هل يمكن أن يكتب الحطام تاريخ مستقبل فنوننا؟
كأننا نقبل كفنانين بما يختفي من منصات وصالات ومحترفات فنية من دون أن نذهب أبعد من ذلك. كيف لنا أن نقبل بما جرى في نكبة مساء 4 آب / أغسطس مقتنعين بأن كل شيء انتهى من دون أن ينتهي، ومضى من دون أن يمضي؟ كيف لنا أن نقبل بالجحيم القادم من انفجار مرفأ بيروت، بعد أن كبرت الفاجعة وتكدس الدمار الرهيب بهدوء اليائسين في شوارع وقصور ومتاحف وصالات وغاليريات ومحترفات كنا نرتادها كي نتقاسم فيها تجليات فنون مدينتنا المتعددة الثقافات؟ مدينتنا التي كانت ولا تزال تحلم دائماً بفنون التخوم المشمسة، مثلما وصفها الشاعر صلاح ستيتية؛ مدينتنا التي حضنت ذاكرة فنية موغلة في الزمن، لا نهاية لها؛ ذاكرة التاريخ الفني المفتوح على تجليات الماضي والحديث والراهن.
لقد عشنا في دمار بيروت مرحلة رعب فريدة؛ مرحلة ما بعد عصف انفجار الموت في عنبر رقم 12، ومشهد الغبار الناري الأحمر الملون بالدم والرماد والحطام الذي انبثق فوق مرفأ بيروت، مثل وردة من جحيم ناري ذري، وعصف إعصار رهيب لهزة أرضية عنيفة دمرت أكثر من نصف بيروت: أهراءات القمح، والعنابر على طول رصيف المرفأ، والعمارات الزجاجية الشاهقة، والشقق والبيوت والقصور التراثية، والمكاتب والمحلات والصالات والمقاهي، والشوارع والأحياء السكنية، والمصانع والسيارات، أضحت جميعها محطمة ومدمرة وعارية الملامح، لا تستند إلى شيء، ومن دون سقوف ونوافذ وشرفات وأبواب وشبابيك زجاجية وخشبية ومعدنية، تدحرج حطامها كشلالات خراب وأشلاء عمائر وأمطار زجاجية كثيفة غطت الشوارع وبقايا الأمكنة كافة.
ما حدث في بيروت أشبه بيوم القيامة. غاب كل شيء في دائرة عصف الموت، فلم نعد نرى سوى الحطام الجنائزي وقاع الهشيم البلوري المتناثر الممزوج بالدماء وهو يتأجج في غفلة من الزمن، فوق أجساد الضحايا، وفي شوارع آهلة وبيوت آمنة أضحت كومة أشلاء لموت جماعي.
I
لا أدري لماذا تذكرت وأنا أشاهد صور الدمار الرهيب لوحة جدارية لضياء العزّاوي عُرضت في متحف نابو في سياق معرض يأس وأمل. ربما هي غرابة الفن أن يسلط الضوء الكاشف على مجهول وجودنا. جدارية بالأسود والأبيض، كنقيضَي ضفاف البوح باليأس والأمل، في فصل جديد من جحيم ينتظرنا. كأن الموت في رحلة العمر في منأى عن الحواس، وكأن العذاب ليس ما يفجع، بل سبب العذاب. بين ضفة وضفة دمار وخراب، يطل الخارج والداخل على ما هو نهاية وبداية، على ما تراه العين قبل أن ترى، وما سيقال إنه انتهى.
تذكرت أيضاً لوحات ناديا صيقلي "نوافذ عمّا غاب عني" التي عرضتها في متحف جورج بومبيدو في باريس في سنة 1978، تحيةً إلى مدينة بيروت المنكوبة بدمار حرب السنتين، كي تخلع الحزن عن دم الأشياء الحميمة التي غابت، وكشفاً عن وشوشة الحطام وتمزقات زمن الموت.
يصعب علينا التذكر، كما لو أننا أمام علاقة تبادلية مع مظاهر النسيان الأخير، والتي تتجاوز الوجود إلى الموجودات في بنية الكشف عن الخراب الكبير الذي أصاب المنصات الفنية في قلب بيروت.
لم نكن ندري أن مدينة الأحلام والمشاريع الثقافية والفنية كانت بأكملها قريبة ومهددة بالموت، وأن تاريخها الفني مهدد دائماً بجحيم الغياب، منذ تدمير الطيران الإسرائيلي في صيف سنة 1982 قصرَ الأونيسكو في بيروت، وتحطيم وتلف مجموعات كبيرة من لوحات ومنحوتات كانت تشكل ذاكرة فنون بيروت (من مقتنيات الدولة اللبنانية)، وكانت تُحفظ في طبقة القصر العليا كنواة لمشروع إنشاء المتحف اللبناني للفنون الحديثة، وصولاً إلى النكبة الكبرى لدمار المنصات الفنية في صيف سنة 2020.
