انتمى خليل السكاكيني إلى مشروع مجتمعي حداثي، يشتمل قيم الحرية والمواطنة والديمقراطية والعلمانية والعمل المنتج، هدفه نقل المجتمع من التقليد إلى الحداثة في ظل بنية مجتمعية تقليدية وقيادة سياسية محافظة، وهيمنة استعمارية ومشروع صهيوني إقصائي. وتأثر السكاكيني بأفكار رواد النهضة العربية أمثال: نخلة زريق، فرح أنطون، ناصيف اليازجي، بطرس البستاني، طه حسين. وبرواد الإصلاح الديني أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، كما تأثر بجون ديوي وبرتراند راسل والمتنورين الفرنسيين والثقافة الأوروبية الحديثة. وتشارك في حمل المشروع الحداثي في تلك المرحلة مع خليل بيدس، وأسمى طوبي، ومحمد روحي الخالدي، ونجيب نصار، وتوفيق كنعان، وخليل طوطح، وأحمد سامح الخالدي، ونجاتي صدقي، وزليخة الشهابي، وهند الحسيني، وبندلي جوزي وكلثوم عودة.
تعامل السكاكيني مع التعليم كرافعة للحداثة والتحرر الوطني والاجتماعي، وكأداة للثورة على الظلم الاستعماري (السيطرة العثمانية والاستعمار البريطاني والمشروع الاستيطاني الصهيوني والهيمنة اليونانية على الكنيسة). وربط مع رواد حقبته بين التحرر من الاستعمار والتحرر من التخلف. ودرس أصول التربية والتعليم ومناهج الدراسة في بريطانيا، فتأثر بالنموذج الأوروبي في التعليم. وقد اشترك هؤلاء التنويريون في اعتبار التعليم وسيلة لدخول المجتمع الفلسطيني إلى الحداثة ولمواجهة الخطر الصهيوني، ولمواجهة التخلف.
أولاً: أهم معالم فكر السكاكيني التربوي:
- تحرر العقل من القيود المعطِلة للتفكير والنقد والابتكار والإبداع، وتطوير الحس الطبيعي تجاه الجسد بمعزل عن الكوابح المتزمتة.
- المدرسة تبني إنساناً حراً وشخصية مستقلة فردية تتمتع بكرامة واحترام، وقادرة على حل مشكلاتها بنفسها، والتلاميذ فيها "يحكموا أنفسهم بأنفسهم".
- تعزيز علاقة التلاميذ بالطبيعة والمكان والمجتمع.
- استقلال العلم وعدم تقييده بالدين وبالميثيولوجيا، وتكريس الحق في المعرفة والسؤال والبحث والتجريب بلا قيود، وما يعنيه ذلك من انفصال حقل العلم عن حقل الدين.
- استبدال أسلوب التلقين والحفظ والصمّ والامتحان والحصول على شهادات، بالتفكير والتساؤل والبحث العلمي والابتكار واستخدام العلوم في تطوير المجتمع.
- المعلم ليس سلطة تحتكر المعرفة وتمارس العقوبات والمدرسة ليست سجناً، إذ إن التعليم والتعلم عملية متبادلة ومتكاملة بين المعلم والطلبة، وعلاقة قائمة على الثقة والاحترام ولا مكان فيها للعقوبات. فمهنة التعليم من أسمى المهن في المجتمع.
- أهمية الفلسفة والعلوم الإنسانية في حفز التفكير والتأمل والنقد.
- أهمية الترجمة والمكتبات والصحافة في نقل الأفكار الحديثة وترويجها.
- تكريس مفهوم دوران الحضارة الإنسانية وعدم اقتصارها على مركز واحد، وانفتاحها على كل إنجاز.
