بيروت التي لا تكُفّ عن المجيء
النص الكامل: 

منذ فجر محاولات النهوض العربي في القرن التاسع عشر، كانت بيروت نجمة تتلألأ على جبين سماء التحول وتجديد الجلد والقلب والفكر. فها هو أحمد فارس الشدياق (1804 - 1887) المغامر الكبير الباحث عن نفسه وهويته، والساعي لفهم "الآخر"عن قرب، كي يستمد فتائل ضوء ربما تسعفه على الاستهداء وهو يغادر ليل عصور الانحطاط، يُحدّث اللغة من خلال تطويعها لاستيعاب تفصيلات التحولات في الواقع وفي النفوس، ولا يتوانى عن التبشير بعناصر الحداثة والتحديث عند الغرب، مشيداً برحابة فَهْم الديانات وفضائل العقلانية عند الآخر.

ومن لبنان هاجر شعراء وكتّاب وفنانون إلى العالم الجديد، حاملين آيات من حكمة الشرق وروحانيته، يتقدمهم "النبي" جبران خليل جبران (1883 - 1931)، وصاقلين لغة الضاد ومجددين شعرها.

ومنذ استقلال لبنان توطدت رمزية بيروت على طريق التجديد الأدبي والفكري، متحدية بُنيات الجمود وهَوَس الإحياء والتعبد في محراب الماضي المهجور. عاد يوسف الخال وزوجته الفنانة التشكيلية من أميركا، متشبعَين بنفحات التجديد التي هبّت على العالم الجديد منذ عشرينيات القرن الماضي، وأسسا مجلة "شعر" التي جذبت كوكبة من الفنانين الرسامين والنحاتين، وسرعان ما أصبحت المجلة نبراساً يلتف حوله شعراء شباب آنذاك، من جميع أرجاء الفضاء العربي، استطاعوا أن يحفروا أخاديد عميقة في مجرى الشعر والنقد والفن التشكيلي.

كما عاد سهيل إدريس من إقامته الدراسية في باريس، وفي زوّادته مشروع مجلة "الآداب" والتشيّع للفلسفة الوجودية السارترية التي سيعمل على توظيفها لاستكمال ما ينقص المشروع القومي العربي الصاعد آنذاك، والمفتقر إلى ما يملأ خانة حرية الفرد المحذوفة من مشروع القومية المُنزّل من فوق. وأهم من ذلك حمل سهيل إدريس في حقيبته روايته الرائدة "الحيّ اللاتيني".

ثم تتوالى التفصيلات التي تؤكد أن بيروت أصبحت أحد مراكز النهوض في مجالات الفن والإبداع الأدبي والفكر الأيديولوجي والسياسي: فليلى بعلبكي صاحبة "أنا أحيا" تحاكَم بعد أن نشرت مجموعتها "سفينة حنان إلى القمر"؛ والناقد الماركسي رئيف خوري يحاور في مؤتمر بلودان "عميد" الأدب العربي طه حسين؛ والشاعر الروسي إيفتيشنكو يقرأ في قاعة الجامعة العربية قصائده باللغة الروسية بينما أدونيس يلقي ترجمتها بالعربية. وفي خلفية الوقائع والتفصيلات، يرتفع صوت فيروز السماوي صادحاً وسط ضوضاء الفضاء العربي، ووسط الحروب الأهلية وحروب الأشقاء / الأعداء.

كلما توالت الطعنات الموجهة إلى لبنان، من داخله ومن جيرانه، لجأتُ إلى استحضار اللحظات المشرقات الكامنة في ذاكرتي البيروتية، والتي كانت تُشرع نوافذ الأمل أمام مَن عاصرتُهم من الشباب آنذاك. غير أن الانتكاسات والهزائم توالت، والتحليلات الأيديولوجية سرعان ما تبخرت، وبيروت التي كنا نسترشد بضوئها تحولت إلى متاهة سوداء يحوطها دخان قاتم كأنها تُرغم على النزول إلى الجحيم، لكنها ليست وحدها، فهناك أقطار عربية شتى توجد في متاهة الحرب وبين أطلال الخراب.

