التقينا في أولى سنوات العمر يجمعنا الحب والأمل والتصميم على متابعة الحياة معاً بحلوها ومرها، كان عسلها كثيراً، الحب يطفو فوقها في كل الليالي الحالكة. التقينا في العمل الإنساني في فرقة "يعاد الفلسطينية" لنؤدي دوراً فنياً سياسياً ملتزماً وإنسانياً، أنا بالغناء وهو بإدارة الفرقة. كان باسل دائماً قائداً مذ عرفته وقبل، يحمل الجرأة والإيمان بالطريق الوطني الأصيل، فلسطين والعودة، وكان هاجسه مساندة المستضعفين في العالم، لم يكلّ يوماً واحداً عن السير في سبيل تحقيق العدالة الإنسانية، يكره الظلم ويقاومه بشتى الوسائل الممكنة.
سمير سلامة، بلا عنوان، زيت على قماش ١٩٨٨
شغل عدة مناصب مهمة في حياته العملية والمهنية ونال شهادة الدكتوراه في الهندسة التطبيقية من جامعة "التخنيون" في حيفا في موضوع هندسة البيئة، حتى أصبح عضواً برلمانياً في الكنيست الإسرائيلي عن حزب التجمع الديمقراطي.
منذ يومه الأول في البرلمان كان باسل متمرداً على هذا المكان الذي تطفو فيه العنصرية والفاشية من أوسع أبوابها، ومنذ اليوم الأول بدأ العمل في قضايا تخص شعبه وتخدمه، وعلى رأسها ملف الأسرى في السجون الإسرائيلية، الذين زارهم وتواصل مع عائلاتهم شخصياً ولمس كمية الظلم الممارس عليهم وعلى عائلاتهم. وكان ملف الهواتف في السجون والمطالبة بتركيبها من أول المواضيع التي عالجها، كي يحظى الأهل بالتواصل مع أسراهم وأمهاتهم وزوجاتهم وأولادهم، الأسرى والأسيرات على حد السواء.
وكان ذاك اليوم الصعب عندما أُدخل باسل إلى السجن بسبب الهواتف وتهريبها إلى الأسرى خلال إحدى زياراته لهم كعضو برلماني (يمكن متابعة قضية باسل غطاس عبر الصحافة).
الزيارة الأولى في السجن
وجاء موعد أول زيارة لنا لباسل في سجن الجلبوع، السجن المتخيل من بعيد يختلف كلياً عن ممارسة تجربة الدخول إليه، مرحلة الدخول إلى اللاوقت، لا شيء يشير إلى الزمن؛ فلا ساعة على حائط ولا ساعة في يدك ولا هاتف خليوياً يذكرك بالوقت، كل إشارات الوقت تُنتزع منك قبل الدخول لتستعيدها ثانية بعد الخروج إلى الحياة العادية والعودة إلى الوقت. ولا ساعات محددة ومنظمة لبداية الزيارة ونهايتها وسير العمل والتفتيش والانتظار والمماطلة والانتقال من غرفة إلى غرفة مع بقية أهالي الأسرى، الكل قطعان بلا زمن، يقادون بحراسة مشددة وأبواب حديدية تغلق وتفتح بأيدي السجان متى أراد.
وجاء اللقاء الأول، كصدمة الميلاد مقلوبة، يختلط الشهيق بالزفير والزفرات إلى أن تتمكن من نطق الكلمة الأولى لأسيرك الذي يقف في الجهة الأُخرى من زجاج يفصلك عنه زجاج مبرقع ببصمات أسرى، وأهل سبقوك إلى المكان والتقت مسامهم عبر هذا الزجاج الخانق وصوت الهاتف بينك وبين أسيرك، حبيبك. مجموعة من الأسرى يجلسون بشكل دائري في ملابس الشاباك البني اللون، كل على مقعده أمام الأهل يفصلهم جدار الزجاج والروح. هنا يدخل عالم الوقت إذ تبدأ الثواني بالتراجع بعد تنازلي أمامك لتذكرك بما تبقى لك من وقت لتمارس إنسانيتك المشروطة بألف شرط عبر الزجاج لتنتهي بعد 45 دقيقة، تُنتزع منك انتزاعاً وأنت في بداية الارتواء كما يسحب الماء من فم عطشان وهو على وشك ارتشاف جرعة الماء. الكلام رسائل وبرقيات لكي تستطيع أن تمرر كل ما جمعته خلال أسبوعين، الوقت بين الزيارة والأُخرى؛ تبادل أخبار ومعلومات، تعبير عن أشواق، سماع أخبار أسيرك وما يجلبه من ألم وحياة صعبة وقضايا محامين، كل الكلام محسوب يصعب تخطيط أولوياته، فلا ورقة تستطيع أن تأخذها معك للقاء لتذكرك ربما بما نسيته. ينتهي الوقت فتعانق الزجاج وتطبع قبلة في الهواء وتلوح باليد والدموع مسجونة بين الزجاجين وتغادر إلى عالمك ويغادر إلى عالمه، كل يحلم بالعالمين.
من ذكرياتي المؤلمة خلال زيارات الأسر
بعد أن نقل باسل من سجن هاداريم، المحطة الثالثة في تنقلاته القسرية بين السجون وعذابات البوسطة، إلى سجن نفحة في أقصى جنوب البلد، الذي يبعد عن بيتنا مسافة نحو 300 كم، وبعد تكبد مسافة السفر الطويلة وصلت إلى السجن، تخطيت كل مراحل الدخول مع أهالي الأسرى لأصل إلى المرحلة الأخيرة. وقبل الدخول إلى قاعة الزيارة حيث سألتقي باسل أوقفني السجان مع مدير السجن وجندية أُخرى محاولين منعي من الدخول بسبب خاتم الزواج الذي كان في أصبعي مع خاتم فوقه رفيع من الذهب الصافي لم أنزعه من أصبعي مذ وضعته بعد ارتباطنا.
