يكتسب التوقف عند أحداث بوزن "انتفاضة" أهمية كبيرة، إذا ما ارتبط باستخلاص خبرة ودروس تلك الأحداث، ولعل أهمها عدم تكرار الأخطاء وتفادي خسائر غير اضطرارية. تقول تجربتنا الفلسطينية إننا مُقلّون في المراجعات النقدية، لهذا تتكرر الأخطاء وتتعاظم الخسائر ويزيد الضعف والإحباط. قلة من المراجعين يحيطون بالقضية المبحوثة ويكشفون عناصر الضعف والأخطاء والتعقيدات ويقترحون المخارج، لكن نقدهم لا يصل إلى المستوى السياسي الأول في (المنظمة والسلطة) والمعارضة. وفي الغالب لا يكترث هؤلاء بالنقد لأنهم يشعرون بأنهم ليسوا بحاجة إليه. والأسوأ أن بعض التقييمات تمعن في تمجيد الانتفاضات من زاوية الأدوار الخاصة والمصالح الفئوية والشخصية الضيقة.
عشرون عاماً مضت على انتفاضة 2000، لم تخضع فيها لتقييم المشاركين الذين تركوا بصمات قوية فيها وفي نتائجها السلبية (الخسائر السياسية والبشرية والاقتصادية والمعنوية). وبقي خطاب الانتفاضة السياسي وأساليبها مرشحة للتكرار. ولم يكن من باب الصدفة أن تبدأ انتفاضة 2000 من حيث انتهت انتفاضة 1987، لأن الأخيرة لم تخضع للمراجعة والتقييم واقتصر تقديمها من باب مزايا وإنجازات عامها الأول.
اندلعت انتفاضة 2000 تعبيراً عن احتدام التناقض بين الاحتلال الإسرائيلي من جهة، والسواد الأعظم من الشعب الفلسطيني في الجهة الأُخرى، وبعد انكشاف زيف ادعاءات "السلام" على الأرض، عبر تعميق الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ومضاعفة الاستيطان ومصادرة الأراضي، وتقطيع أوصال المحافظات الفلسطينية بعضها عن بعض وخصوصاً فصل الضفة عن القطاع، وفصل الأخيرتين عن مدينة القدس، وكذلك ممارسة سياسة القمع المنهجي والخنق الاقتصادي كأداة سيطرة إلى جانب آلة القمع خلافاً لمزاعم تحويل القطاع والضفة إلى تايوان في نهضتهما الاقتصادية. وجاء فشل قمة كامب ديفيد (كلينتون- براك -عرفات) في التوصل إلى اتفاق في أيلول/سبتمبر 2000، ليحدث الانسجام بين ما يحدث على الأرض من وقائع استعمارية واستغلال ونهب وقمع، وبين المشروع السياسي الأميركي الإسرائيلي الذي أريد له ترسيم الاحتلال بغطاء فلسطيني وتحت مسمى دولة فلسطينية. كان مطلوباً من ياسر عرفات التوقيع على حل بانتوستونات استعماري عنصري خلال الفترة الوجيزة المخصصة للقمة، وعندما رفض ذلك أعلن براك عدم وجود شريك فلسطيني للتفاوض معه ولإيجاد حل للصراع، والمقصود هنا شريك يقبل بتثبيت الاحتلال والاستيطان والسيادة الإسرائيلية بمستوى من التمويه. هذا الانسجام بين ما يحدث على الأرض وما جرى على طاولة التفاوض صدم القيادة الفلسطينية التي كانت تعول على الوساطة الأميركية لإيجاد الحل السياسي المنشود. ووسط هذا الانسداد جاءت زيارة شارون للمسجد الأقصى لتشعل الحريق الذي سرعان ما تحول إلى انتفاضة، البعض سمّاها انتفاضة الأقصى والبعض أطلق عليها اسم انتفاضة القدس، والبعض الآخر سمّاها الانتفاضة الثانية، بالإضافة إلى انتفاضة أيلول 2000.