أفكر وأعيد التفكير، لأنتهي إلى أن هناك عناصر مشتركة تحكمت في مصير دول الفضاء العربي، وجعلتها، منذ الاستقلالات السياسية على الأقل، تسير صوب التدهور وفقدان البوصلة. لأجل ذلك، كلما أمعنت التفكير في عناصر هذه الإشكالية، من خلال الهزات والزلازل التي تضرب لبنان وبقية الأقطار "الشقيقة"، وجدتني أميل إلى أن هناك بؤرة مشتركة تتحدر منها الأزمات والتعثرات لتجعل النهوض معاقاً باستمرار.

أقصد أنه على الرغم من اختلاف الأنظمة الحاكمة، من حيث الشكل، بين مَلَكيات أوليغارشية وجمهوريات عسكرتارية "وطنية"، فإن هناك قاسماً مشتركاً يكمن وراء التعثر المستمر ويقود إلى التحارب والخضوع للتبعية الأجنبية ذات الأطماع المتجددة. بعبارة أُخرى، تعود أزمة دول الفضاء العربي إلى أنها أخطأت الطريق إلى الحداثة في معناها العميق والمتكامل، إذ إنها قفزت على الأسس الضرورية لإخراج مجتمعاتها من مرحلة ممارسات عصور الانحطاط والتأخر، ولم تسعَ لترسيخ الجدلية الخلاقة بين المجتمع المدني والدولة.

هكذا، بدلاً من أن نشاهد، بعد الاستقلالات، طرح إشكالية الحداثة المعتمدة على تفاعل وتسانُد بين الجانب الفكري القيمي، والجانب السياسي الدينامي المصاحب للتحولات والضابط للممارسة الديمقراطية، وجدنا "ورثة" الاستعمار يعمدون إلى تأبيد سلطة الحكام على اختلاف مرجعياتهم واختلاف الواجهات والشعارات التي يتسترون وراءها.

على هذا النحو، أخطأت دول الفضاء العربي الطريق إلى الحداثة، وانغمست في التحديث المعتمد على استجلاب واستعارة ما تنتجه دول الغرب والعالم المتقدم، من دون أن تزرع في التربة العربية الأسس العقلانية والعلمية والسياسية الكفيلة بأن تحقق التوازن الضروري بين الحداثة والتحديث، وبين جدلية السياسي والثقافي، وبين الحوكمة والمراقبة الديمقراطية، الأمر الذي يدفعني إلى القول إن التحديث الذي عرفه الفضاء العربي نتيجة المثاقفة عبر الاستعمار في البداية، كان يفتقر إلى أسس صلبة تتيح التوغل في مسالك الحداثة لاستنبات طريق النهوض القادر على رفع تحديات المستقبل. وهذا ما يجعلني أعتبر علاقة الفضاء العربي بالحداثة أشبه ما تكون بـ "الفعل القاصر" (Acte manqué) وفق مفهوم سيغموند فرويد [والذي يعرّف أيضاً بالزلة أو الهفوة الفرويدية]، لأنها تفتقر إلى الأسس النظرية التي تحول دون أن تصبح تلك العلاقة مجرد اقتباس واستيراد لوسائط التحديث مع الحفاظ على بُنيات عتيقة تجعل هذا النوع من المثاقفة والاقتباس مجرد ممارسة مجانية طوال عدة عقود من حياة دول الفضاء العربي. ولا أنسى عنصراً أساسياً أُهمل في علاقة دول الفضاء العربي بالحداثة، وهو تحييد الدين وجعله عنصراً يخص علاقة كل فرد بمعتقداته الدينية من دون أن يكون له دخل في تنظيم قوانين ومشاريع تدبير شؤون المجتمع.