يبدو أنه لكل سجن قوانينه التي تختلف من سجن إلى آخر، ففي السجون التي سبقت نفحة، الجلبوع وهاداريم ورامون لم يكن هذا النظام، إذ استطعت الدخول بالخاتم كونه مصنوعاً من الذهب، ولا يؤشر الحاجز الإلكتروني إلى وجود معدن مشبوه. حتى في سجن نفحة لم يؤشر شيء إلى جسم غريب، فدخلت بشكل عادي إلى أن استوقفني السجانون في آخر لحظة ليشيروا إلى أن الخاتم ممنوع، ويجب عليّ أن أخلعه قبل الدخول، وأنا أعلم أن عودتي إلى الخارج لأضع الخاتم في حقائبي كانت مستحيلة لأني سأخسر الزيارة وستكون على حساب الـ 45 دقيقة. طلبت من السجانين الاحتفاظ بهما ريثما أخرج وأستلمهما منهم، فطبعاً مانعوا بشدة وبيّنوا أن هذا ليس قانونياً بل مستحيلاً، فلم يكن أمامي إلاّ وضعها في دلو المهملات المفتوح أمامي، فنزعت الخاتمين من أصبعي وهممت بوضعهما في هذه السلة، وقلت لهم، أعرف أنها ستسرق مثلما سرقت أشياء عديدة مني في أثناء زيارات سابقة، مثل ساعة يد ونقود وغيرها، وسأحملكم مسؤولية ضياعها، لأنه لا يوجد أحد سواكم هنا، فتدارك حالاً مدير السجن حين رأى إصراري، وحين قلت لهم لن أخسر زيارتي لباسل مهما كان الثمن، فقال لي هاتي الخواتم سأحتفظ بها في جيبي إلى أن تخرجي، ووضعها في جيبه وقال لي إنها حالة استثنائية ولن تتكرر، طبعاً فرحت ودخلت إلى الزيارة وعلامات الانتصار تبدو عليّ واضحة، وعندما انتهيت من الزيارة بعد 45 دقيقة، خرجت إلى السجان نفسه ليعطيني الخاتمين اللذين ربطاني رباطاً مقدساً عمراً كاملاً بزوجي، لن يستطيع أي سجن أو سجان فك لحمته.
الصورة في سجن هاداريم
بالنسبة إلى الأسرى الأمنيين لا تتم الزيارة ولقاء الأحبة إلاّ عبر الزجاج والهاتف ثقيل الظل، وهو متقطع الصوت في أغلب الأحيان وصدى الصوت فيه يمنع فهم الكلام، لكن يحق للأسير أن يأخذ صورة مع أحد الوالدين مرة كل 4 سنوات، أو بعد سنة أحياناً من الأسر بحسب ما ترتئيه إدارة مصلحة السجون. وفي حال وفاة الأهل تكون الصورة مع الزوجة، وفي حالتنا بعد مرور سنة على سجن باسل، وبطلب رسمي لأخذ صورة لنا معاً، باسل وأنا، تمت الموافقة على الطلب، والصورة طبعاً تصبح الحلم المنتظر لكل أسير وذويه فمن خلالها فقط يستطيع أن يعانق أو يقبل أو يلمس أحدهما الآخر، بلحم ودم، واللقاء خلال التقاط الصورة يكون لمدة لا تتجاوز الدقيقتين أو الثلاثة لو حالف الحظ ولم تنجح الصور، داخل غرفة بحضور السجانين والمصوّر الذي يكون عادة من طاقم السجن.
جاء موعد الصورة خلال إحدى الزيارات في سجن هاداريم، أخذوا باسل من بين الأسرى، وأنا أخذوني من باب خارجي إلى مكان التقاط الصورة، تعانقنا بعد مرور سنة لم نتلامس خلالها عناقاً عابراً لكي يتم أخذ الصورة بعد ذلك، التقطوا لنا ثلاث صور في ثلاث حالات متشابهة طبعاً من دون كلام، ثم على وجه السرعة أمروا بإعادتنا كل إلى مكانه لنكمل الزيارة، خرجنا من دون وقت لقبلة عابرة حتى، وفي طريق عودتي إلى قاعة الزيارة رافقني سجان، بدأ باستفزازي بأسئلة عن شعوري، كأنه ينوي التعاطف معي فقال:
- صعب الموقف ها؟
- قلت له والدماء تغلي في رأسي، بكبرياء وعنفوان المنتصر، لا عادي جداً.
- قال: منذ متى لم تتعانقا؟
- قلت له: سنة، لكن لا عليك.
- قال: هذا صعب أليس كذلك؟
- قلت له انظر من حولك ألا ترى كم عانى الأسرى ويعانون من البعد عن أحبائهم؟ هناك أمهات لم تلتقِ أبناءها سنين وسنين، لا عليك منا نحن بخير.
وصلت إلى مكاني لأعاود ما تبقى لي من الـ 45 دقيقة لتتم الزيارة، وأعود أدراجي إلى البيت مثقلة بشعور الحنين والحرمان والتحدي والإصرار والدعم لزوجي والأسرى وقضيتهم العادلة.
بكيت قهراً في طريقي إلى البيت في القطار الذي أقلني من بئر السبع، بعيداً عن عيون السجان المتعطش لرؤية ألمي وألم شعبي، وبعيداً عن عيني زوجي المثقلتين بهموم الأسر والأسرى.