تدجين الشباب الفلسطيني: شباب غزة نموذجاً قراءة أولية للسير الذاتية (CV)
التاريخ: 
16/12/2020
المؤلف: 

أنتجت "بنية" أوسلو سيطرة مفاهيم ومصطلحات مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية والاستثمار، والحكم الصالح ومحاربة الفساد، والانتخابات والاستقرار الأمني، والتعاون الاقتصادي. وتشير آيات حمدان في دراستها إلى أن "ما يعكس الاهتمام بنقل الخطاب الليبرالي الجديد في السياق الفلسطيني هو الاهتمام بالجانب الحقوقي والترويج له، والذي انعكس على طبيعة توزيع المساعدات المقدمة من المنظمات غير الحكومية، إذ إن هذه المنظمات، والتي تعمل في المجالات الاقتصادية (التنمية الريفية، والمياه، والبيئة، والتدريب المهني وغيرها، والتي تشكل 12% من مجموع المنظمات الأهلية)، تتلقى 21% من قيمة المساعدات، بينما حصلت المنظمات غير الحكومية القائمة على حقوق الإنسان، وتعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد (والتي تشكل 12% من مجموع المنظمات الأهلية هي الأُخرى) على 30% من قيمة المساعدات الخارجية، في مقابل حصول المنظمات القائمة على الخدمات الاجتماعية (والتي تشكل أكثر من 36% من مجموع المنظمات الأهلية) على ربع هذه المساعدات."[1]

ومن خلال اطلاعي على مئات السير الذاتية للشباب الفلسطيني في قطاع غزة مؤخراً، كونت انطباعات أولية عن سيرورة إجراءات الشباب في البحث عن عمل في المجتمع الفلسطيني أو، الإمكانات المعرفية والمهاراتية التي يرغب الشاب في إظهارها للمؤسسات الأهلية والحكومية الفلسطينية، وهي الصورة نفسها التي تتكون في مخيلة الشاب الفلسطيني عن فلسفة المؤسسات الأهلية والحكومية الفلسطينية، وهو ما يحتاج إلى دراسة أعمق في السير الذاتية (C.V) للشباب الفلسطيني، آمل أن أتمكن من إعدادها في وقت قريب.

تحدث العديد من الكتابات عن "الانقلاب" الذي أحدثه اتفاق أوسلو في الثقافة الفلسطينية بصورة عامة،[2] والتنشئة الشبابية بصورة خاصة،[3]  لمصلحة الخطاب الثقافي التي يتمثل في بناء مؤسسات الدولة والمواطنة، والذي لم يقتصر على المؤسسات الحكومية الناشئة، إذ أخذت المؤسسات الأهلية التي تسارع انتشارها بالتزامن مع أوسلو المسؤولية الأكبر في ترسيخ هذا التوجه، وذلك لارتباطها بالمال السياسي النيوليبرالي لمسار أوسلو الذي ينبع من النبع نفسه الذي يغذي المؤسسات الحكومية وللأهداف ذاتها.

فلسفة الخطاب الذي أنتجه أوسلو، والذي حملته المؤسسات الحكومية والأهلية للتماهي مع المال السياسي، يتلخص بأن مشكلة المجتمع الفلسطيني داخلية، وبالتحديد من مفاهيمه وأفكاره، وهي مفاهيم "الرجل الأبيض" ذاتها في الفترة الاستعمارية قبل النصف الأول من القرن العشرين، كما أنها تتماهى مع خطاب مدرسة التحديث عن التنمية في المجتمعات "المتخلفة"، وهذا أدى إلى سيطرة مشاريع "التمكين" الفكرية والمعرفية والمهاراتية وفق مفاهيم المواطنة: الديمقراطية والحوكمة والجندر وحقوق الإنسان وحل النزاعات والإرشاد النفسي .. الخ. وقد ظهر مؤخراً نوع جديد من الدورات التدريبية بشكل ملحوظ في السير الذاتية وهي دورات تدريب المدربين (T.O.T)، التي تدل على انتشار التدريبات ورواجها: "التدرب من أجل أن تصبح مدرباً".

جانب آخر من الدورات والتدريبات التي انتشرت في الفترة الأخيرة، وأصبحت ممأسسة هي التحضير للانخراط في سوق العمل، ولعل أهم ما تركز عليه هذه التدريبات هو كيفية تحضير السير الذاتية وبعض المهارات اللازمة لإجراء مقابلة العمل إن حدثت. وتنبع خلفية هذا التوجه من المنهج الليبرالي، وذلك من خلال أمرين، الأول، أن مشكلة العمل لا تزال في البنية المعرفية والمهاراتية للفرد لا في البنية السياسية؛ الثاني، توجيه الشباب إلى الخلاص الفردي. والأمران يعملان على إلهاء الشباب الفلسطيني عن الطريق الحقيقي لعملية التغيير وهو التضامن والعمل الجماعي والتوحد من أجل تغيير البنية الاقتصادية والسياسية السائدة.