أكثر من هدف
تعددت أهداف الانتفاضة بحسب القوى السياسية. كان هدف المستوى السياسي الرسمي، تحسين شروط التفاوض على قضايا الوضع النهائي، وقد انعكس زخم الانتفاضة الجماهيري في الأشهر الأولى على "مفاوضات طابا" التي تجاوزت سقف ما كان مطروحاً في مفاوضات كامب ديفيد. ومع أن التجاوز لم يمس جوهر الأهداف الإسرائيلية إلاّ إنه لم يَرُق لحكومة براك الإسرائيلية التي سارعت إلى سحب مفاوضيها ووضع نهاية للمفاوضات وشطب نتائجها من الأجندة الإسرائيلية. واعتقدت قيادة عرفات أن مزيداً من الضغط سيفرض تنازلات إسرائيلية. ولم تكن القيادة الرسمية (المنظمة وتنظيماتها) هي اللاعب الوحيد في الانتفاضة فقد شاركتها حركتا "حماس" والجهاد الإسلامي اللتان كان لهما أهداف أُخرى معلنة وغير معلنة مستمدة من برنامجيهما لإسقاط اتفاق أوسلو و(تحرير كامل فلسطين وإقامة دولة إسلامية)، ومن مواقف قوى حليفة إقليمية داعمة تتعامل مع الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي كورقة ضاغطة لتحسين مواقعها في الخرائط السياسية. ثمة تناقض بين هدف إيجاد تسوية بسقف الشرعية والقانون الدوليين، وهو البرنامج المُعتَمَد في دورة الانتفاضة 1988 للمجلس الوطني، والذي يطلق عليه المشروع الوطني، وبين هدف الحق الكلي خارج الشرعية الدولية. الفرق كما يبدو أن الهدف المشروع (المجاز) دولياً وعربياً مطروح للتحقيق في المدى المباشر والمتوسط، في مقابل الهدف الكلي المناط بصراع مفتوح من دون زمن محدد. لم تسوَ الفجوة بين الهدفين والبرنامجين في ذلك الوقت، لتفادي أن يكون برنامجاً على حساب الآخر، وهو ما أدى إلى اتباع تكتيكات متعددة أدت إلى نجاح قوى الصراع المفتوح في سد الطرق أمام البرنامج الوطني الرسمي كنتيجة. وقد انعكس التناقض بين الهدفين والبرنامجين على أشكال النضال السائدة في الانتفاضة وما قبلها، علماً بأن مشروع دولة الاحتلال استهدف تقويض الكيان الوطني وكبح تطوره، في صراع مفتوح أيضاً، تتولى خلاله دولة الاحتلال القيام بصناعة الوقائع الاستعمارية وتفكيك الوجود الفلسطيني على الأرض وفرض الحل الإقصائي كحل نهائي. لم تُردم الفجوة بين القطبين الفلسطينيَين من خلال اندماج قوى الإسلام السياسي في المشروع الوطني حتى لو كان تحت مسمى المرحلية، وهو ما فعلته حركة "حماس" لاحقاً من الزاوية النظرية والتكتية حين تبنّت الهدف المركزي في برنامج المنظمة، بإقامة دولة في حدود الرابع من حزيران/يونيو.
منذ إبرام اتفاق أوسلو وإقامة السلطة وفي أثناء اندلاع انتفاضة 2000، رفضت المعارضة اتفاق أوسلو. ومبدئياً، كان من حقها الرفض، والنضال ضد الاتفاق والعمل على إسقاطه لمصلحة برنامج وطني بديل من خلال اعتماد الأسلوب الديمقراطي في التحول إلى أكثرية، تنقل النضال ومراكزه من مسار أوسلو إلى مسار وطني بديل. لكن المعارضة تجاهلت وجود انقسام إسرائيلي بشأن اتفاق أوسلو بين مؤيد ومعارض وذلك حين شكل الصوت العربي في الكنيست بيضة القبان بتأمينه الغطاء للاتفاق، 61 صوتاً في مقابل 59 صوتاً. ولم يمض طويل وقت قبل أن يُقتل يتسحاق رابين ويُنتخب بنيامين نتنياهو الرافض للاتفاق في عملية انقلاب إسرائيلية على أوسلو. وجاء تجاهل المعارضة ("حماس" والجهاد) في صيغة عمليات تفجير ضد أهداف مدنية في العمق الإسرائيلي، وهو التكتيك الذي خدم تحديداً إسقاط أوسلو لمصلحة معسكر اليمين الإسرائيلي من دون أن يشكل بديلاً فلسطينياً لأوسلو. وكان الأجدر بالمعارضة تركيز أعمال المقاومة ضد الأهداف العسكرية والاستيطانية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية التي يعتبرها المجتمع الدولي أراضٍ محتلة في حدود الرابع من حزيران/يونيو 67، أي عمليات مقاومة مشروعة مقرونة باحتجاجات ومشاركة جماهيرية تجعل الاحتلال مشروعاً خاسراً وتفتح له طرق الانسحاب، وتعزز الثقة ببديل أوسلو الوطني الديمقراطي. لكن للأسف ساهمت أعمال المقاومة في تعديل اتفاق أوسلو وفي إضعاف السلطة والمنظمة لمصلحة معسكر اليمين الإسرائيلي، واعتبرت أن نجاحها في الانتقال من صراع على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية إلى صراع مفتوح يُعتبر إنجازاً، مع أنه ليس كذلك إلاّ من زاوية مصالح القوى الإقليمية الداعمة للمعارضة، التي تتعامل مع الصراع كورقة ضغط لتحسين شروط مساوماتها على مكانة إقليمية.
