بيروت مثلما هي عربية ولبنانية، كانت فلسطينية ولم تزل. في وسط بيروت، وفي ساحة شهدائها، وقبل تقسيم بلادنا في اتفاقية سايكس - بيكو إلى دول وأقطار، نصب جمال باشا السفاح أعواد المشانق لأحرار العرب الذين احتضن ثرى بيروت جثامينهم، وكان نصيب المدن الفلسطينية منها، في ذلك اليوم، ثلاثة شهداء، هم: سليم عبد الهادي من عرابه جنين، ومحمد الشنطي من يافا، وعلي النشاشيبي من القدس. في ذلك الزمان، كانت ولاية بيروت تضم الساحل الفلسطيني حتى شمالي يافا، وتوسعت لاحقاً لتشمل سنجق نابلس الممتد حتى سهل حوران.
بيروت عربية فلسطينية بروحها وقلبها وانتمائها، والفلسطيني فيها ليس مَن احتضنته في ربوعها فحسب، بل هو أيضاً كل مَن اعتبر فلسطين هويته، وآمن بقضيتها، وناضل من أجلها، أكان لبنانياً، أم عربياً لجأ إليها فآوته، أم فلسطينياً عاش فيها وعاشت فيه.
بيروت الفلسطينية مظاهرها لا تُحصى، وجذورها تمتد إلى الرعيل الأول من الطلبة العرب الذين درسوا في جامعاتها؛ إلى مصطفى أرشيد الذي أسس مع أنطون سعادة الحزب القومي الاجتماعي؛ وجورج حبش، ووديع حداد، وصلاح الدباغ، وأحمد الخطيب، وقسطنطين زريق، ومحسن إبراهيم، ومحمد كشلي، وغسان كنفاني، في بدايات تشكيل حركة القوميين العرب بعد النكبة؛ وتوفيق حوري، وهاني فاخوري، حين أشرفا على تأسيس مجلة "فلسطيننا – نداء الحياة" وإصدارها من بيروت، في سنة 1959، لتكون صوتاً ناطقاً بأفكار حركة "فتح" في إرهاصاتها الأولى، مع خليل الوزير وياسر عرفات.
بيروت الكتّاب والأدباء في الصحافة اللبنانية كلها، الذين حملوا همّ فلسطين منذ نكبتها، ودافعوا عنها بالقلم والدم، هي ذاتها بيروت شارل الحلو، وموريس الجميّل، ووداد قرطاس، ونجلاء فخر الدين، وفؤاد صروف، ونبيه أمين فارس، وسعيد حمادة، الذين أسسوا مؤسسة الدراسات الفلسطينية، مع قسطنطين زريق، ووليد الخالدي، وبرهان الدجاني، في سنة 1963، لتكون المؤسسة البحثية الأولى من نوعها في العالم العربي. ثم في سنة 1964، تأسس مركز الأبحاث الفلسطيني الذي ترأسه يوسف صايغ في بداياته، والذي حاول الصهيونيون تفجيره بسيارة مفخخة، ثم نهبوا محتويات المركز، في محاولة منهم لعزل بيروت عن قضيتها.
هي بيروت أكرم زعيتر الذي ساهم، في إبان شبابه، في تأسيس عصبة العمل القومي في مؤتمرها الأول الذي عُقد في قرنايل في سنة 1933، مع نخبة قومية لبنانية وعربية دعت إلى استقلال الأقطار العربية ووحدتها. وعندما تقاعد من عمله كسفير في بيروت في سنة 1974، اختار العيش في كنفها رئيساً لناديها الثقافي، حتى ما بعد الاجتياح الصهيوني لها في سنة 1982، لتندمج ذاكرته مع ذاكرتها، ويسطر في يومياته، الممتدة بين سنتَي 1919 و1984، ذاكرة لبيروت، بأعيانها وأحيائها وفنادقها ومطاعمها وصحفها ومعاركها المشتعلة.
بيروت الفلسطينية هي بيروت التي مشت عن بكرة أبيها، بجميع اتجاهاتها، يمينها ويسارها، وبزعاماتها التقليدية وقياداتها التقدمية كلها، لتشيّع شهداء نيسان / أبريل 1974 الثلاثة: كمال ناصر، وكمال عدوان، وأبو يوسف النجار، في موكب مهيب لم تشهد بيروت مثله لا من قبل ولا من بعد.
بيروت الفلسطينية هي بيروت التي امتزجت فيها حركتها الوطنية مع المقاومة الفلسطينية، وانضم أبناؤها إلى صفوف هذه المقاومة، مباشرة أو من خلال أحزابهم وروابطهم وتجمعاتهم السياسية.