 يتعلق السياق السابق بتدجين الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن يوجد بعض القضايا التي تميزت فيها عملية التدجين في قطاع غزة تعود إلى ظروف موضوعية يعيشها القطاع بصورة خاصة، وبالتحديد جرّاء الحصار الذي تعرض له بعد سنة 2007، إذ بلغت نسبة البطالة في القطاع سنة 2017، 48.2%،[4]  منهم 39.3% لم يسبق لهم العمل، كما بلغت نسبة الفقر نحو 50%، فيما بلغت نسبة الفقر المدقع نحو 33.7%.[5]  وتركز هذه المقالة اهتمامها على الشباب الفلسطيني في قطاع غزة.

السير الذاتية:

تتضمن السير الذاتية معلومات شخصية عادية، كالاسم ومكان السكن ووسائل التواصل، والبعض منها يتضمن الحالة الاجتماعية وعدد الأولاد، وهنا يمكن أن يتدخل عامل المال السياسي الذي يصل غزة، وهو بطبيعته للتشغيل والإغاثة، وبالتالي فإن الزواج وعدد الأولاد قد يعززان الفرصة في الحصول على وظيفة.

لا تكاد تخلو أي من السير الذاتية من عنوان فرعي يحمل اسم "الدورات التدريبية"، وهذا البند يأخذ حجماً كبيراً من السير الذاتية، وتركز هذه التدريبات على المواطنة والديمقراطية ومكافحة العنف والعنف ضد المرأة والتثقيف والتوعية وبناء القدرات وما إلى ذلك. وقد تكون هذه التدريبات ضرورية لاكتساب المهارات والمؤهلات اللازمة للانخراط في سوق العمل، فانعدام فرص العمل للشباب الفلسطيني في قطاع غزة يفقده التجربة والخبرة العملية في العمل. ففي العادة تتطلب أغلبية الشواغر سنوات خبرة لم يتمكن هؤلاء الشباب من الوصول إليها، وهو ما يجعلهم يحاولون التعويض عنها من خلال الالتحاق بكثير من الدورات التدريبية والتطوعية، ولهذا يحاولون إدراج بعض هذه الدورات تحت عنوان "الخبرات العملية". كما أن موضوعات هذه التدريبات تلقي الضوء على مجالات سوق العمل وموضوعاته التي تنتشر في المجتمع الفلسطيني بصورة عامة، وفي قطاع غزة بصورة خاصة.

يحتل عنوان "الخبرات العملية" قسماً كبيراً في بعض السير الذاتية، وهو يعبّر عن خبرات العمل التي اكتسبها هؤلاء الشباب في سوق العمل وتقاضوا في مقابلها مبلغاً من المال، لكنها خبرة متقطعة وغير متواصلة. فالسير الذاتية تتسم بوجود خبرات عمل لفترات قصيرة جداً، وأغلبها لا تتجاوز بضعة أشهر في الوظيفة الواحدة، وأحياناً بضعة أيام، وهذه الخبرة تتركز على وظائف تنسيق وتيسير وتدريب وتنشيط الموضوعات السابق ذكرها أعلاه. وقلما تستمر هذه الخبرات لسنتين أو ثلاث عندما يكون المسمى "تنسيق"، ولهذا تمتلئ السير الذاتية للشباب الفلسطيني في غزة بعناوين عن الالتحاق بالمشاريع الطارئة والإغاثية التي تستهدف قطاع الشباب بهدف التشغيل، وبالتحديد الشباب الجامعي العاطل عن العمل، ومعظمها يأتي تحت بند "العمل في مقابل الجوع". هذا الموضوع ينسجم مع مسألة الغذاء باعتبارها سلاحاً، فينقل رزيق وغوف عن دوف ويسغلاس مستشار رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق إيهود أولمرت في تصريح له في بداية الحصار سنة 2006، "إن الفكرة هي فرض حمية على الفلسطينيين، لا جعلهم يموتون جوعا،"[6]  وبالتالي يرتبط ذلك بالتحكم في كمية البروتينات والسعرات الحرارية التي يجب أن تصل إلى غزة، أو قدرة السكان على الوصول إليها نتيجة توفرها أو قدرتهم الاقتصادية على الحصول عليها.[7]

جانب آخر مهم، لكنه مؤشر خطر على الواقع الذي يعيشه الشباب المتعلم في قطاع غزة، يرتبط ببعد "التخصص الأكاديمي" وسوق العمل، فقد أدى انعدام الفرص وخيارات العمل أمام الشباب الجامعي، وفي مختلف التخصصات، إلى انخراط الخريجين، وبغض النظر عن التخصص، في العمل في المشاريع المتوفرة. وتتعلق أغلب المشاريع التي تصل إلى قطاع غزة بالقضايا التي سبق الحديث عنها من خلال الدورات. ولهذا، فإن الشاب الحاصل على شهادة هندسة، نظراً إلى محدودية توفر مشاريع واستثمارات عقارية وصناعية وبنية تحتية في قطاع غزة، ومحدودية توفر فرص العمل لخريجي الهندسة، يضطر إلى العمل في القضايا الدارجة والمتوفرة في قطاع غزة، والتي في أغلبيتها الساحقة تتناول قضايا المواطنة والقضايا الاجتماعية، وهذا الأمر ينطبق على باقي التخصصات. وقد يوضح النموذج التالي للسيرة الذاتية المقصود:

التخصص الأكاديمي: بكالوريوس في الهندسة المدنية قسم الإدارة والتشييد في جامعة فلسطين.