بداية فتحت الأبواب على التغيير
عشية الانتفاضة كانت المؤسسة الأمنية للاحتلال تستعد لانفجار شعبي فلسطيني على غرار انتفاضة 1987، وبحسب ما كتبه إعلامي إسرائيلي فإن المؤسسة الأمنية توقفت عند احتمال زحف عشرات آلاف المنتفضين نحو المستعمرات الإسرائيلية، واضطرار جيش الاحتلال، إمّا إلى ارتكاب مجازر دموية في صفوف المنتفضين وما يترتب على ذلك من عزل إسرائيل دولياً وممارسة الضغوط عليها للانسحاب والقبول بحل سياسي، وإمّا إلى السماح بسيطرة المنتفضين على المستعمرات وهروب المستوطنين داخل الخط الأخضر والبحث عن حل سياسي من خارج الهيمنة الإسرائيلية. هذا التقدير حدث جزئياً في قطاع غزة عندما تعرضت مستعمرات إسرائيلية لحصار المنتفضين ولمحاولاتهم تسلق الأسلاك الشائكة والجدران على الرغم من تعرضهم لإطلاق نار كثيف. وفي الأسابيع الأولى غلب الطابع الشعبي للانتفاضة على الطابع العسكري، لكنه سرعان ما أخذ يتبدل لسببين، الأول حرص المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على ردع المنتفضين بأسرع وقت، من خلال إطلاق مفرط للنيران وإيقاع خسائر في صفوفهم، والسبب الثاني ردة فعل فلسطينية على الخسائر بإطلاق النيران واستخدام الأسلحة ضد المحتلين. وشيئاً فشيئاً انتقلت الانتفاضة من الفعل والمشاركة الشعبية إلى اشتباك مسلح بين طرفين غير متكافئين بتاتاً. وهذا ما أرادته دولة الاحتلال التي استخلصت درس انتفاضة 1987 الأهم حين اضطرها الانتفاض السلمي للجموع الكبيرة إلى تحييد السلاح الإسرائيلي لمصلحة المنتفضين. ولوحظ في بداية الانتفاضة لجوء كتائب الأقصى التابعة لحركة "فتح" إلى أشكال من المقاومة المسلحة التي استهدفت مواقع لجيش الاحتلال والعناصر الأمنية الاستيطانية في أراضي 1967، وعلى الرغم من الردود الإسرائيلية العنيفة على مواقع السلطة والمقاومين، فإن هذا النوع من المقاومة لم يُرَدّ عليه بشكل حاد إسرائيلياً، ولم يتم الاعتراض عليه دولياً.
