مقاومته بلا كلل أو ملل، كما ناهض الاحتلال البريطاني لفلسطين، وأدان الظاهرة الاستعمارية في الشرق، بل أخذ على الحكومات الاستعمارية الأوروبية استغلالها الفئات الاجتماعية الكادحة في بلدانها، وكان من أوائل المثقفين الفلسطينيين الداعين، منذ وقت مبكر، إلى الوحدة العربية، والمحذرين من مخاطر التجزئة، التي تقود "إلى الضعف والتفكك". 

في مساهمتي هذه، سألقي ضوءاً على فلسفة السكاكيني التربوية، وذلك بالتوقف عند مواقفه إزاء مميزات المدرسة الحديثة، وأساليب التربية والتعليم الحديثة، ومواد التعليم، ومعالجته مسألة اللغة العربية وتدريسها ومساعيه الرامية  إلى تعزيز الصلات بين المدرسة والمجتمع. 

المدرسة الحديثة في تصوّر السكاكيني

رأى السكاكيني في التربية والتعليم الحديثين أهم وسائل الحداثة، معتبراً أن العرب الفلسطينيين لا يمكنهم منازعة الصهيونيين إلا بالقوة، وقوة اليوم هي العلم، فدعا شعبه إلى أن يتدرع بالعلم، واهتم بإقامة المدارس على نظم تعليم حديثة، وتزويدها بالمعلمين الأكفياء، وزيادة أعدادها في الأرياف وتأسيس المدارس الصناعية. 

ومنذ مشاركته سنة 1909 في تأسيس "المدرسة الدستورية" في القدس، ثم خلال إدارته "دار المعلمين" وعمله في هيئة المعارف، ثم تأسيسه في سنة 1938 "كلية النهضة" في القدس، رأى السكاكيني أن المدرسة الحديثة هي التي تجمع طلاباً من مختلف الأديان والمذاهب، دون تعرضها لعقائدهم الدينية، ويكون التعليم فيها "مجرداً عن كل تأثير ديني أو جنسي أو سياسي"، وهي التي تستند إلى أحدث الأساليب في التعليم التي توّسع المدارك العقلية للطلاب بعيداً عن أسلوب التلقين، وتقوم على مبدأ احترام التلميذ وإعزازه وإطلاق حريته، لا على إذلال التلميذ وتقييد حريته، بحيث لا تهيئ طلابها كي يكونوا أحراراً في المستقبل فحسب، بل تريد – كما كتب- "أن يكونوا أحراراً منذ اليوم، وإذا لم يكونوا أحراراً منذ اليوم، فلن يكونوا أحراراً إلى الأبد". 

أساليب التعليم الحديث

لقد برز بُعد السكاكيني عن التعصب الديني في طرائقه في التعليم، الذي  أحبه وكرّس له معظم جهوده، إذ يذكر واصف جوهرية أن السكاكيني، الأستاذ، قرر، خلال عمله في"المدرسة الدستورية" أن "يعلم كل من أراد العلم من التلاميذ المسيحيين قراءة القرآن، وهكذا لبيت هذه الدعوة باختياري وتشجيع والدي رحمه الله، فقد حصلت على المصحف الشريف من سيادة المرحومة الحاجة أم موسى كاظم باشا الحسيني التي أهدتني إياه، وكان نسخة أنيقة الطبع في الأستانة، بعدما لقنتني وجوب احترام القرآن والمحافظة على النظافة عند مسه، وبهذه الصورة تعلمت القرآن من الأستاذ المخصص المدعو الشيخ أمين الأنصاري المشهور بالقدس". ويتابع جوهرية مبيّنا الدافع الذي دفع السكاكيني إلى تبني هذا الموقف، فيكتب: "كانت فكرة الأستاذ السكاكيني هي أن جوهر اللغة العربية خصوصاً الإلقاء هو قراءة القرآن بالطريقة الأصيلة، وكنت أتلقى هذا العلم مع إخواني وزملائي من أبناء القدس المسلمين".

موقفه إزاء مواد التعليم

في اتباعه أساليب التعليم الحديثة، راعى السكاكيني مستوى استيعاب التلامذة مواد التدريس، إذ رأى، على سبيل المثال، أن الصفوف الأولى يجب أن تقتصر على تدريس اللغة العربية وحدها، بينما تدرس اللغة الإنكليزية، إلى جانبها، في الصفوف العليا، وذلك كي يسهل على طلاب هذه الصفوف فيما بعد متابعة تعليمهم في الجامعات العربية والأجنبية، على أن لا يدخل ذلك ضيماً على اللغة العربية ولا يمس الكرامة القومية، خصوصاً بعد أن باتت "الوطنية والكرامة القومية تعتزان اليوم - كما كتب - بتوسيع المدارك لا بحشوها، بالمعرفة الصحيحة لا بالألفاظ الكثيرة".

