بيروت
النص الكامل: 

في كانون الثاني / يناير 1953، صدر العدد الأول من مجلة "الآداب" اللبنانية وعلى غلافها صورة للشاعر المصري علي محمود طه، إلى جانب أسماء هيئة التحرير: المدير المسؤول هو بهيج عثمان، ورئيس التحرير هو سهيل إدريس. وضمت هيئة التحرير شخصيات أدبية وفكرية من سورية والعراق وفلسطين ومصر، منهم: شكيب الجابري؛ عبد العزيز الدوري؛ قسطنطين زريق؛ أحمد زكي؛ نبيه أمين فارس؛ نزار قباني. وصادف أن المجلة صدرت وكان الحكم العسكري لا يزال قائماً في دمشق، وبعد أقل من ستة أشهر على الانقلاب العسكري في القاهرة.

منذ ذلك الحين بدأت بيروت تضطلع بدور العاصمة الثقافية العربية، فلجأ إليها الأدباء والشعراء والمفكرون العرب من الأقطار المتعددة، يبحثون عن فسحة حرية تتيح لمواهبهم بالظهور. وقد ازدهرت دور النشر التي كانت تطبع أعمال هؤلاء الذين لم يجدوا فرصة في بلادهم لطبع أعمالهم، كما ازدهرت صحافتها التي صارت صحافة عربية ولبنانية في آن معاً. أصبحت بيروت مركزاً لنشر التراث الثقافي العالمي، ومنها ينتقل الكتاب إلى العواصم العربية.

كان العرب ينظرون إلى بيروت باعتبارها تقوم بالعبء عنهم، فمَن تعترضه الرقابة في بلده كان يجد متسعاً في بيروت؛ هكذا اضطر روائي بقامة نجيب محفوظ إلى أن ينشر "أولاد حارتنا" في بيروت، وهكذا، لم يجد عبد الله القصيمي القادم من نجد في الجزيرة العربية مكاناً لينشر "العرب ظاهرة صوتية" سوى بيروت. صوت بيروت كان مدوياً، يخترق الحدود.

كانت الثقافة صنو الحرية، فلا ثقافة ولا فكر من دون حرية، ولا حرية من دون تعدد وانفتاح. في ستينيات القرن الماضي، وقبل هزيمة حزيران / يونيو وبعدها، أصبحت بيروت متسعاً للأصوات المتعددة لليسار واليمين والشرق والغرب، ذلك بأن الميثاق الذي بُني عليه لبنان هو ميثاق التعدد والاعتراف بالآخر، ففي بيروت فقط كان يمكن للمتدينين وغير المتدينين أن يعبّروا عن آرائهم. ولم تستطع الحرب التي اندلعت في سنة 1975 أن تلغي دور بيروت، فاستمرت عاصمة للثقافة العربية والنشر العربي والصحافة، ومركزاً لمؤسسات البحث، ولم يكن أي طرف أو جهة أو عاصمة تريد أن تأخذ من بيروت دورها، إذ اعترف الجميع بمكانتها وقبلوا بها.

لكن بيروت لم تنشأ في الخمسينيات أو الأربعينيات، فالمدن لا تنشأ على حين غرّة، وإنما كانت مسيرتها طويلة، من مدينة صغيرة لا يتعدى عدد سكانها خمسة الآف نسمة في مطلع القرن التاسع عشر، إلى مدينة المئة ألف نسمة في آخره. وخلال الحملة المصرية (1831 - 1840) أصبحت مرفأ معتبَراً بعد أن بُنيت الكرنتينا إلى جانبه، وكان إبراهيم باشا المصري أول مَن شكّل فيها مجلساً يضم أبناء المدينة من جميع الطوائف، وحين شُقّت طريق الشام أصبحت صلة الداخل العربي بالعالم. وبُنيت في بيروت الجامعة الأميركية في سنة 1864، ثم الجامعة اليسوعية، فكانت الأولى مرفقاً علمياً يخرّج الأطباء والمؤرخين العرب، ليصبح طلابها دعاة القومية مع أساتذتهم السوريين والفلسطينيين واللبنانيين، وكانت الثانية المرفق الذي تخرّج من كلية الحقوق فيها النخبة السياسية اللبنانية: رؤساء ووزراء ونواباً. وبسبب أهمية بيروت والمكانة التي اكتسبتها، جعلتها الإدارة العثمانية عاصمة لولاية تمتد من اللاذقية إلى عكا، وذلك في سنة 1888، بعد أن كان أُقرّ قانون متصرفية جبل لبنان في سنة 1861، فأصبحت بيروت عاصمة للولاية والمتصرفية على حدّ سواء قبل أن تصبح عاصمة دولة لبنان الكبير في سنة 1920.