وفي مقابل ذلك كان على الاتجاه المركزي في الحركة الوطنية أن يستخلص بدوره دروس انتفاضة 87 ليبني فوق عناصر قوتها وإنجازاتها، ويتفادى أخطاءها ولا سيما العسكرة تحت مسمى القوى الضاربة التي فرضت سيطرتها على المجتمع وعملت على تطويعه بمنظومة قيم التزمت الدينية، ناقلة بذلك مركز الثقل في النضال من تصعيد الانتفاضة ضد الاحتلال وصولاً إلى مرحلة العصيان المدني، إلى السيطرة على المجتمع وممارسة أشكال من القمع تحت شعار محاربة العملاء الذي ترجم خارج القانون وبأساليب بدائية مرتجلة وشخصانية. والأهم أنه كان على الاتجاه المركزي وقوى المعارضة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، تصويب الخطأ الاستراتيجي (اتفاق أوسلو) بدءاً برفض كل الوقائع الاستعمارية الاستيطانية التي صنعتها سلطات الاحتلال مستخدمة اتفاق أوسلو كغطاء لها، وإعادة بناء العلاقة مع المواطنين على أسس ديمقراطية وإشراكهم عبر الانتفاضة في العملية السياسية عوضاً عن إقصائهم والانعزال عنهم واعتماد التفاوض أسلوباً وحيداً لتحقيق الأهداف الوطنية. والانتفاضة بهذا المعنى هي إعادة تصويب سياسي وإعادة بناء بمشاركة شعبية. كان ذلك يستدعي إعادة بناء المؤسسة (مؤسسات السلطة والمنظمة المشوهة والهرمة) واعتماد منظومة قوانين عصرية جديدة كبديل لنفايات القوانين القديمة والسارية المفعول، واعتماد نظام تعليم تحرري بديلاً للتعليم التلقيني المتأخر، واعتماد اقتصاد منتج بدلاً من الاقتصاد الريعي الطفيلي والنيوليبرالي، والتوقف عند ظاهرة الفساد المالي والإداري المستشرية، وهذا يعني الانتقال إلى مسار سياسي جديد بالاستناد إلى الشعب المنتفض في الضفة والقطاع، وبالاستناد إلى انتفاضة الشعب العارمة في مناطق 1948، التي أعادت الاعتبار إلى وحدة الشعب داخل فلسطين وخارجها. كان المطلوب تصويباً سياسياً واقتصادياً ومؤسساتياً ديمقراطياً، لكن الاتجاه المركزي لم يقم بأي تغيير في تلك المجالات، واقتصر دوره على دعم الانتفاضة بشكل مباشر ودعم المقاومة من تحت الطاولة، ليجد أن مؤسساته عاجزة وعرضة للتفكك والانهيار على وقع الضربات الإسرائيلية، وليجد نفسه على أرض صراع مفتوح يقوّض المشروع الوطني ويبقي على الاحتلال، ويفتح كل الأبواب أمام تدخلات خارجية.
ذهبت الانتفاضة في اتجاه معاكس
يمكن القول إنه في الأشهر الأولى للانتفاضة جرى الجمع بين مقاومة مسلحة تحت سيطرة نسبية واحتجاجات جماهيرية شبه منظمة، لكن الجمع لم يدم طويلاً حين تغلبت العسكرة و"الطخطخة" العشوائية على النضال الجماهيري. وانقلبت المعادلة تماماً مع موجة العمليات الاستشهادية التي استهدفت (باصات ومطاعم وأسواق وأهداف مدنية إسرائيلية بما في ذلك حرم الجامعة العبرية داخل الخط الأخضر). تلك العمليات طغت على المقاومة المشروعة والاحتجاجات الشعبية وتصدرت المشهد، وحظيت بتأييد شعبي على خلفية "الانتقام" للخسائر التي لحقت بالمدنيين الفلسطينيين على يد قوات الاحتلال. وفي ظل المزاج الشعبي المؤيد للانتقام بأي ثمن، انضمت التنظيمات الأُخرى إلى هذا النوع من العمليات وأصبحت جميع الفصائل في خندق واحد، وذلك بعد هدر التمايز الإيجابي الذي تمتعت به التنظيمات في إطار منظمة التحرير. ولم يتمكن تنظيم "فتح" وتنظيمات أُخرى من التراجع بعد تفجيرات نيويورك 11/9/ 2001 التي هزت الولايات المتحدة والعالم، إذ تصدرت الحرب على الإرهاب الأجندة الأميركية والدولية، وقد التقى المزاج الشعبي المتشكل آنذاك مع الصراع المفتوح الذي طرحته حركة "حماس" وغلفته بالانتقام والثأر والدفاع عن الشعب الذي تُسفك دماؤه بدم بارد، وطغى الصراع المفتوح على كل تفكير سياسي عقلاني في أوساط القيادة الفلسطينية. وفي ظل هذه المعادلة استمرت العمليات ضد مدنيين إسرائيليين بعد 11/ سبتمبر وتعاظمت، وعندها فقدت القيادة الرسمية البوصلة السياسية، وقامرت المعارضة الإسلامية ("حماس" والجهاد) بشرعية النضال الفلسطيني التي انتُزعت على مدار عقود من النضال.