من المهم الإشارة إلى أن المشروع الحداثي الذي حمله المثقف الفلسطيني في ذلك الزمان اصطدم ببنية مجتمع محافظ، وبنخبة سياسية تقليدية محافظة، وباستعمار أبقى على علاقات التخلف. فلم يكن الفكر النهضوي الحداثي سائداً في ذلك الزمان، إذ كان النظام التعليمي تقليدياً وجزءاً من علاقات السيطرة، وجزءاً من البنية السياسية الاجتماعية المحافظة. وبسبب افتقاد نخبة التغيير المكونة من مثقفين وأكاديميين وصحافيين إلى قاعدة اجتماعية قوامها الأحزاب والنخب والفئات الاجتماعية وشخصيات تحمل هذا المشروع وتعمل على ترجمته، فشل المشروع الحداثي في التحول إلى مشروع مجتمعي. وعلى الرغم من ذلك فقد خَلّف النهضويون إضاءات مهمة ربما ساعدت وما زالت تساعد في حفر مجرى لتعليم تحرري. فقد ترك خليل السكاكيني ورواد الفكر الحداثي بصمات قوية في طلبة ومعلمين ونخب أدبية وثقافية تأثروا بالفكر التربوي الحداثي وبثقافة التحرر والحداثة التي ظلت حاضرة بمرور الزمن. وظل التناغم مع الأفكار الحديثة الكونية في التعليم قائماً، وظل فكر السكاكيني التربوي يشتبك مع نظام التعليم المتخلف حتى يومنا هذا.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: أين التعليم الفلسطيني الراهن الرسمي والخاص من مدرسة خليل السكاكيني الفكرية والتربوية. وأين يتوافق مع مدرسته وأين يفترق عنها؟ سأحاول الإجابة عن هذا السؤال بالاستناد إلى دراسة الكتب المدرسية من الصف الأول وحتى الثاني عشر في أربعة مواد هي اللغة العربية والتربية الدينية، والتربية الوطنية، والتاريخ والجغرافيا.
ثانياً: أبرز عناصر تناقض التعليم الرسمي مع الفكر التربوي لخليل السكاكيني:
- بقي الفكر التعليمي الرسمي بعد السكاكيني محافظاً، لكنه تأثر إلى حد ما بمساهمات السكاكيني، إذ ظل كتابه الجديد في اللغة العربية متداولاً بضعة عقود بعد وفاته. لكن مع صعود الإسلام السياسي وانتشار فكر المدرسة الوهابية المتزمتة حدث انقلاب عنوانه سيطرة وتحكم الإسلام السياسي المحافظ كتعبير عن تحولات اجتماعية رجعية في العالم العربي، كان من نتيجته شطب الفلسفة والعلوم الإنسانية من المناهج، وإقحام الدين في اللغة ومختلف المواد، وقد اختفى أثر السكاكيني وتراثه من العملية التعليمية شأنه في ذلك شأن كل رموز النهضة والتنوير، وجرى التعامل مع التعليم كأداة سيطرة على الطلبة وعلى المجتمع.
- تشكلت الهوية الوطنية الجامعة بفعل تضافر ثورة التحرر الوطني، والثقافة الوطنية الناقدة، والتراث النهضوي، وخطر المشروع الاستيطاني الاستعماري. وكان مطلوباً من المدرسة الفلسطينية مجانسة الوعي بهذه الهوية وتحويله إلى برامج مدرسية تبني إنساناً مستقلاً حراً فاعلاً في التحرر. لكن، للأسف لم يعزز التعليم الهوية الوطنية الجامعة، وأغلقها أو ساهم في إغلاقها على هويات فرعية (الدين، العشيرة، العائلة، الجهوية) محدثاً بذلك أزمة في الانتماء إلى الوطن وفي المواطنة، وهذا يتناقض مع الهوية الوطنية في فكر وتجربة السكاكيني ورواد النهضة.
- لدينا كتب مدرسية وسياسة تعليمية تروج لدولة دينية، وتميز بين دين ودين، وتحرّض ضد الأديان الأُخرى، وتتبنى منظومة تكفير وتحريم متزمتة، ومن جهة أُخرى تروج للاتفاقات والعهود التي وقعتها دولة فلسطين، والتي تقدمها بطابع مدني، محدثة بذلك ازدواجية ومبطلة كل تقدم؛ موقف مزدوج لا يمكن التعايش بين قطبيه.
- الكتب المدرسية تميز على أساس النوع الاجتماعي وتعزوه إلى أسباب جسدية وعقلية ونفسية، وتميز بين أخلاق البنات وقيمهن على أساس ملابسهن، وما يعنيه ذلك من انتهاك لوظيفة المدرسة ودورها التربوي في احترام الحريات والتعدد وتعزيز الانسجام والوحدة المجتمعية والوطنية.
الكتب تعارض قيم الحداثة الفكرية، كحقوق الإنسان والمساواة والديمقراطية والعدالة والمواطنة والتعدد الديني والسياسي والثقافي، وحرية التعبير والنقد، وتشكك في رموز الحداثة النهضويين. وتعتبر كل ذلك متناقضاً مع قيم المجتمع وعاداته وتقاليده، وترى في تلك الأفكار صناعة غربية استعمارية. ولم تستوعب تجربة النهضويين في الجمع بين مناهضة الاستعمار من جهة، والانفتاح على الحضارة الإنسانية ومختلف تجلياتها من جهة أُخرى.