كما لو أن عصف انشطار الانفجار الرهيب دعانا من جديد إلى أن نتفرس في معاني مآسي حداثتنا المعطوبة، كي نواجه من جديد منطق كتابة التاريخ كقصة، أو كمشهد يغوص عميقاً في صلب دمار المحترفات والصالات والمنصات الفنية والقصور، وجميعها أصبحت، أو كادت تصبح، مقابر لمقتنياتها الفنية، في ليل أسود امتد أطول من السماء.
من حكايات الموت الجنائزي، تتبلور صور الخراب الذي أصاب ذاكرة فنوننا. فالخوف كل الخوف أن تقودنا مشاعرنا نحو صدمات الزمن الخرافي بفواجع الواقع الأليم ومرارة الدمار والعتمة التي أصابت في الصميم منصات البنى التحتية للحياة الفنية. أكثر من 20 صالة عرض وغاليري أصيبت بعصف الخراب والدمار: غاليري تانيت؛ غاليري صفير زملر؛ غاليري المرفأ؛ غاليري لوسي توتنجيان؛ غاليري شريف تابت؛ غاليري فادي مغبغب؛ غاليري أرام؛ غاليري آر سنتر؛ غاليري آر 56؛ غاليري فانتين آر؛ غاليري 392؛ غاليري لو بلوم؛ غاليري أليس مغبغب؛ غاليري إكزود؛ غاليري ألوان؛ غاليري أجيال؛ غاليري صالح بركات؛ غاليري كاريه دارتيست؛ غاليري إيماغوس؛ غاليري مارك هاشم.
دمار غاليري تانيت في شارع مار مخايل.
كما أصيبت قصور ومتاحف بأضرار فادحة: قصر الليدي إيفون سرسق كوكرن؛ متحف نقولا إبراهيم سرسق؛ قصر ليندا سرسق؛ قصر هنري فرعون الذي تحول منذ أعوام إلى متحف روبير معوض؛ فيللا عودة؛ متحف بول غيرغوسيان.
دمار في قصر الليدي إيفون سرسق كوكرن.
وشملت الفاجعة أيضاً اغتيال المنصات الفنية للمصانع الخاصة بالفن (مشغل بواسيري دي ريف)، ومحترفات وبيوت الفنانين وأصحاب المجموعات الفنية وصالات قاعات العرض الكبرى (الفوريم دي بيروت، والبيال).
بقايا لوحات مدمرة في المنصات.
الخوف كل الخوف أن تختفي تلك المنصات؛ أن ترحل، أو أن تتراجع، أو أن تُطوى في النسيان. فانتظار عمليات ترميم الحطام والتريث في استعادة النشاط هو بمثابة الخضوع لعمليات المحو الذاتي. كما لو أن بيروت تتسلق هاوية التصدع والدمار وهي تعانق دم الأشياء الزائلة في زمن النكبات الفنية التي تفيض بها الأمكنة المهدمة، دم الأشياء التي تنحني نحو موتها البطيء: لوحات ممزقة؛ تماثيل متكسرة؛ واجهات عقود؛ أبواب؛ زخارف سقوف؛ نوافذ لروائع اللوحات الزجاجية الملونة التي كانت تفيض بستائر النور في قصور وكنائس وبيوت تراثية آمنة.
II
السؤال كيف ستخرج بيروت من تداعيات هذه النكبة المعمارية والفنية؟
المعروف أن الراحل الكبير غسان تويني حين كان يتولى رئاسة لجنة متحف نقولا سرسق وقّع وثيقة تعاون مع جان - جاك أليغون، رئيس مركز جورج بومبيدو. لذا أبدت إدارة متحف بومبيدو استعدادها للمساعدة في إرسال خبراء لترميم الأعمال الفنية التي أصيبت (قُدّر عددها بـ 25 قطعة فنية)، وبينها لوحات لكبار الفنانين اللبنانيين (من أمثال جورج القرم)، ولوحة بورتريه لسيد القصر نقولا سرسق، رسمها الفنان الهولندي كييس فان دونغان (1877 - 1968)، وكانت معلقة في مكتبه بالقرب من القاعة الشرقية للمتحف التي أصيبت بأضرار فادحة.
