بيروت خيمتنا
النص الكامل: 

ليس جديداً ما أصاب بيروت، بل لبنان كله، في انفجار 4 آب / أغسطس 2020، فهذه النكبة هي واحدة من النكبات التي أصابت بيروت، وأولها في سنة 551م في أيام الرومان، بعد أن كانت قد أصبحت مدينة الشرائع، وقبل أن يتأسس فيها لبنان كوطن حديث بعد متصرفية جبل لبنان في سنة 1863.

من الطبيعي إذاً عندما يُذكر اسم بيروت أن يُذكر معها بالضرورة اسم لبنان، والعكس صحيح، وأنا أقول هذا وأكرره مثلما فعل ويفعل آخرون ممّن ينتمون انتماء حقيقياً إلى الوطن اللبناني الأصيل بتنوع سماته وتعدد مكوناته.. الوطن الخالد الذي تشكل بيروت ليس فقط عاصمة له، بل جزءاً أساسياً مكوناً منه أيضاً، وإلى جانبها مدن تاريخية أعطت لبنان سمة الشخصية الفريدة وعبقرية المكان، مثل صور وصيدا.

"بيروت خيمتنا".. هذا ما قاله شاعر الثورة الفلسطينية محمود درويش عندما زارها في أواخر تسعينيات القرن الماضي بعد غياب قصري دام خمسة عشر عاماً. ووصفُ "بيروت خيمتنا" الذي أعطاه محمود درويش هو اعتراف منه ووفاء باسم فلسطينيته لما أعطته بيروت وأعطاه لبنان للقضية الفلسطينية. غير أن تأكيدي أن بيروت خيمتنا، إنما هو لأن بيروت هي أمّنا نحن اللبنانيين من جميع المناطق؛ أمنا التي احتضنتنا عبر التاريخ قديمه وحديثه، ودفعتْ ودفعنا معها الثمن الباهظ، مروراً بالحرب الأهلية، حتى الرابع من آب / أغسطس.

علاقتي ببيروت بدأت في سنة 1939 عندما كنت في التاسعة من عمري. فقد ذهبت إلى بيروت في صيف تلك السنة مع والدي الشيخ أحمد برفقة شقيقي محمد حسين ومرتضى وابنَي عمي الشيخ زين عبد الحسين وعبد الرضا، ونحن نضع على رؤوسنا طرابيش ذلك الزمان التي كانت سائدة في عدة عوائل كعائلتنا الدينية، وأُخرى مدنية. ذهبنا في ذلك التاريخ لاستقبال عمّنا الذي صار فيما بعد يحمل صفة الشيخ زين، والذي كان عائداً من هجرة طويلة قضاها في سيراليون في أفريقيا الغربية أسوة بالعديد من المغتربين من أبناء الجنوب اللبناني. لدى وصولنا إلى بيروت، فإن أول ما كان يتوجب علينا فعله هو الذهاب فوراً إلى المرفأ لاستقباله على أبواب الباخرة، وكانت هذه أول وآخر مرة أدخل فيها إلى مرفأ بيروت. ولذلك، فإنني لا أذكر شيئاً عن المرفأ الذي دُمّر في 4 آب / أغسطس، ودُمرت معه مناطق واسعة من بيروت الخالدة.

استقبلنا عمي، وذهبنا فوراً معه إلى منزل عمتي الحاجة فاطمة في منزلها الواقع في منطقة البسطة التحتا القريب من الجامع الشهير في ذلك المكان، ثم توجهنا جميعاً، باستثناء عمتي، إلى شارع "سوق الطويلة" في القسم الأخير منه حيث كانت تقع مكاتب جريدة "النهار"، لزيارة نسيبنا الإعلامي الكبير كامل مروة.

أمّا الزيارة الثانية لبيروت فكانت في سنة 1943، حين أرسلني والدي لمتابعة دراستي المتوسطة في مدرسة حوض الولاية العريقة في التاريخ. وفي أثناء وجودي في بيروت في تلك المدرسة، اعتقلت سلطة الانتداب الفرنسي حكومة الاستقلال. وكنت فور دخولي إلى المدرسة قد شكّلت مع زملائي جمعية ثقافية كنت أنا مديرها، وكان رئيسها عاكف حيدر الذي أصبح فيما بعد نائب رئيس حركة أمل. فقررنا أن نشارك في الاحتجاج على اعتقال حكومة الاستقلال، وخرجنا في تظاهرة من دون أن نطلب إذناً من إدارة المدرسة لكننا وُوجهنا على الفور بالقناصة السنغاليين، الأمر الذي جعلنا نتفرق في الاتجاهات كافة. وأذكر أنني أضعت الطريق إلى المنزل الذي كنت أقيم فيه مع شقيقي محمد حسين وشقيقتي فاطمة القريب من المدرسة، وبقيت أبحث عنه على امتداد النهار حتى وجدته بمحض المصادفة.

وأذكر أنني بقيت أربعة أشهر في بيروت، تعرفت خلالها، وبمساعدة ابن عمي منير الذي كان يتابع دراسته في الجامعة الأميركية، إلى معالم المدينة، إذ زُرنا جميع المعالم، وحدثني بالتفصيل عن تاريخ بيروت القديم والحديث. وكان لساحة البرج، ساحة الشهداء، مكان خاص في ذلك التجوال داخل بيروت. وأذكر أن ابن عمي منير رافقني إلى ملهى فاروق الذي يقع في أعلى الجهة الغربية من ساحة البرج للاستمتاع بمشاهدة الراقصة المصرية سامية جمال. هذه ذكريات لا تُنسى جعلت بيروت بالنسبة إليّ، بدءاً من طفولتي، مثل الحلم.