وأذكر في هذا السياق أن تنظيمنا الطلابي في حركة "فتح" تشكل في أغلبيته، قيادته وكوادره، من طلابٍ لبنانيي "إخراج القيد" والجنسية، خرجوا عن تصنيفات الطوائف والمذاهب التي لم نكن نعرفها، ولم تخطر لنا في بال، إذ لم يُسأل أحدهم يوماً عن دينه أو مذهبه أو بلدته، وإنما انصهروا جميعاً في بوتقة واحدة عنوانها الدفاع عن لبنان وتحرير فلسطين. ويحضرني في هذا السياق يوم جاء أصدقاؤنا من بعض قيادات الحركة الوطنية اللبنانية إلى الأخ صلاح خلف (أبو إياد) يشكون تنظيمنا، بدعوى أن الفلسطينيين يتدخلون في شأن لبناني، وهو انتخابات الاتحاد الوطني لطلبة الجامعة اللبنانية، طالبين إليه الحيلولة دون استمرار ذلك. يومها فوجىء أبو إياد حين علم أن الطلاب الفلسطينيين لا يمتلكون حق التصويت في هذه الانتخابات المحصورة بالطلبة من أصول لبنانية، وأن الشكوى مردّها نمو تيار لبناني يعمل ضمن "فتح" في صفوف الجسم الطلابي يؤمن بأولوية النضال الوطني على النضال المطلبي. وقد تمكّن هذا التيار من تشكيل جبهة طلابية عريضة خاضت الانتخابات، وفازت بعدد وافر من مقاعدها، وشاركت في قيادة الاتحاد الوطني لطلبة الجامعة اللبنانية، كما قادت مجالس الطلبة في الجامعات الأميركية والعربية وبيروت الجامعية. يومها، امتلأت شوارع بيروت بعشرات الآلاف من المتظاهرين، مثلما هي حالها اليوم، في مزج خلّاق بين النضال الوطني للدفاع عن لبنان، ومساندة المقاومة فيه، وحماية حقوق المواطنين، والدفاع عن قضاياهم العادلة في وجه الاحتكار المتوحش. تلك الأجواء سبقت الربيع العربي بعقود، ونمت فيها الحرية وسط غابة من البنادق، واهتزت الأفكار وتغيرت، وعلا صوت أجيال جديدة متمردة.
أذكر أن مكبرات الصوت في جامعة بيروت العربية كانت توالي هتافاتها التي تصل إلى مكتب ياسر عرفات القريب، معارضةً برنامج النقاط العشر والحل السلمي، لكن إذا حل الليل نام بحراسة بنادق أولئك الطلبة الثائرين. وفي تظاهرة دعت إليها أحزاب الحركة الوطنية، وفصائل المقاومة الفلسطينية، احتفاء بتأميم العراق منشآته النفطية، أطلق بعض الطلبة، في محاولة منهم الخروج عن الصيغ النمطية لأحزابهم اليسارية، هتافاً رناناً يقول: "صدام حسين منع الموت الطبيعي، بَدّو يغتال كل مناضل شيوعي"! وسرعان ما تلقّفته التظاهرة كلها، وسط ذهول منظميها. وفي سنة 1974، نفذ الطلبة، من مختلف الاتجاهات، إضرابهم الشهير في الجامعة الأميركية؛ وقد التحق بعضهم بالإضراب احتجاجاً على رفع الأقساط الجامعية، في حين اعتبره آخرون منازلة للإمبريالية الأميركية في عقر دارها.
نُفذ الإضراب وسط معارضة أغلب القيادات حينها؛ وأذكر أن ياسر عرفات قال لنا يومها: "تذكروا أنها معركتكم، وليست معركتي"، لكنه وسائر القيادات اللبنانية لم يستطيعا أن يقفا أمام تيار الطلبة الجارف.
تظاهرة طالبية مؤيدة للثورة الفلسطينية في نهاية ستينيات القرن الماضي
اقتحمت قوات الأمن حرم الجامعة، واعتقلت الطلبة المضربين. يومها كان المدعي العام، فريد مطر، والد رئيس مجلس الطلبة في الجامعة، هو الذي أصدر مذكرات التوقيف بحقّ الطلبة، ومن ضمنهم اثنان من أبنائه، ثم عزل نفسه عن القضية لورود أسماء ابنَيه فيها. تذكرت هذا وأنا أرى بيروت المنكوبة اليوم بتفجير مرفئها، حائرة بين عشرات المذكرات القضائية، والمراسلات الإدارية الضائعة والمفقودة منذ أعوام بين ثنايا الحكومات والدوائر المتعددة.