ولدى تناوله مواد التعليم، انتقد السكاكيني طريقة تعليم التاريخ في المدارس، واعتنائها باللغة القديمة، التي لا يحتاج إليها الطالب، عوضاً عن اعتنائها باللغة الحديثة، الحية، اللغة التي بها نفكر ونتعامل، وشدّد على ضرورة تدريس الفلسفة، لما لها من أثر "في الأدب والدين وسلوك الإنسان"، ولكونها تساعد على "تنوير البصائر وفهم الحقائق"، مشترطاً أن يجري تدريسها بـ"حرية مطلقة"، بعيداً عن "دروس أخرى مبنية على الخرافات والسخافات". 

كما أكد أهمية  تدريس الطلاب "علم الحياة وعلم الطبيعة، وعلم النفس، وعلم الصحة، وعلم وظائف الأعضاء"، معتبراً أنه سيكون "من السخف أن يخرج طلابنا من المدارس وهم لا يعرفون نواميس الطبيعة، وهم يجهلون أنفسهم، أجسادهم وعقولهم وأهواءهم وغرائزهم، وهم يجهلون الأرض التي تقلهم، والسماء التي تظلهم"، وركّز على تدريس التربية الوطنية التي تشحذ العاطقة الوطنية لدى الطلاب، وأعار أهمية كبرى للترجمة عن اللغات الأجنبية، داعياً إلى اختيار "أنفس الكتب من قديمة وحديثة، من كتب علمية وفلسفية وأدبية"، ونقلها إلى اللغة العربية. 

مسألة  اللغة العربية 
قدّر السكاكيني أن أكبر عامل في إيقاظ الشعور الوطني هو أدبيات اللغة العربية، "التي تثير الحماسة في نفوس التلاميذ وتبث فيهم الحياة، معتبراً أن  "أمة عندها أمثال المتنبي وأبي فراس وأبي تمام والبحتري وأبي العلاء وعنتر لا يمكن أن تموت". ولدى معالجته مسألة اللغة العربية، ظهر السكاكيني بأنه أقرب إلى دعاة "التجديد"، منه إلى دعاة "التقليد"؛ فهو قدّر أن التربية الحديثة لا يمكن أن تتحقق إذا لم تصبح اللغة العربية التي "لا تشوبها ركاكة أو عجمة"، لغة التدريس ولغة الكتب المدرسية"، ملاحظاً أن التلاقح الحضاري بين العرب وغيرهم من الأمم هو الذي أفضى إلى "احتشاد قرائح مختلفة أنتجت أدبيات راقية جميلة، فأدبيات اللغة العربية ليست نتاج القريحة العربية، بل هي نتاج قرائح مختلفة". 

وشارك السكاكيني في السجال الذي صار يدور بين أنصار استخدام العامية وأنصار استخدام الفصحى، فذكر، في رسالة وجهها إلى ابنه سري في أميركا في خريف سنة 1931، أن اللغة العامية "أطوع للتعبير عن الفكر وأوقع في النفس"، لكنه دعاه إلى أن يعوّد قلمه على"استعمال اللغة الفصحى المهذبة المصقولة"، وأن يتورع "عن استعمال اللغة العامية المبتذلة". وتوقف، في كلمة إذاعية ألقاها في 18 كانون الثاني/يناير1947، عند الأثر الذي تركته لغة التدريس والصحافة والفنون على اللغة المحكية، فأشار إلى أن من يتفحص اللغة العربية المحكية في العالم العربي يجد  "أن لكل إقليم من الأقاليم العربية لهجة"، بل يجد "أن لهجة القسم الواحد من الإقليم الواحد غيرها في القسم الآخر منه"، لكن بعد أن انتشرت المدارس في البلاد وجعلت اللغة العربية الأصيلة لغة التدريس فيها، وبعد أن كثرت الجرائد والكتب والأغاني والروايات التمثيلية وكلها باللغة الأصيلة، عادت هذه اللهجات "فتوحدت في اللغة الأصيلة"، بحيث "عدنا لا نعرف الواحد من أي إقليم أو بلد أو دين هو، إلا ألفاظاً قليلة لا تزال تنمّ عليه".