في سنة 1949 عدت من العراق حيث كنت أتابع دراستي برعاية ابن عم والدي حسين مروة في بغداد، وبدأت أزور بيروت للقاء حسين الذي كان قد استقر فيها بعد عودتنا من العراق، وذلك بمعدل كل أسبوعين، قادماً من مدرسة بلدة شمسطار البقاعية التي كنت أدرّس في مدرستها، وكنت أمضي يومين بضيافة حسين، أتجول فيهما في شوارع بيروت برفقة نزار ابنه البكر ورفيق العمر. لكن أهم ما أذكره في تلك الزيارات بين سنتَي 1950 و1953، هو الشاعر والأديب والمفكر عبد المطلب الأمين، الدبلوماسي والمحامي والقاضي السابق، الذي ربطتني به علاقة صداقة حميمة بواسطة حسين مروة، وصرت رفيقاً له في زيارات ملاهي وبارات بيروت في مختلف مناطق المدينة. فيما بعد، صرت من سكان بيروت في ضاحيتها الجنوبية، وذلك عندما انتقلت مع العائلة من مدينة صور إليها، وبعد ذلك بأعوام انتقلت إلى منزل في شارع مار الياس، وصرت واحداً من أبنائها تحقيقاً لحلمي التاريخي.

في سنة 1952 أصبحت طالباً في الجامعة اللبنانية في العام الثاني لتأسيسها، ونائب الرئيس لأول رابطة طلابية فيها، وكان رئيسها صديقي التاريخي فؤاد الترك، وصرت في الوقت ذاته المسؤول عن منظمة الطلاب في الحزب الشيوعي. وكان آخر ما قمت به من موقعي المشار إليه التحضير لتظاهرة استنكاراً لزيارة وزير خارجية أميركا فوستر دالاس المشبوهة، وكانت تظاهرة حاشدة انطلقنا فيها من منطقة البربير إلى ساحة البرج. وصارت بيروت منذ ذلك التاريخ مركزاً لمناهضة الأحلاف الأجنبية "حلف بغداد" أو"حلف السنتو"، وفي الوقت ذاته مركزاً لتظاهرات التضامن مع الحركات الوطنية في الدول العربية، مشرقاً ومغرباً، وفي مقدمها الثورة الفلسطينية في مختلف مراحلها. وصارت أيضاً مركزاً للتضامن بصيغ شتى مع الحركات الوطنية في دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.

كانت تلك إذاً البدايات التي ربطتني ببيروت، وحوّلتني إلى واحد من أبنائها القادمين من الجنوب، وأنا أعتز بشدة بانتمائي إليها، وإلى تاريخها القديم والحديث.

لم يكن سهلاً عليّ، بحكم علاقتي ببيروت ومعرفتي بتاريخها القديم والحديث، أن أكون شاهداً على ذلك التفجير المشبوه في المرفأ، والذي أصابها بنكبة تذكّرنا بالنكبات السابقة، قديمها وحديثها، وهزّ لبنان من أقصاه إلى أقصاه.

وفي يقيني في ضوء ما تقدم أن بيروت التي أعتز بانتمائي إليها لا تزال تواجه من داخلها ومن خارجها قوى لا تريد لها أن تكون استمراراً لتاريخها القديم والحديث. بيروت ليست خيمة لجميع اللبنانيين فقط، بل إنها أيضاً التعبير باسم لبنان عن السمة التي ارتبطت بهذا البلد كصلة وصل ثقافية بين حضارات الشرق والغرب. أمّا أولئك الذين أشير إليهم في الداخل والخارج، فيحملون أجندات لا تمتّ بصلة إلى لبنان الذي نعتز به، والذي نريده أن يتحرر ممّا أصابه ولا يزال يصيبه على يدهم من نكبات، إلّا إننا واثقون بأن ما عبّرت عنه ثورة 17 تشرين الأول / أكتوبر، سيفرض نفسه على هؤلاء، وسيعيد لبنان إلى سماته ومكوناته، وطناً للحرية، سيداً حراً مستقلاً وجزءاً مكوناً من العالم العربي ومن العالم كله.

غير أن التذكير بثورة 17 تشرين الأول / أكتوبر يتطلب من الذين يشكلون قيادتها أن يضعوا برنامجاً واقعياً واستراتيجياً للاستمرار فيها، وأن يدققوا بصورة واقعية في آليات النضال لتحقيق ذلك البرنامج، فيتجنّبوا الوقوع في الأخطاء والشعبوية التي رافقت الثورة، ويبتعدوا عمّا تحاول قوى النظام المهيمن على لبنان والمتحكمة في مصائره بمختلف فئاتها، جرّ الثورة إليه.

في تلك الشروط المشار إليها نستطيع الجزم بأن ثورتنا ستنتصر مهما يطل الزمن، ومهما يواجهها من صعوبات. فهذا هو خيارنا من أجل المستقبل الذي نحرر فيه لبنان من كل ما أصابه على امتداد الأعوام المئة الماضية من تاريخ تأسيسه الحديث، وكي نُبقي على بيروت، تلك العاصمة الخالدة، خيمة أبدية لنا.

السيرة الشخصية: 

كريم مروة: مفكر وكاتب لبناني، وعضو سابق في المكتب السياسي للحزب الشيوعي.