
12/01/2021 عربي

04/01/2021 عربي

انتمى خليل السكاكيني إلى مشروع مجتمعي حداثي، يشتمل قيم الحرية والمواطنة والديمقراطية والعلمانية والعمل المنتج، هدفه نقل المجتمع من التقليد إلى الحداثة في ظل بنية مجتمعية تقليدية وقيادة سياسية محافظة، وهيمنة استعمارية ومشروع صهيوني إقصائي. وتأثر السكاكيني بأفكار رواد النهضة العربية أمثال: نخلة زريق، فرح أنطون، ناصيف اليازجي، بطرس البستاني، طه حسين. وبرواد الإصلاح الديني أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، كما تأثر بجون ديوي وبرتراند راسل والمتنورين الفرنسيين والثقافة الأوروبية الحديثة. وتشارك في حمل المشروع الحداثي في تلك المرحلة مع خليل بيدس، وأسمى طوبي، ومحمد روحي الخالدي، ونجيب نصار، وتوفيق كنعان، وخليل طوطح، وأحمد سامح الخالدي، ونجاتي صدقي، وزليخة الشهابي، وهند الحسيني، وبندلي جوزي وكلثوم عودة.
تعامل السكاكيني مع التعليم كرافعة للحداثة والتحرر الوطني والاجتماعي، وكأداة للثورة على الظلم الاستعماري (السيطرة العثمانية والاستعمار البريطاني والمشروع الاستيطاني الصهيوني والهيمنة اليونانية على الكنيسة). وربط مع رواد حقبته بين التحرر من الاستعمار والتحرر من التخلف. ودرس أصول التربية والتعليم ومناهج الدراسة في بريطانيا، فتأثر بالنموذج الأوروبي في التعليم. وقد اشترك هؤلاء التنويريون في اعتبار التعليم وسيلة لدخول المجتمع الفلسطيني إلى الحداثة ولمواجهة الخطر الصهيوني، ولمواجهة التخلف.
أولاً: أهم معالم فكر السكاكيني التربوي:
من المهم الإشارة إلى أن المشروع الحداثي الذي حمله المثقف الفلسطيني في ذلك الزمان اصطدم ببنية مجتمع محافظ، وبنخبة سياسية تقليدية محافظة، وباستعمار أبقى على علاقات التخلف. فلم يكن الفكر النهضوي الحداثي سائداً في ذلك الزمان، إذ كان النظام التعليمي تقليدياً وجزءاً من علاقات السيطرة، وجزءاً من البنية السياسية الاجتماعية المحافظة. وبسبب افتقاد نخبة التغيير المكونة من مثقفين وأكاديميين وصحافيين إلى قاعدة اجتماعية قوامها الأحزاب والنخب والفئات الاجتماعية وشخصيات تحمل هذا المشروع وتعمل على ترجمته، فشل المشروع الحداثي في التحول إلى مشروع مجتمعي. وعلى الرغم من ذلك فقد خَلّف النهضويون إضاءات مهمة ربما ساعدت وما زالت تساعد في حفر مجرى لتعليم تحرري. فقد ترك خليل السكاكيني ورواد الفكر الحداثي بصمات قوية في طلبة ومعلمين ونخب أدبية وثقافية تأثروا بالفكر التربوي الحداثي وبثقافة التحرر والحداثة التي ظلت حاضرة بمرور الزمن. وظل التناغم مع الأفكار الحديثة الكونية في التعليم قائماً، وظل فكر السكاكيني التربوي يشتبك مع نظام التعليم المتخلف حتى يومنا هذا.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: أين التعليم الفلسطيني الراهن الرسمي والخاص من مدرسة خليل السكاكيني الفكرية والتربوية. وأين يتوافق مع مدرسته وأين يفترق عنها؟ سأحاول الإجابة عن هذا السؤال بالاستناد إلى دراسة الكتب المدرسية من الصف الأول وحتى الثاني عشر في أربعة مواد هي اللغة العربية والتربية الدينية، والتربية الوطنية، والتاريخ والجغرافيا.
ثانياً: أبرز عناصر تناقض التعليم الرسمي مع الفكر التربوي لخليل السكاكيني:
الكتب تعارض قيم الحداثة الفكرية، كحقوق الإنسان والمساواة والديمقراطية والعدالة والمواطنة والتعدد الديني والسياسي والثقافي، وحرية التعبير والنقد، وتشكك في رموز الحداثة النهضويين. وتعتبر كل ذلك متناقضاً مع قيم المجتمع وعاداته وتقاليده، وترى في تلك الأفكار صناعة غربية استعمارية. ولم تستوعب تجربة النهضويين في الجمع بين مناهضة الاستعمار من جهة، والانفتاح على الحضارة الإنسانية ومختلف تجلياتها من جهة أُخرى.