 التدريبات:

  • دورة مفاهيم ومعايير حماية الطفولة (حقوق الطفل، الحشد والمناصرة والدعم، آليات حماية الطفولة، المعايير الدنيا لحماية الأطفال).
  • الإسعاف النفسي الأولي، الاكتشاف والإحالة.
  • تعزيز المهارات الحياتية للأطفال والطلائع.
  • دورة محاربة عمالة الأطفال.
  • دورة أتوكاد مدني.
  • دورة مساح مدني.
  • دورة ريبوت في التصميم الهندسي.

الخبرات العملية:

  • منشط مجتمعي ضمن مشروع توفير خدمات المياه والصرف الصحي للأسر الأكثر هشاشة في قطاع غزة.
  • ميسر جلسات العنف المبني على النوع الاجتماعي.
  • منشط مشروع طلائع من أجل الترابط الاجتماعي.
  • ميسر مجتمعي ضمن مشروع زيادة السعة التخزينية.
  • منشط ضمن مشروع محاربة عمالة الأطفال.
  • ميسر جلسات توعوية للأهالي ضمن مشروع برنامج وجد.
  • ميسر جلسات توعوية للأهالي حول القضايا المجتمعية.
  • ميسر ورشات حول قضايا "الشباب هم المستقبل".

مهارات أُخرى:

  • مهارات الاتصال والعمل الجماعي وقيادة الفريق.
  • الجدية والمرونة في العمل.
  • مهارات في الحاسب الآلي: بور بوينت، الإكسل، مايكروسوفت وورد.
  • مبادئ Matlab
  • تحدث وكتابة اللغة العربية واللغة الإنكليزية بطلاقة.
  • العمل تحت الضغط.
  • العمل في مشروع الوصول الآمن إلى المياه والإشراف على نظافة وصحة مياه الشرب.
  • متابعة أعمال الصرف الصحي في المطابخ والحمامات ومتابعة تمديدات المياه.

في الختام، يتعرض الشباب الفلسطيني في قطاع غزة لمحاولة تدجين تهدف إلى التخفيف من الواقع السيئ الذي يعيشه نتيجة الواقع السياسي الذي يستهدفه. ويحاول بعض هؤلاء الشباب التأقلم مع هذا الواقع من خلال الالتحاق بمشاريع كهذه أملاً بالحصول على وظيفة، وهي عملية ملهاة للشباب للتخفيف من غضبهم وثورتهم.

يجب على الجهات المسؤولة في قطاع غزة توجيه الشباب إلى استغلال طاقاتهم في مشاريع تنموية إنتاجية، تكون بذور أصيلة لعملية "التنمية الانعتاقية" الحقيقية المبنية على الذات. والعالم فيه كثير من الخبرات والتجارب التي قد تغني الرؤية والنهج.

 

[1]. آيات حمدان، "المساعدات الخارجية وتشكيل الفضاء الفلسطيني،" (رام الله: مركز بيسان للبحوث والإنماء، 2010)، ص 31.

[2]. انظر على سبيل المثال لا الحصر: جميل هلال، "أبعاد مأزق المشروع الوطني الفلسطيني بعد أوسلو"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، عدد 36 (خريف 1998)؛ توفيق حداد، "إعادة إدراج الاقتصاد السياسي في تحليل السياسات والحركة الفلسطينية"، مجلة "عمران"، عدد 8 (ربيع 2014)؛ أيلين كتاب وآخرون، "وهم التنمية"، (رام الله: مركز بيسان للبحوث والإنماء، 2010).

[3]. انظر على سبيل المثال: مجدي المالكي وحسن لدادوه، "المؤسسات الشبابية في الأراضي الفلسطينية ورأس المال الاجتماعي،" (رام الله: معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني – ماس، 2011).

[4] . الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، "التعداد العام للسكان والمساكن والمنشئات 2017: ملخص النتائج النهائية للتعداد،" (رام الله: 2018)، ص87.

[5] . الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، "الفقر متعدد الأبعاد في فلسطين 2017 – النتائج الرئيسية،" (رام الله: 2020)، ص13.

[6] . رامي زريق وآن غوف. "السيطرة على الغذاء، السيطرة على الشعب: الكفاح من أجل الأمن الغذائي في غزة،"   (رام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2014)، ص1-2.

[7]. المصدر نفسه.

عن المؤلف: 

أحمد حنيطي: كاتب وباحث، حائز على درجة ماجستير في علم الاجتماع من جامعة بيرزيت.