كشفت انتفاضة 2000 في الضفة والقطاع وامتدادها في مناطق 48، أن الاستسلام السياسي الفلسطيني الذي اعتقد الإسرائيليون أنه في جيبهم منذ اتفاق أوسلو غير ممكن، وأن الاحتواء الإسرائيلي للجماهير الفلسطينية في مناطق 48 كان بمثابة قصة فشل، وأنه لا يمكن فصل المكونات الفلسطينية بعضها عن بعض وهي تنتمي موضوعياً إلى مشروع تحرري واحد، كما لا يمكن فصل الوطني عن المدني. المفارقة أن دولة الاحتلال توصلت سريعاً إلى هذه المعاني العميقة للانتفاضة وشرعت في محاربتها وتفكيك كل عناصرها القائمة والمحتملة. وفي مقابل ذلك لم تتوقف القيادة الفلسطينية في مركز القرار وفي مركز المعارضة عند الحرب المنهجية التي أعلنتها دولة الاحتلال على الشعب وانتفاضته، ولم تضع أهدافاً ملموسة وبرنامجاً وطنياً موحداً، ولم تنزع الذرائع التي استخدمتها دولة الاحتلال لشيطنة وعزل الشعب وانتفاضته، ولم تضع خطة لإفشال الأهداف الإسرائيلية. وسادت سياسة ردة الفعل والارتجال والتبرير، وضعف المتابعة والقراءة السطحية للتحولات والسياسات الإسرائيلية والدولية والعربية وتحديداً بعد تدمير أبراج نيويورك في 11/9/2001.
نتائج الانتفاضة على صعيد إسرائيلي
- قررت حكومة أريئيل شارون أن عرفات ليس ذي صلة وحاصرته في المقاطعة بتأييد أميركي ودعم حزب العمل وشمعون بيرس تحديداً الذي سبق وتقاسم معه ومع رابين جائزة نوبل للسلام، وقررت إعادة احتلال الضفة وتصفية المقاومين وقواعدهم تحت شعار الدفاع عن حياة المواطنين الإسرائيليين في تل أبيب والمدن الأُخرى مسرح العمليات بتأييد أميركي غربي وصمت عربي. لقد تعاملت السلطات الإسرائيلية في خطابها السياسي والإعلامي مع تهديد أمني وجودي مصدره المناطق الفلسطينية، وقد تحول هذا الخطر المزعوم أو المبالغ فيه إلى قناعة وحدت الإسرائيليين يساراً ويميناً، رسمياً وشعبياً بقيادة اليمين الرافض للحل السياسي بما في ذلك أوسلو.
- عملية "السور الواقي" في آذار/ مارس 2002 استهدفت بنية المقاومة قتلاً واعتقالاً في الضفة الغربية، ودمرت في الوقت نفسه بنية الكيان الفلسطيني الناشئ، "المطار والميناء" في غزة ورئاسة عرفات، ومؤسسات وأجهزة شرطة وأمن وبنية النضال الوطني التاريخية، ومشاريع أُنشئت بدعم الاتحاد الأوروبي منذ سنة 1995 والتي كانت وظيفتها المعلنة الانفصال عن دولة الاحتلال والانتقال إلى حل الدولة. هذه الحرب الإسرائيلية على الانتفاضة قوضت بشكل منهجي ديناميات نشوء كيان مستقل ومنفصل عن سلطة الاحتلال.
- ترافقت عملية هدم بنية حل الدولة الفلسطينية في أراضي 67، ببناء جدار الفصل العنصري الذي يحول المحافظات إلى معازل فصل عنصري، ويطلق العنان للتوسع الاستيطاني ويعزز البنية التحتية للمستعمرات بما يتيح ضمها ودمجها في دولة الاحتلال. وكانت الذريعة التي استخدمت في بناء الجدار حماية الإسرائيليين من "الإرهاب" الفلسطيني.