وفي أيار / مايو 1973، حاول الجيش اللبناني اقتحام مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وسُمع دوي الرصاص والقذائف بالقرب من جامعة بيروت العربية، فهرع طلابها يتصدون لهذه المحاولة، وأقاموا المتاريس في الطرقات، لتتحول مواقعهم إلى بؤر استقطاب لمئات الطلبة القادمين من أحزاب الحركة الوطنية من مختلف الجامعات والمدارس الثانوية. وعلى هؤلاء وغيرهم وقع لاحقاً جهد حماية أحياء بيروت وأمنها الداخلي، وتشكيل لجانها الشعبية، لتأمين مستلزمات المعيشة والصمود خلال مرحلة الحرب الأهلية (1975 - 1976).
بيروت الفلسطينية احتضنتها الأحياء الفقيرة في المسلخ والنبعة والكرنتينا وتل الزعتر، يوم التقى فيها المحرومون في أرضهم مع المحرومين من أرضهم، وتقاسموا لقمة الخبز المغمسة بالدم وويلات الحرب والتهجير والاجتثاث من أكواخهم. بيروت ذاتها قُرعت فيها أجراس كنيسة مخيم ضبية الذي سكنه لاجئون فلسطينيون مسيحيون، معلنة أن أبناء السيد المسيح يُقتلون، ويُهجّرون، وتُحرق منازلهم على أيدي بعض مَن ادعى الانتساب إليه، فكان حرق الكنيسة، وقتل أبناء ضبية وتشريدهم، شاهدَين على زيف استخدام الدين والمذهب في النزاعات الأهلية. وفي مشهد مماثل كان حصار مخيم شاتيلا حيث هبّت نبيلة بربير لإغاثة أطفاله ببعض الحليب، فقُتلت على أبوابه، وأرهب قاتلوها أهلها وأصدقاءها لدى محاولتهم تشييعها إلى مثواها الأخير. هؤلاء القتلة هم ذاتهم الذين يمارسون اليوم إرهابهم على شباب بيروت بدراجاتهم النارية، وطلقاتهم في العيون، محاولين حجب مشهد بيروت التواقة إلى الحرية والانعتاق من الفساد وحكم الطوائف.
هي بيروت التي عانت مخيماتها سابقاً جرّاء سطوة المكتب الثاني، قبل أن تتنفس نسيم الثورة، وقبل أن تتعرض لحصار ذوي القربى الظالم ومعاركهم. وعند انفجار المرفأ هبّ شباب مخيماتها وفرق الدفاع المدني المحلية منذ اللحظات الأولى، لإسعاف الجرحى، والبحث عن المفقودين، وإغاثة المنكوبين، وتقاسم رغيف الخبز معهم، فهم من بيروت، وإلى وجهها الجميل ينتمون.
بيروت الفلسطينية هي التي نثرت نساؤها الجميلات الورد والأرزّ على المناضلين الذين قاتلوا دفاعاً عنها في وجه الاجتياح الصهيوني لها، وهي التي وقف شيبها وشبانها على أرصفة الطرقات يلوحون لهم بأيديهم، ويهتفون لهم بحناجرهم، ويحتفظون بهم في قلوبهم، وهم في طريقهم إلى مرفئها الشاهد على دمارها المتجدد. يومها أضحت بيروت هي بيروت الكاشفة عن الحقائق، فبعد أن غادرتها الفصائل الفلسطينية المسلحة تهاوت مقولة أن هذه الأخيرة كانت سبب اشتعال حربها الأهلية، والمسبب لمعاناة لبنان وأهله، إذ بعد خروج المقاومة، بدت تلك الحرب الأهلية التي نشبت بين سنتَي 1975 و1976 كنزهة قصيرة، قياساً بما تلاها، فقد اشتعلت الحروب بين الطوائف والمناطق، وداخل كل طائفة، وكل حزب وفصيل، وفي كل حارة وزاروب. كانت حروباً للإلغاء وتصفية اللاعبين، لإحكام القبضة على المشهد كله، وخلالها شهدت بيروت أعنف معاركها وأقساها، وتكرس في البلاد نظام طائفي لا مثيل له، يهيمن على مقدرات الدولة ويستبيحها، في تواطؤ معلن بين أمراء الحرب القدامى، والنظام الطائفي، والاحتكار، والفساد، ليكشف انفجار المرفأ الأخير عن خفايا وجه هذا التواطؤ البشع، وممارساته الممتدة عبر جميع الحكومات المتعاقبة، والطوائف المتورطة فيه دوماً. إلّا إن هذه الكارثة كشفت في الوقت ذاته عن طاقات جديدة تصرّ على أن يعود إلى بيروت وجهها الحقيقي؛ وجه الحرية، والديمقراطية، والشفافية، الساعي للتخلص من الفساد والنظام الطائفي؛ وجهاً عربياً منتمياً إلى أمته وأمالها وقضاياها، وحينها فقط يعود أيضاً إلى بيروت وجهها الفلسطيني الذي ستحمله أمواج بحرها الجميل إلى شواطىء يافا.