بالنسبة إلى لبنان الذي كان منذ القرن التاسع عشر نافذة موصولة بالتراث الفلسفي والأدبي الغربي الداعم للأزمنة الحديثة، نعلم أنه اضطلع بدور الوساطة في التعريف بثقافة "الآخر"، وانتهج صيغة توفيقية في تدبير الشأن السياسي من خلال الحفاظ على الطوائف والبعد الديني في تدبير شؤون المجتمع؛ أي أن لبنان على الرغم من تمثله المتقدم لوسائل النهوض، أغفل تحييد الدين وإزالة أسيجة الطائفية، فكان ذلك بمثابة القنبلة الموقوتة التي ما فتئت تنفجر عبر حروب أهلية، وعبر تدخّل الدول المجاورة المستثمرة لثغرات النظام الطائف، فضلاً عن فساد السياسيين المحتمين بطوائفهم، وانتشار المحسوبية وفقدان الدولة لسلطتها بسبب استقواء سلطات أُخرى، الأمر الذي يؤكد أن صيغة الدولة الطائفية في لبنان لم تعد صالحة للاستمرار، لأن سلبياتها تفاقمت وأضرت بجميع المواطنين على اختلاف مِللهم وانتماءاتهم، وقد تجلى ذلك بوضوح في ثورة الشباب اللبناني في 17 تشرين الأول / أكتوبر 2019.

ما حدث ويحدث في لبنان يعيدنا إلى تجميع شتات المشاهد والمراحل التي تعاقبت على دول الفضاء العربي، كي نستجلي الأسباب التي حكمت عليها بالتعثر المستمر والانحباس داخل شرنقة الملكيات الأوليغارشية والجمهوريات المتسلطة؛ لكن المقام لا يتسع لتحليل هذه الإشكالية الأساسية.

بطبيعة الحال، كثيرون من المفكرين والمثقفين العرب حللوا وكتبوا عن الأسباب الكامنة وراء الإجهاض المستمر للنهوض العربي في اتجاه الحداثة والديمقراطية. وعلى الرغم من أهمية تلك التحليلات، فإنه قلما يتم التوقف عند مشكلة الفئات والطبقات الاجتماعية المهيأة للاضطلاع بتجسيد الحداثة في صلب المجتمعات العربية. وأعتقد أنه منذ بدء انتفاضات الربيع العربي في كانون الأول / ديسمبر 2010، شرعت ملامح تلك الفئات تعلن نفسها من خلال رفض سلطوية الأنظمة القائمة التي تشد الفضاء العربي إلى ماضوية عقيمة، وإلى تبعية لسياسة أميركية وإسرائيلية متنصلة من حقوق فلسطين في الحرية وتشييد الدولة. ولحسن الحظ، فإن تلك الهبّات الشبابية المستمرة، وعلى الرغم من القمع والتنكيل، هي التي تريد معانقة الحداثة في عناصرها المتكاملة، ومن خلال قوى بشرية شابة، رجالاً ونساء، مصممة على التغيير والنهوض.

وها هي بيروت تحتضن وتقود ثورة شباب لبنان بشعارات جديدة ورؤية ثقافية وسياسية مستقبلية، كي تنسف قوقعة الطائفية وأجهزة الدولة القائمة على المحاصصة والفساد. بيروت / الرمز لن تكفّ عن المجيء على الرغم من الانفجارات التي تقتل الأبرياء، ولن تكفّ عن المجيء حاملة نذور التضحية والتحدي للخروج من سراديب الخراب؛ بيروت التي لا تكفّ عن المجيء تعرف كيف تخرج من بين الصُّلب والترائب تسندها قوى الشباب في أصقاع لبنان كله، على اختلاف أصولهم الدينية والاجتماعية، لتضع حداً للمسرحية الهزلية التي تستهتر بمصالح المواطنين وأرزاقهم ومستقبلهم. بيروت تحمل، هذه المرة، نَوَيات القوى المجتمعية المصممة على الخروج من دوائر التعفن والمساومات التي تتلفع بأردية الدين وخطابات سدَنة المعابد والمنابر المهجورة. نعم، بيروت تتلألأ من جديد في سماء الفن والإبداع والتمرد لأنها لا تكفّ عن المجيء مذ نذرت نفسها للتجديد والثورة ومعانقة أحلام الشباب.

السيرة الشخصية: 

محمد برادة: روائي وناقد مغربي.