كان ازدهار بيروت وتوسّعها يكبران في الوقت نفسه الذي كانت الإسكندرية تتسع وتستقبل السفن من مرافىء أوروبا، فأصبحت المدينتان مرفأين يربطان الشرق بالتجارة العالمية منذ بدايات القرن التاسع عشر. وعلى غرار القاهرة، عرفت بيروت نهضة أدبية وعلمية، لكن الفارق بين المدينتين العاصمتين، أن المتعلمين في مصر كانوا أبناء مدارس الدولة ومعاهدها، الذين كانوا يجدون السبيل إلى الوظيفة العامة بعد التخرج. أمّا المتعلمون في لبنان فكانوا أبناء المدارس الأهلية والإرسالية، الذين لا يجدون بعد إتمام دراستهم وظائف في إدارة ولاية بيروت، أو في مجلس إدارة متصرفية جبل لبنان. وكان التضييق على الحريات في الربع الأخير من القرن التاسع عشر سبباً إضافياً دفع هؤلاء المتعلمين إلى الهجرة إلى مصر، حاملين معهم أفكارهم الحديثة وتطلعاتهم الطموحة. ففي القاهرة والإسكندرية، باشروا تقليداً غير شائع يتمثل في المثقف الحر غير الحكومي، الذي ينشىء مؤسسته الخاصة وغير الرسمية، فساهموا في نهضة المسرح والطباعة، لكن أثرهم الكبير كان في إصدار الصحف، مثلما فعل سليم وبشارة تقلا بنشر جريدة "الأهرام" في سنة 1875، والتي ما زالت تذكر صبيحة كل يوم اسمَي ناشريها، كما أنشأ جرجي زيدان مجلة "الهلال" في سنة 1892، والتي ما زالت كل شهر أيضاً تذكر في صفحتها الأولى اسم المؤسس. وهاجر إلى مصر من لبنان الشعراء والأدباء، فضلاً عن رجال المال والتجار والعمال الذين هاجر بعضهم مبكراً بعد أحداث سنة 1860.

وبيروت التي أصبحت عاصمة لدولة لبنان، كرّست دورها الثقافي كمدينة للثقافة العربية، ليس من خلال وزارة للثقافة أو وزارة للإرشاد القومي، وإنما من خلال أفراد كان لديهم اليقين بأن بيروت هي مساحة للحرية والرأي والرأي الآخر.

وعلى الرغم من جميع التحديات والعواصف، فإن بيروت صمدت، بل كانت تخرج من كل محنة أقوى، ودورها يزداد رسوخاً. فبعد ثورة 1958، عرفت بيروت، في حقبة لا تتجاوز الأعوام العشرة، أكثر فترات تاريخها ازدهاراً وتألقاً، كما لاقت تفهماً لموقف لبنان الحيادي من طرف الدول العربية. في تلك الفترة من الستينيات استطاعت بيروت أن تكون عاصمة التعدد والتنوع، فإلى جانب "الآداب" صدرت مجلات "حوار"، و"شعر"، و"مواقف"، و"دراسات عربية"، وكل واحدة من هذه المجلات مثلت تياراً فكرياً وأدبياً مختلفاً عن الآخر. وفي الستينيات أيضاً أصبحت بيروت عاصمة الصحافة العربية، مع: "النهار"، و"الحياة"، و"الأنوار"، و"المحرر"، و"لسان الحال"، و"الجريدة". وكانت بيروت قد نشرت أول الأعمال الأدبية الفلسطينية مع سميرة عزام وغسان كنفاني ثم محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد، كما طُبعت في بيروت، ولأول مرة، رواية السوداني الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال". وفي سبعينيات القرن العشرين أخذت على عاتقها إقامة الصلة بين المغرب العربي ومشرقه عبر نشر أعمال عبد الله العروي وهشام جعيط ثم محمد عابد الجابري.

وكان لبيروت اللبنانية صوتان: النادي الثقافي العربي في رأس بيروت ومحيط الجامعة الأميركية مع جوزيف مغيزل ومنح الصلح ومحسن إبراهيم، والندوة اللبنانية في الأشرفية ومحيط الجامعة اليسوعية مع ميشال أسمر وسعيد عقل وغسان تويني. واستطاع لبنان أن يتجاوز إلى فترة معينة تداعيات حرب حزيران / يونيو 1967، ليزداد زخمه الثقافي ولتصبح بيروت عاصمة اليسار العربي. وعلى الرغم من أعوام الحرب المديدة، بما في ذلك العدوان الإسرائيلي في سنة 1982، فإنها كانت الأسرع في طرد الاحتلال، وكانت الحضن الذي أنجب المقاومة اللبنانية. وعلى الرغم من الانقسام والخراب الذي حلّ بها، فإنها استطاعت أن تتجاوز الحرب وأن تعود مدينة متألقة.

استمدت بيروت صلابتها من الصفات التي عُرفت بها، وأبرزها مساحة الحرية التي مثلتها، ومن تعددها وانفتاحها على العالم ودورها الثقافي.

إذا أردتم أن تعرفوا الذين كانوا وراء تفجير بيروت وإلغائها، فإنهم بالضبط أعداء الحرية والانفتاح والتعدد والثقافة وأعداء الحياة.

لكن بيروت ستعود مثلما عودتنا أن تعود في كل مرة.

السيرة الشخصية: 

خالد زيادة: أستاذ جامعي لبناني، وباحث في التاريخ الاجتماعي والثقافي.