أكدت منظمة اليونسكو في باريس أنها ستقود عملية التحرك الدولي لإعادة ترميم التراث المعماري في بيروت، قديمه وحديثه، وأنها ستستعين بمنظمات وخبراء في الترميم من لبنان والخارج لهذه الغاية. والمؤسف أن الليدي إيفون سرسق كوكرن التي دافعت طوال عمرها من أجل الحفاظ على التراث المعماري في بيروت، شاهدت وهي في خريف العمر، أهوال هذا الجحيم الذي أصاب القصر والبيوت التي حافظت على رونقها الجمالي برموش العين. فالألم لا حدّ له، والمرارة تسكن القلب، وكيف للفن أن يحرك الناس إذا كان الفن لا يتحرك بمصائر الناس؟ إنها الفاجعة.
من الجهات كلها تتقاطر ذاكرة الانهيارات الكبيرة. لم يعد في بيروت إطار للحياة، وإنما أصبح الدمار جزءاً من صورة الموت التذكارية. فالمطالبة بالترميم تعني أن نتورط في زمن ميت مرتبط بضمير الغياب الرسمي للسلطات اللبنانية لنجدة المنصات الفنية والأبنية المتصدعة، فضلاً عن لوحات متكسرة وتماثيل باتت أشلاء من دون ملامح. لذا، فإن الدعوة إلى إنشاء محترفات محلية، لترميم اللوحات والمنحوتات المصابة، والتي أطلقها الفنان غابي معماري وزميلته نايلة يارد، تبدو كصرخة، لا هي غائبة ولا هي حاضرة، تقتات على ما يشبه الحياة في الموت. فالنكبة كبيرة والمأساة الفنية هي حياتنا، لا خيار لنا في ذلك. لذا فإن الدعوة إلى ترميم ما تراكم من خراب في فنون بيروت، هي سؤال عن الحيرة التي تُخرجنا من يأس أقوى منا، ومن رسوم ولوحات ومنحوتات باتت أثراً بعد عين. ومن أجل ذلك دعت دار كريستيز في الشرق الأوسط إلى تنظيم مزاد دولي عالمي لمساعدة الغاليريات والفنانين اللبنانيين في عمليات ترميم محترفاتهم المتضررة جرّاء انفجار 4 آب / أغسطس، وأعلنت أن هذا المزاد سيشمل أيضاً دعم مشاريع الترميم في متحف سرسق.
لن أكتب نصاً مأتمياً عن فنون بيروت، بل سأكتب نصاً عن ذاكرة فنية مهددة في مواجهتها زمن الغموض والاختفاء. وبانتظار ما سيأتي، فإن الفن دائماً وأبداً سيبقى دافعاً إلى البدء بمشروع الانبعاث والكشف عن حب كبير لوطن يعيش مخاضه.
III
قبل لحظات من انفجار مرفأ بيروت، كان المهندس الفرنسي جان مارك بونفيس يصور من نافذة شقته في مبنى إيست فيليدج، في منطقة مار مخايل. حدث الحريق الذي ارتفع فجأة أمام عينيه في المرفأ، ولم يكن يدري أنه، وبمحض المصادفة، يحدق بعينين مفتوحتين وبهدوء مميت إلى منظر الانفجار الرهيب في لحظات تأججه واكتماله. لذا كان شاهداً وشهيداً عندما أخذنا نحو قشعريرة الموت وهو يقبض بالخواء الأخير المعلن للصورة. لم يكن يدري أنه يوثق موت المدينة التي أحبها، والتي ساهم في تصميم بعض أبنيتها الحديثة المميزة، ومن ضمنها مشاركته فريق عمل المهندس إيلي جبرايل في ترميم مبنى المكتبة الوطنية في الصنائع. كان يرغب في أن تلامس تصاميم عماراته نبوءات الحداثة الجديدة، من خلال مصالحة الإنسان مع تاريخه. فهو من عائلة بونفيس التي سجلت في صور وثائقية خطوات مشاريع التحديث لمرفأ بيروت (في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين). لم يكن يدري أن لون القمح الذي يتموج على رصيف المرفأ سيكتب بداية أحلامه ونهايتها، وأن واجهات بيروت التراثية والحديثة ستصاب بلعنة الدمار والعراء، وأن القصور والبيوت وواجهات العمارات الزجاجية ستتهاوى، وأن أمطار شظايا الزجاج المتناثر ستغطي ذاكرة الطرقات، مثل خيوط الخيبات في معابر نهايات الحياة الهشة.
المهندس جان مارك بونفيس.
مَن يتجول في بيروت، يكتشف هول الدمار الزجاجي والمعدني في أبراج ما بعد العاصفة. واجهات لا ذاكرة لها، وغرف في العراء، واضطراب على مدى حزن البشر في البشر. لذا تبدو العمارات المنكوبة أشبه بمنحوتات بسام كيريلوس: أبدية في خوائها، وتخيم عليها أغشية الصمت المغلقة في أفواه الموتى.