لقد تعامل السكاكيني مع اللغة بوصفها "وسيلة"، قبل أن تكون"غاية في نفسها"، وقدّر أنه عندما لا تكون اللغة العربية صالحة لكي "تكون وسيلة لطلب العلم، فلا يضيرنا شيئاً أن نتخذ غيرها وسيلة ولو إلى حين"، مستشهداً، في هذا السياق، ببعض كتب عربية حديثة في مواضيع مختلفة في علم النفس، وفي التربية والتعليم، وفي الفلسفة، لا يتمكن من فهمها، إلا إذا رجع إلى الكتب الإنكليزية. كما اعتقد بأن لكل زمان " لغته وأسلوبه"، وأن التفاهم يقتضي الخضوع للغة الزمن الذي نعيشه، مؤكداً أن المعاني عنده  "هي في المكان الأول"، بينما الألفاظ  "هي في المكان الثاني"، وأنه يلجأ عندما يكتب إلى الأسلوب المتوافق مع زمانه، وهو "الأسلوب الكتابي السهل الواضح البعيد عن التكلف والصنعة".

وذهب السكاكيني، من منطلق اعتقاده بأن اللغة عنده "وسيلة لا غاية"، إلى حد الدعوة إلى إلغاء قواعد اللغة العربية، على اعتبار أن القواعد نفسها هي "وسيلة أولاً"، ويمكن "الاستغناء عنها ثانياً". أما موقفه من إصلاح الحروف العربية، فقد كان متحفظاً إلى حد ما، إذ رأى أن هذه الحروف "قد بلغت الكمال، وأنها بحكمة صيغت، وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان". وإذا ما برزت صعوبة فإنها  "ترجع إلى سوء التعليم لا إلى مشاكل الحروف العربية نفسها".

تعزيز الصلات بين المدرسة والمجتمع

وخلال عمله في مجالّي التعليم والتربية، بذل السكاكيني جهوداً حثيثة في سبيل تعزيز الصلات بين المدرسة والمجتمع، فركّز على زيادة وعي التلامذة بأهمية الحفاظ على النظافة في مدارسهم، وبيوتهم وبلداتهم وقراهم، فأسس في كل مدرسة فرقة من طلابها باسم "فرقة الصحة"، كي "تتعهد النظافة في بلدها وتبث المبادئ الصحيحة التي تتلقاها في المدرسة في كل بيت"، كما عني بحث التلامذة على مزاولة المطالعة والمبادرة إلى تعميم المعرفة في محيطهم الاجتماعي، فأسس في المدارس فرقاً باسم "فرق القراء والكتاب"، كي"تكون على استعداد لتقرأ للأهالي الجرائد وبعض الكتب المفيدة، ولتكتب لهم رسائلهم وكل ما يحتاجون إليه"، مقدّراً أنه من  هاتين الفرقتين، فرقة الصحة وفرقة الكتابة والقراءة، "سيكون أطباء القرية وقراؤها وكتّابها". 

وختاماً، فقد طمح خليل السكاكيني إلى أن يزرع في مجتمعه الفلسطيني، عبر اشتغاله في حقلي التربية والتعليم، بذور حداثة جوّانية حقيقية، لا يجمعها جامع بالتحديث البرّاني، وذلك بعد ان أدرك أن هذه الحداثة التي ولدت في الغرب، تحوّلت، مع الوقت، بفضل مساهمات شعوب وأمم غير غربية، إلى مكتسب إنساني وإلى سيرورة تغتني باستمرار؛ فعظّم شأن النزعات العلمية والعقلانية والإنسانية، وروّج قيم الحرية والمواطنة والوطنية والعلمانية، معتقداً، اعتقاداً راسخاً، بأن تمثّل العرب والفلسطينيين هذه النزعات والقيم لا ينال من هويتهم الثقافية ويضعفها بل يعمقها ويعززها.   

 

*استندت في إعداد هذه المساهمة، التي قُدمت في ندوة عن السكاكيني نظمها المتحف الفلسطيني ومركز خليل السكاكيني الثقافي يوم 16 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، إلى كتابي الصادر مؤخراً في بيروت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان:"المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة"، ومن مراجعه الرئيسية "يوميات خليل السكاكيني: يوميات، رسائل، تأملات"، في ثمانية كتب. تحرير أكرم مسلّم. رام الله: مركز خليل السكاكيني الثقافي- مؤسسة الدراسات المقدسية، 2003-2010 .