تغيّب الكتب المدرسية النقد، وتتعامل مع التاريخ الفلسطيني والعربي والإسلامي كورقة ناصعة البياض خالية من الأخطاء والضعف والحماقات. باختصار، تضع الكتب المدرسية الطلبة داخل صندوق معرفة لا يوجد داخله غير رواية واحدة، وخيار واحد، ومسار إجباري واحد.
ثالثاً: مخرجات التعليم التي تؤكد الإخفاق
- وجود نسبة 40% من الطلبة في المرحلة الابتدائية لا يجيدون القراءة والكتابة.
- عند تعديل السنوات الدراسية بحسب جودة التعليم الفلسطيني، فإن 12 سنة دراسية تعادل 8 سنوات.
- انخفاض المنتسبين إلى الفرع العلمي إلى 24%، وتدني مستوى الطلبة في الرياضيات والعلوم بما لا يتناسب مع التطور العلمي المتسارع ومع حاجة المجتمع إلى مهارات التفكير العليا.
- تدني مستوى الطلبة في اللغتين العربية والإنكليزية، وشيوع الأخطاء اللغوية بمستوى مقلق.
- انخفاض القدرات البحثية في غياب مهارات التفكير، وفي ظل فصل العلم عن حاجة المجتمع إلى التطور.
- اختلال في التعامل مع النظام العام والنظافة والملكيات والمرافق العامة وحقوق الآخر وسلامة المجتمع.
- دمج الدين في العلوم.
- سيادة ثقافة العطلة وكره المدرسة واختلال التوازن في العلاقة بين المعلم والطالب.
- سيادة الثقافة الذكورية التي تميز بين أبناء الشعب على أساس النوع الاجتماعي.
رابعاً: إضاءات فردية ومؤسسية تتبنى التعليم التحرري.
مؤسسة أفكار للتطوير التربوي
أطلقت المؤسسة برنامج (فن المناظرة والحوار)، وهو مبني على معلومات محكمة وعلى احترام القواعد الديمقراطية للحوار في التعامل مع الآخر، وهو يهدف إلى بناء شخصية علمية تتبنى قيماً إنسانية داخل المدرسة. وتهدف المناظرة إلى الوصول إلى آلاف الطلبة والمعلمين والمشرفين في المدارس والجامعات، وتعتمد على برامج تدريب على المعايير الأساسية في بناء مهارات التفكير الناقد والتحليل والتعدد والإقناع والاقتناع والحق في الاختلاف وقبول الآخر. ومن خلال تجربتي في أحد برامج التدريب لمست التأثير الإيجابي في الطلبة فيما يتعلق بالتعامل مع موقف مختلف، بعيداً عن ثنائية أسود أبيض، أو امتلاك طرف واحد للحقيقة. قدم البرنامج وما زال قيم التشارك ورفع القيود عن العقول وحرية التفكير واعتماد معايير تنتمي إلى التعليم الحديث وتشكل امتداداً لتجربة وفكر السكاكيني ورموز عصر النهضة، وهو يحرز التقدم في ذلك.
مؤسسة تامر
- "عندما نجرب طرقاً أُخرى"، عنوان كراس يعرض برامج ومشاريع تنفيذية لمؤسسة تامر تتجاوز من خلالها التقليدي والمألوف. وقد اعتمدت المؤسسة شكل تعلم تشاركي حداثي يتجاوز القيود المفروضة على العقل، ويربط التعليم بالحياة، ويتخلى فيه المعلمون عن دورهم في السيطرة ليتشاركوا مع طلبتهم في تنفيذ المشاريع بحرية. كما اعتمدت المؤسسة فكرة (المجاورة) التي تعني التواصل بين الأفراد، وممارسة التأمل والتقصي والبحث والتساؤل.
- ورعت المؤسسة 80 مبادرة خارج المنهاج حاولت ربط المدرسة بالمجتمع، كان من أبرزها كشك القراءة في بيت ساحور، مدرسة بنات الناصرة.
- نموذج الخروج من غرفة الصف إلى المجتمع والطبيعة عمل مشترك قامت به ثلاث معلمات وطالباتهن من مدرسة الجرمق حول التلوث البيئي. وقد انعكس العمل إيجاباً على سلوك الطالبات والمعلمات إزاء البيئة خارج المدرسة وداخلها.
- وعن إطلاق الخيال، قدمت جداريات مدرسة بيت عور تصوراً بشأن استخدام المخيال كأن مدرستهم موجودة في النرويج وبمواصفات هذا البلد الأوروبي.
- وفي مدرسة أجنادين أطلق الطلبة خيالهم فقدموا نموذجاً لمدينة فيها كل الكلمات التي يحبون سماعها.