يصعب علينا تتبّع آثار الدمار في عمارة بيروت التراثية. والسؤال هو مَن سيرمم الأبواب والنوافذ والحشوات ولوحات السقوف الخشبية، ومَن سيعيد إلى المكان رونق زخارفه وحشواته وسحر إطلالة "فيتراي" الزجاج المعشق باللون والنور؟ هل لدينا الكفاءات لمواجهة هذا الوضع الخطر، في مئات البيوت والقصور الشرقية، ومراعاة اعتباراتها التصميمية؟ إن بيوت بيروت مشرعة على حزن عميق لموت جماعي، موت يحول الناس والذكريات إلى حكايات كابوس عابر، فالمدينة تواجه أقدار الموت بالميلاد، والراهن بالممكن، والواقع بالحلم، والخراب بمعجزة الظل الذي يختلج قبل أن يتحول إلى ليل مضيء.
واجهات مبانٍ تراثية محطمة.
IV
أنا حزين إلى حد الصمت، وأنا أشاهد الحضور الرهيب للموت في وطن استحال إلى بيت للرعب. كان عليّ أن أتوقف قليلاً قبل أن أغادر شقوق الجدران والواجهات المنهارة لبيوت وشوارع تمضي وتدور بلا عدد على وقع انفجار كالجحيم أفسد حياة مدينة بأكملها. لقد تفجرت المصيبة ودخلت البيوت كلها.
إن عظمة بيروت تكمن في معاناة فجيعة حقيقية أصابت الجميع.
ماذا يبقى لنا غير هذه الحماسة كي نرمم ما تهدم؟
بيروت باتت مدينة مستحيلة سرقت إرادة الحياة من بين فكَّي الموت.
الفاجعة في الموت والألم
خسرت الحياة الفنية في بيروت ثلاث ضحايا من العاملين في صوغ إشارات الفردوس الكامن في ماهية الفن ووظيفته في جعل بيروت عاصمة للفن العربي والعالمي المعاصر. فقدت غاليري تانيت مهندسها المعماري جان مارك بونفيس (1963 _ 2020) الذي حظي بشهرة عالمية من خلال تصميمه اللافت لمبنى East Village Building الواقع في شارع مار مخايل، والذي يتماهى بإشارات التجديد في عمليات التوافق، بين ممكنات الحفاظ على روح الشرق والكيان الأسطوري للتانيت في الفنون المعاصرة.
شملت الخسارة أيضاً رحيل الشابة غايا فودوليان التي كانت تدير مع والدتها آني غاليري ليتيسيا في شارع الحمرا، والتي طرحت أسئلة التجديد والتجدد في علاقتنا بالفنون المعاصرة باعتبارها جزءاً من الحياة اليومية ومن المعمار، إذ لا يكفي أن يكون الغرب مولداً لها كي نرفضها.
الخسارة الكبرى كانت في أُسرتَي غاليري صالح بركات وغاليري أجيال، بفقدان فراس الدحويش، الصديق الرائع للفنانين اللبنانيين والعرب، والذي كشف عن موهبته في تجديد الفضاءات الفنية وبلورة التحولات الجمالية في مهمته في تعليق العمل الفني وإبراز مداراته الإبداعية الخصبة.
خابت ظنون كثيرين من الفنانين الذين عاشوا صدمات الحياة الهشة في انفجار 4 أب / أغسطس، فهم كانوا موجودين في أبنية مهتزة ومدمرة. وكثيرون هم الذين نجوا بأعجوبة من الموت حين كانوا في محترفاتهم في لحظة وقوع الانفجار، كإيمانويل غيراغوسيان الذي أصيب بجروح جرّاء تهدم محترفه في الجميزة، بينما أصيبت أجساد العديد منهم بشظايا الزجاج المتناثر، ومنهم الفنان سمير أبي راشد الذي أصيب في إحدى عينيه بعد أن تقوضت أركان منزله القديم ومحترفه في الأشرفية وتهاوت الجدران على ظهر زوجته؛ والفنانة والناقدة التشكيلية نيكول حرفوش (العميدة السابقة للأكاديمية اللبنانية - الألبا)، التي أصيبت وباتت تعاني آلاماً مبرحة في رقبتها وجسدها جرّاء تضرر منزلها الكائن في محيط وزارة الخارجية في الأشرفية.
الصرخة الكبرى، الحمد لله أنني ما زلت حياً، أطلقها الفنان محمد قدورة الذي أصيب أيضاً بشظايا زجاج واجهات بيته المشرف على بحر بيروت في منطقة عين المريسة.