- انتقلت إسرائيل من الرهان على حل متفاوض عليه مع شريك فلسطيني يلبي الأطماع في التوسع والهيمنة استناداً إلى الوقائع الاستعمارية على الأرض، ذلك الحل الذي أفشلته قيادة عرفات وانتفاضة 2000، إلى حل من طرف واحد بشروط إسرائيلية، يصار إلى فرضه كأمر واقع بشريك فلسطيني أو من دون شريك. وفي هذا السياق وبعد حسم السيطرة وتصفية بنية المقاومة، فتحت عملية "السور الواقي" الأبواب أمام التدخل الخارجي الذي استهدف استبدال بنية السلطة وخصوصاً أجهزتها الأمنية ببنية تتكيف مع متغيرات ما بعد العدوان وتتعاطى مع الحل الأميركي الإسرائيلي بنسخته الشارونية الجديدة.
نتائج الانتفاضة على صعيد فلسطيني
- شكل تراجع الطابع الشعبي للانتفاضة مقتلاً لها لمصلحة العسكرة وعمليات الاستشهاديين، وبدت في الخطاب الإعلامي والسياسي الإسرائيلي، كأنها حرب مواجهة عسكرية بين طرفين على قدم المساواة، وهو ما ورطها في دخول شراك غطرسة القوة التي تحررت من القيود المتأتية من وجود شعب أعزل يحتج سلمياً، وكانت النتيجة خسائر بشرية كبيرة من المدنيين فضلاً عن تصفية المجموعات المسلحة واعتقال آلاف الشبان.
- قدمت العمليات الاستشهادية ضد المدنيين الإسرائيليين، وخصوصاً عمليات ما بعد 11/9 الذرائع لإعلان الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني بغطاء دولي، والأخطر من ذلك كان نجاح شارون في دمج النضال التحرري الفلسطيني بالإرهاب الدولي. والأغرب أن التنظيمات التي أعلنت مسؤوليتها عن تلك العمليات التي فرطت بأمان الشعب وبوجوده اعتبرت أن إسرائيل لا تحتاج إلى ذرائع.
- التقى المزاج الشعبي الفلسطيني مع قوى الإسلام السياسي صاحبة مقولة الصراع المفتوح ومع استخدامات القوى الإقليمية للقضية الفلسطينية كورقة ضغط ومساومة بمعزل عن إيجاد حل يستجيب للحقوق والمصالح الوطنية للشعب الفلسطيني. وبدلاً من إثارة الجدل بشأن الصواب والخطأ والمصالح الفعلية للشعب وقضايا التحرر والمتغيرات والتحولات الإقليمية والدولية، وأشكال النضال الملائمة، وبدلاً من إضاءة الطريق من جانب المستوى السياسي الأكثر تماسكاً وطنياً والأكثر عقلانية، ومن جانب المستوى الثقافي والأكاديمي، بدلا ًمن ذلك، حدث مستوى من التذيل للمزاج الشعبي، وهو ما ساهم في تأزم الوضع، وفي إلحاق الخسائر الفادحة في صفوف الشعب.
- وعلى الرغم من كل ما حدث، استمر اتجاه سياسي داخل "فتح" والمنظمة والسلطة في التعويل على التفاوض بوساطة أميركية، اعتقاداً منه أن عرفات أهدر فرصة الحل الذي عرض في كامب ديفيد، وقد سهل هذا الرهان عملية التدخل الأميركية الأوروبية في إعادة بناء أجهزة السلطة ومؤسساتها، وفي تعميق الانقسام، وفي ترويج رؤية بوش الابن وخريطة الطريق لإقامة دولة فلسطينية التي لم يكن لها إلاّ استخدام واحد هو التغطية على احتلال العراق، وأكبر دليل على ذلك أنها وضعت في الأدراج بعد الحرب، وبقيت سياسة فرض حل من طرف واحد هي السارية المفعول.
- بدلاً من تعزيز الانتقال من مسار أوسلو الذي جلب الخسائر الفادحة، إلى مسار التحرر والخلاص من الاحتلال، أقدمت حركة "حماس" على الالتحاق بالمشروع ذاته المقيد بألف قيد، من خلال دخول الانتخابات بمرجعيات أوسلو، والتنافس على حكم بلا سيادة أو صلاحيات، وبهذا انتقلت "حماس" إلى مواقع مجادليها ودخلت في مأزق لا يقل عن مأزق "فتح" والسلطة والمنظمة.