- أمّا في مدرسة شجرة الدر فقد حولت الفتيات حلمهن بزيارة البحر من خلال استدعاء مدينة عكا إلى مكانهن الذي لا وجود فيه للبحر، بالإضافة إلى جداريات تتحدث عن النظافة والبيئة. هذه الجداريات حولت الأطفال إلى فنانين بحسب اعتقادهم.
- مبادرة مدرسة النصيرات ودير البلح حيث حوّل الطلبة الصوت إلى صورة (مثلا صوت عذاب الأسير، صوت العصافير، صوت الآذان، بيضة على وشك أن تفقس، صوت غضب المعلمين).
- رحلة في اللغة ألف كلمة للحب وكلمة واحدة للسخرية.
- كل شهر رحلة تفتح مساحة للتأمل والاستكشاف، وكيف يبني الأطفال متاحفهم الخاصة والمتخيلة وكيف يبنون هوياتهم.
- وقدمت مؤسسة تامر نتاجات أدبية في مجال ثقافة الأطفال واليافعين أهمها (اسمي الحركي فراشة/ الجرة التي صارت مجرة / حكاية سر الزيت، فوق السور وغير ذلك).
- واهتمت بتطوير الهوية الذاتية المتنوعة والمستقلة من خلال الكتابة والمشاريع والتجريب بدلاً من إنتاج أفراد متشابهين في التفكير والطموحات.
نماذج فردية
محمود شقير
قدم شقير نموذجاً مغايراً في التعليم، إذ كان يعتمد على مكتبة الصف التي يؤسسها بجهوده، وتحوي كتباً أدبية متنوعة، فكان يتحدث عن روايات ويشجع طلابه على قراءتها. ويعتبر أن من يقرأ رواية ويتحدث عنها قليلاً أمام الصف هو الأهم في اللغة العربية، لا يهمه الامتحان ونتائجه بقدر ما تهمه القراءة والتفاعل والتساؤل خارج المقرر. كما كان يشجع على حضور السينما ويتحدث عن بعض الأفلام المهمة، ولحسن حظي أنني تتلمذت على يديه سنة واحدة بدأت خلالها قراءة الروايات وحضور الأفلام. وقد اصل شقير تقديم نموذجه وارتقى بدوره التربوي الثقافي من خلال الكتابة الأدبية، فألف عشرات الكتب التي ناهزت الـ 45 في القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً وأدب السيرة والرواية وأدب الأطفال. وكان الجزء الأكبر من كتاباته موجهاً إلى الأطفال والفتيات والفتيان، اقتناعاً منه برسالة التغيير في المجتمع.
زياد خداش
قدم نموذجاً للمعلم والتربوي الشريك والصديق لطلبته، فاحترم عقولهم وأطلقها لتعبّر عن دواخلها بحرية. ونقل المدرسة إلى الشارع، وحيث يكون يتحلق الطلبة حوله ويستمر التعلم المتبادل. أغنى خداش طلبته واغتنى بهم في كتاباته الأدبية الجميلة.
منير فاشة، عبد اللطيف عقل، حسين البرغوثي، محمود شقير، زياد خداش وغيرهم كثر، ومؤسسات تامر وأفكار وغيرها من المؤسسات الخاصة، جميعهم ساروا على درب السكاكيني ومدارس الحداثة في التعليم، وقدموا نماذج مشجعة مستوحاة من فكر الحداثة. لكن إذا كان الهدف هو انتقال المجتمع من التعليم المحافظ إلى التعليم التحرري، فإن ذلك لا يكفي ولن يستطيع هذا الأسلوب تحقيق التحول المرجو. فوجود بقعة ضوء هنا وبقعة ضوء هناك من المفترض أن يرتبط بفكر وبمشروع تحرري وبإرادة تغيير وألاّ يبقى منعزلاً.
إن الانتقال إلى تعليم تحرري بحاجة إلى تحويل هذه القضية إلى قضية قوى التغيير الفعلية والأهم، إلى قضية رأي عام. وبحاجة إلى نقد التعليم المحافظ والمساهمة في إزالة القيود عن العقل، وإلى ربط تحرر التعليم بتحرر المجتمع، وإلى فصل العلم عن الدين.
المراجع:
- الشريف، ماهر. "المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة، (1908 – 1948)". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020.
- عبد الحميد، مهند. "المناهج المدرسية بين استثمار الرأسمال البشري وهدره". رام الله: مؤسسة روزا لوكسمبورغ، 2019.
- مؤسسة تامر. "عندما نجرب طرقاً أُخرى".