تغيّب الكتب المدرسية النقد، وتتعامل مع التاريخ الفلسطيني والعربي والإسلامي كورقة ناصعة البياض خالية من الأخطاء والضعف والحماقات. باختصار، تضع الكتب المدرسية الطلبة داخل صندوق معرفة لا يوجد داخله غير رواية واحدة، وخيار واحد، ومسار إجباري واحد.
ثالثاً: مخرجات التعليم التي تؤكد الإخفاق
رابعاً: إضاءات فردية ومؤسسية تتبنى التعليم التحرري.
مؤسسة أفكار للتطوير التربوي
أطلقت المؤسسة برنامج (فن المناظرة والحوار)، وهو مبني على معلومات محكمة وعلى احترام القواعد الديمقراطية للحوار في التعامل مع الآخر، وهو يهدف إلى بناء شخصية علمية تتبنى قيماً إنسانية داخل المدرسة. وتهدف المناظرة إلى الوصول إلى آلاف الطلبة والمعلمين والمشرفين في المدارس والجامعات، وتعتمد على برامج تدريب على المعايير الأساسية في بناء مهارات التفكير الناقد والتحليل والتعدد والإقناع والاقتناع والحق في الاختلاف وقبول الآخر. ومن خلال تجربتي في أحد برامج التدريب لمست التأثير الإيجابي في الطلبة فيما يتعلق بالتعامل مع موقف مختلف، بعيداً عن ثنائية أسود أبيض، أو امتلاك طرف واحد للحقيقة. قدم البرنامج وما زال قيم التشارك ورفع القيود عن العقول وحرية التفكير واعتماد معايير تنتمي إلى التعليم الحديث وتشكل امتداداً لتجربة وفكر السكاكيني ورموز عصر النهضة، وهو يحرز التقدم في ذلك.
مؤسسة تامر
نماذج فردية
محمود شقير
قدم شقير نموذجاً مغايراً في التعليم، إذ كان يعتمد على مكتبة الصف التي يؤسسها بجهوده، وتحوي كتباً أدبية متنوعة، فكان يتحدث عن روايات ويشجع طلابه على قراءتها. ويعتبر أن من يقرأ رواية ويتحدث عنها قليلاً أمام الصف هو الأهم في اللغة العربية، لا يهمه الامتحان ونتائجه بقدر ما تهمه القراءة والتفاعل والتساؤل خارج المقرر. كما كان يشجع على حضور السينما ويتحدث عن بعض الأفلام المهمة، ولحسن حظي أنني تتلمذت على يديه سنة واحدة بدأت خلالها قراءة الروايات وحضور الأفلام. وقد اصل شقير تقديم نموذجه وارتقى بدوره التربوي الثقافي من خلال الكتابة الأدبية، فألف عشرات الكتب التي ناهزت الـ 45 في القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً وأدب السيرة والرواية وأدب الأطفال. وكان الجزء الأكبر من كتاباته موجهاً إلى الأطفال والفتيات والفتيان، اقتناعاً منه برسالة التغيير في المجتمع.
زياد خداش
قدم نموذجاً للمعلم والتربوي الشريك والصديق لطلبته، فاحترم عقولهم وأطلقها لتعبّر عن دواخلها بحرية. ونقل المدرسة إلى الشارع، وحيث يكون يتحلق الطلبة حوله ويستمر التعلم المتبادل. أغنى خداش طلبته واغتنى بهم في كتاباته الأدبية الجميلة.
منير فاشة، عبد اللطيف عقل، حسين البرغوثي، محمود شقير، زياد خداش وغيرهم كثر، ومؤسسات تامر وأفكار وغيرها من المؤسسات الخاصة، جميعهم ساروا على درب السكاكيني ومدارس الحداثة في التعليم، وقدموا نماذج مشجعة مستوحاة من فكر الحداثة. لكن إذا كان الهدف هو انتقال المجتمع من التعليم المحافظ إلى التعليم التحرري، فإن ذلك لا يكفي ولن يستطيع هذا الأسلوب تحقيق التحول المرجو. فوجود بقعة ضوء هنا وبقعة ضوء هناك من المفترض أن يرتبط بفكر وبمشروع تحرري وبإرادة تغيير وألاّ يبقى منعزلاً.
إن الانتقال إلى تعليم تحرري بحاجة إلى تحويل هذه القضية إلى قضية قوى التغيير الفعلية والأهم، إلى قضية رأي عام. وبحاجة إلى نقد التعليم المحافظ والمساهمة في إزالة القيود عن العقل، وإلى ربط تحرر التعليم بتحرر المجتمع، وإلى فصل العلم عن الدين.
المراجع: