I
حضرَتْ بيروت في حياتي، منذ أيام المدرسة الابتدائية. كانت مدرستي الأولى التي التحقت بها في سنة 1957 بعد مدة قضيتها في الكتّاب، ومع "القراءة المصورة" وطئتُ أرض لبنان. كان الكتاب صادراً عن دار الكشاف في بيروت. كل درس من دروس المطالعة كان، بالنسبة إليّ، مناسبة لأكتشف لبنان: بيروت، والجبل، والبستان، والقرية، وبعلبك. وعندما كنت أغادر المدرسة وأمشي في أزقة مدينتي، فاس العتيقة، كنت أحس بالفرق بين زمن بيروت الحديث وزمن فاس القديم. أتخيل ضوء بيروت وبيوتها وأطفالها وحكاياتها وأناشيدها، ومن يوم إلى يوم، أصبحت بيروت أليفة لديّ مثلما كانت فاس لا تغفل عني.
تلك العلاقة الأولى ببيروت لازمتني في أعوامي اللاحقة. جاءت مرحلة الكتب، ثم تلتها مرحلة المجلات. اكتشفت، وأنا في بداية المراهقة، كتباً منشورة في بيروت، منها "النبي" لجبران، و"العُرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب المتنبي"، شرح وتحقيق ناصيف اليازجي، و"هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه، ترجمة فليكس فارس. هذه العناوين، إلى جانب "أغاني الحياة" لأبي القاسم الشابي، الصادر في تونس، كانت أول ما اشتريت من النقود التي كنت أدخرها. كانت الكتب مفروشة على الأرض لدى مكتبيّ يعرضها قبالة باب جامع القرويين. اشتريت أغلبها وأنا أجهل بعض مؤلفيها، مثل نيتشه. هذه هي بيروت التي علمتني شغف القراءة، ووهبتني مسكناً ثقافياً أصبح مع الأعوام باذخاً، هو مسكني الثقافي.
II
أرغمتني جائحة كورونا، في صيف هذه السنة (2020)، على عدم مغادرة المحمدية. خلفي المحيط الأطلسي وأمامي قلق إزاء واقع الجائحة التي تعود إلى اكتساح المغرب مثلما عادت إلى اكتساح العالم. وعندما فتحت التلفزيون في 4 آب / أغسطس، قرابة الساعة السادسة مساء، كانت الصورة التي شاهدتها هي انفجار بيروت الأول، وبعد ثوانٍ لحقه الانفجار - القيامة. لست أدري كيف شاهدت في رعب الصورة، ما كانت ذاكرتي تختزنه عن انفجار هيروشيما. سحابة كثيفة. لا شيء قبلها ولا بعدها. تماسكت وتركت عينَي مفتوحتين. لم أستطع إغماضهما. تمنيت لو أن لي عينَين بحجم السماء والأرض كي أشاهد ما تخفيه عني السحابة التي غطت الكون، ولم تترك من فضاء بيروت شيئاً يظهر. في تلك اللحظة جزعت على أصدقائي البيروتيين، وجزعت على أهل بيروت وضيوفها، وفي لمح البصر تهيأ لي أن جسدي يتبدد في الذي كنت أشاهد.
قيامة بيروت قيامتي. بيروت على مرأى من عيني، وأنا في جهتها المقابلة من البحر الأبيض المتوسط، أتتبّع مشهد الفناء يتسع، يعلو ويمتد في مدى لا ينتهي. اختفى المدى، اختفت معه السماء والبحر والعمارة. وبعد قليل كان الهول بتمامه. صمتي أعتى من الصرخة، وفي أعماقي كان كل شيء يتذرى. لا، حياتي بدورها كانت تنفجر، ومسكني الثقافي نفسه يتشظى.
ما زلت حتى الآن، وبعد أيام من قيامة بيروت، أحس بصدى الانفجار في صدري يتردد، وبالدخان يلفّ كوكباً يتوهج تحت أجفاني. تاريخ بيروت الحديث، كله، من دون حجاب، لا يغيب. تاريخ ثقافة الحرية والإبداع، من بيروت انطلق وعمّ البلاد العربية، بل بلغ أقصى مناطق الأرض حيث يوجد عرب وتوجد ثقافة عربية. تاريخ يسع الحلم العربي بقدر ما يشمل حركات التحرر العربية، في السياسة كما في الأدب والفكر والفنون.
بيروت. هذه المدينة، ذات المساحة الترابية الصغيرة، هي نفسها التي روت نفوس المتعطشين إلى الحرية لدى الشعوب العربية كلها، وهي التي ضخّت دماء جديدة في مرافق من الثقافة العربية الحديثة. نعم، كانت القاهرة منبعاً ليقظة تحررية كبرى، ثقافية وسياسية، وإليها لجأ الشاميون، سوريون وفلسطينيون ولبنانيون. يقظة هي التأسيس الأول. ثم تأتي بيروت التي فتحت لاحقاً أبوابها لحرية التعبير التي دلت حركة التحديث على طرق ومسارات أصبحت مع مرور الأعوام معارج الحرية. هكذا كان للجيل السابق عليّ من المغاربة صلة بالقاهرة، أمّا أنا فمن الجيل الذي آوتْه بيروت.
III
سأتوقف لُحيظة، فأنفاسي تلاحق أنفاسي. بيروت هي مسكني الثقافي؛ مسكن أخص به نفسي. بيروت احتضنتني وأنا شاب، وشدّت على يدي وأنا كهل، وها هي تسندني وأنا أهبط منحدر الشيخوخة. في فاس كنت أرى بيروت بعين قلبي، وفي المحمدية عشت مع بيروت في بيتي. لا أخفي تعلقي بها، ولي فيها أصدقاء ما زال بيني وبين معظمهم الوفاء لزمن وحلم وقيم.
عندما كانت الأرض تضيق عليّ في فاس أو في الرباط، كنت أبادر وأتوجه إلى بيروت. لم أكن أحمل حقيبة ولا أمتطي طائرة. كنت فقط أبعث برسالة مرتبكة تتضمن بحثي عن مكان لنشر قصيدة، أو نص، أو ترجمة، وفي كل مرة كنت أجد مَن يستقبلني ويبادر إلى تلبية رغبتي. هذا كثير جداً في حياتي التي لم تكن لتكون ما هي عليه اليوم لو لم أقصد بيروت، ولو لم تستقبلني، كما استقبلتْ سواي.
هذا الأمر منحني قوة التشبّث بحرية التعبير والتفكير. وأنا لا أنسى ما قدمته لي الصحافة اللبنانية كما لا أنسى كرم الناشرين البيروتيين. عقد واحد كان بيننا هو الجرأة على التجديد والإبداع؛ عقد يلغي ما كنت تعودت عليه من عقد القبيلة الحزبية. بهذا كنت في كل مرة أحس بأنني ابن بيروت. كان يكفي أن أنادي كي يأتي الجواب، ومعه يتضاعف الأمل بالفرح مجدداً بحرّية أن أكتب وأنشر. هذه الضيافة التي خصتني بها بيروت، كانت دائماً تُشعرني بواجب الوفاء لها. وتلك هي الوديعة التي أحرص على رعاية نبالة قيمتها.
IV
من أكبر الدروس التي تعلمتها من بيروت هي الألفة مع العربية الحديثة، والفصل بين الديني والثقافي. درسان رسّخا في نفسي عشق العربية وثقافتها، وجعلاني أدرك، وأنا شاب، معنى أن أتحرر من ثقافة المجتمع التي ربّتني على تعظيم المسلم، والتوجس من المسيحي. كانت تلك التربية طبيعية، بفعل أن المغرب لم يعرف المسيحيين، في تاريخه، إلّا من خلال المستعمِر الذي للمغرب معه صراع طويل، بدءاً من طرد الإسبانيين المسيحيين للأندلسيين، يهوداً ومسلمين، وما تلاه من حروب استعمارية، برتغالية وإسبانية وفرنسية، قاومها المغاربة خلال قرون.
عشق العربية أو عدم التمييز بين الكتّاب المسلمين والمسيحيين، حوّلا رؤيتي إلى المستقبل، في ضوء فكرة العروبة. وربما كنت حتى اليوم لا أستوعب، بالقدر المطلوب، ما أحدثته في تكويني النفسي والثقافي تلك الكتب والمجلات التي كانت تُطبع في بيروت وتصل إلى الدار البيضاء، ومنها إلى فاس، بعد فترة قصيرة على صدورها. وأقصد هنا أثر الكتب والمجلات التي أصبحت شغوفاً بقراءتها بدءاً من نهاية سنة 1964.
لو قلت إن ما حدث لي آنذاك هو ثورة، من غير علم مني، لما ضللت. فأنا أعتقد اليوم أنها كانت كذلك. بيروت هي التي أخذتني إلى دروب حرية لا حدود لها. ولم تطل المدة حتى تفاعلت في نفسي ثقافة بيروت مع ثقافتي المغربية والثقافة العالمية الحديثة، من خلال اللغة الفرنسية. هكذا أصبح عالم القراءة يدلني على عالم الحرية، إلى درجة أنه كان يحرضني على متابعة القراءة، ويوفر لي متعة النزول إلى أعماق نفسي والتعرف إلى ما يحيط بي، ويضاعف حبي للشعر والأدب والفنون والمعارف.
V
متيقّن أن لا سكينة لي، بعد انفجار بيروت. وها أنا هنا، في المحمدية، حيث شاطىء الأطلسي يغري بقطع الاتصال بالعالم، أجدني أعود لأطل على شاشة التلفزة وأتتبّع الأخبار. دمار بيروت. ما معنى هذا الانفجار الذي أتى في شكل قيامة لا تترك بعدها غير الفناء؟
أفكر في الحرب الأهلية التي أحرقت بيروت. كنت خلالها أفتح نوافذ شقتي المطلة على المحيط الأطلسي، وأنادي بملء صوتي "بيروت، بيروت"، ثم يهدأ هوسي قليلاً عندما يغيب الصوت في المدى البحري، كأنه كان يرحل. أبقى واقفاً، أفتش عن منفذ كي أرى بيروت، وأرى ما الذي يحدث لأصدقائي هناك. ما كان يطمئنني هو الرسائل التي كنت أنتظر استلامها كل صباح من ساعي البريد: أدونيس، والياس خوري، وسليم بركات، ويمنى العيد، في طليعة المراسلين.
ثم في ذروة الحرب جاء غزو إسرائيل لبيروت في سنة 1982. إنه الإصرار على اقتلاع جذور المقاومة الفلسطينية - اللبنانية التي لا تهادن الاحتلال. إلّا إن المقاومة واجهت الغزو وأعادت بيروت إلى حريتها. حينها فهمت أن إسرائيل كانت تريد مسح ثقافة الحرية من بيروت، وكانت تسعى للتخلص من المثقفين الفلسطينيين والعرب الذين كانوا يفدون على بيروت من عدة دول عربية، ليعيشوا زمن الحرية في الكتابة والتفكير والإبداع.
ومع أن بيروت أصبحت، بعد الغزو الإسرائيلي، محرومة من نخبتها العربية التي كانت مقيمة فيها، إلّا إنها ظلت مرجعاً لحرية الثقافة. فهي لم تتخلف عن موعدها مع كتب وأعمال فكرية وأدبية على السواء، وحركة النشر فيها عرفت حيوية خلال أعوام الحرب، كما أنها سمحت للناشرين بالتقاط المتغيرات في الثقافة العربية، والإنصات إلى صوت الحرية.
VI
في حي الحبوس بالدار البيضاء تتمركز أهم المكتبات التي تستورد الكتب من بيروت. عندما أدخل إليها، وهي على بعد خطوتين من المحمدية، ألتقي ببيروت. كتب من شتى الأصناف، وفي نفسك حيرة في الاختيار. لهذا أسأل نفسي: كيف أدّعي أن أعرف ما الذي سيحدث للثقافة العربية بعد قيامة بيروت؟ ومَن يجرؤ على التشطيب بسهولة على واقعة القيامة ليبشر بيوم قريب نحتفل فيه ببعث طائر الفينيق من الرماد؟
أسأل نفسي، ثم السؤال يتفرع إلى أسئلة: لماذا تبقى بيروت رمزاً للثقافة العربية الحديثة، على الرغم ممّا تعرضت له من دمار تلو الدمار؟ وكيف نجح البيروتيون في أن يتركوا شعلة رواد التحديث الثقافي عالية؟ وبأي حكمة يمكن للبنان أن يتخلص من أعدائه، بأقنعتهم الألف؟ وهل يكون لهذه القيامة فعلها في الكشف عن بيروت جديدة، حرة، ديمقراطية؟
VII
بيروت مسكني الثقافي. لا أستنفد مخزون ما بنتْه بيروت، منذ بداية العصر الحديث حتى اليوم، ولا يمكنني تجاهل أن بيروت هي التي ظهرت فيها الطبعة الثانية من "النبوغ المغربي" لعبد الله كنون، وكان صدوره رصداً للإبداعية المغربية، ومنها انتشرت الترجمة العربية لكتاب عبد الله العروي "الأيديولوجية العربية المعاصرة"، والذي كان أول كتاب فكري مغربي ذي نزعة نقدية، نبّه المشارقة إلى كلمة المغاربة في مشروع تحديث الثقافة العربية.
علامتان رائدتان عملتا على تغيير المشهد الثقافي عربياً، وحققتا للثقافة المغربية بالعربية نقطة انطلاق جديدة. وبتعلّم من ريادة بيروت، أبدع المغرب بدوره في إنشاء دُور نشر ساهمت في تقوية ثقافة الحرية والإبداع.
من أين تبدأ بيروت، وأين تنتهي؟ سؤالان واقعيان تستدعيهما قدرة بيروت المتواصلة على النهوض، في كل مرة تتعرض فيها للدمار. ومن دون تلكؤ أجيب، بعبارة واحدة: من الحرّية. بهذه العبارة أنظر إلى بيروت الآن، وفي كل آن. وفي مكتبتي في المحمدية ألتقي بثقافة بيروت، بتاريخ بيروت، بحرّية بيروت.