مدينة في مرفأ
النص الكامل: 

لم يحتفل اللبنانيون بمئوية تأسيس دولة "لبنان الكبير" في الأول من أيلول / سبتمبر ٢٠٢٠، فقد غطى على المناسبة الانفجار المروع في مرفأ بيروت، يوم ٤ آب / أغسطس، والذي دمّر جزءاً من المدينة وأدى إلى مقتل ١٩٠ ضحية وآلاف الجرحى وتشريد نحو ربع ملون من السكان.

لا يوجد كثير عن العلاقة بين مرفأ بيروت ومدينة بيروت، ويوجد أقل عن دوره في إنتاج لبنان الكبير في سنة ١٩٢٠. هذه بعض عناصر القصة.

تبدأ رواية بيروت / المرفأ، الحديثة، مع حملة إبراهيم باشا المصرية، والذي شجّع التجارة مع أوروبا وجهّز المرفأ في سنة ١٨٣١ بمعزل للمسافرين يشرف عليه القناصل الأوروبيون - في الحي الفقير الذي لا يزال يحمل اسمه "كارنتينا" – وهو الحي الأكثر تضرراً جرّاء الانفجار الأخير. وفي الواقع، فإن بيروت حظيت بمزيد من الاهتمام مع احتلال القوات الأوروبية للمدينة بعد طرد الجيش المصري منها، فقد بدأت تستقبل الاستثمارات، وتوسعت تجارتها، وقفز تطورها قفزاً بحيث شرعت تنافس المرافىء التقليدية على الساحل، فانقلبت الآية بينها بين وصيدا. فعدد سكانها ١٨٢٠، كان خمسة آلاف نسمة، وأسواقها تعتمد على ما يردها عبر صيدا، لكن في غضون ثلاثة عقود، قفز العدد إلى ٤٠ الفاً، وصارت صيدا هي التي تعتمد على مستوردات بيروت.

ارتبط ارتقاء مرفأ بيروت والمدينة، بولادة محور جديد للتجارة بين المنطقة وأوروبا هو محور بيروت - دمشق الذي أخذ يحلّ بالتدريج محل محور حلب - إسكندرون التاريخي. ونما دور مرفأ بيروت في الوقت الذي كانت دمشق تستحوذ على نصيب متزايد من تجارة الحبوب والقطن ومن مستوردات آسيا، على حساب دور حلب التقليدي. وفي سنة ١٨٥٨، بَنَت شركة فرنسية طريق عربات اختصر الرحلة بين المدينتين، وستبني الشركة ذاتها خط سكة الحديد المعروف بـ "سكة حديد حماه - دمشق وتمديداتها" الذي بُدىء العمل به في سنة ١٨٩٤. وبسبب مرفئها، تحولت بيروت إلى عاصمة لولاية عثمانية سُمّيت على اسمها، وتمتد على طول الساحل المتوسطي، من إسكندرون شمالاً إلى عكا وحيفا جنوباً، وباتت بيروت أحد أبرز مراكز التحديث المُدني العثماني.

تؤدي الثقافة دوراً مهماً في تخيل مكانة بيروت، وقد كان المعلم بطرس البستاني من المبادرين إلى المحاضرة في أهمية التجارة، وفي الكتابة عن مدينة بيروت عبر التاريخ. أمّا ابنه سليم، فأرسى فكرة أبيه عن الوطن السوري على قاعدة الاقتصاد السياسي، فتصوّر سورية وصوّرها "منطقة وسيطة" تحتل موقع القلب من السلطنة العثمانية، محورها بيروت ومرفأها، تؤدي دور صلة الوصل بين شرق وغرب، وتصدّر المحاصيل الزراعية المحلية وتستورد السلع المصنوعة. وقدّم سليم البستاني، في مقالة بعنوان "مركزنا" (١٨٧٢)، وصفاً لعملية تبادل كولونيالي نموذجية لخصها بأن "مغناطيس المحصولات في هذا العصر هو ثروة الغرب وصناعته المتقنة"، كما امتدح بحماسة الدور التجاري الوسيط المستجد، على حساب العمل اليدوي والإنتاج الزراعي بقوله: "أصبحنا ونِعْمَ الصباح كالبَطن من الإنسان يعيش بتَعَبِ اليديَن والرجليَن وهو محمولٌ مكرّم" (البستاني، ص 183 -  186).

سبقت بيروت مرفأَي طرابلس وصيدا، لكن مع تزايد دور المرفأ والمدينة في خدمة اقتصاد الحرير، برزت محاولات لاعتماد ميناء جونية الواقع داخل حدود متصرفية جبل لبنان (١٨٦١-١٩١٥)، والذي يتميز بانعدام الحواجز الجمركية بينه وبين ولاية بيروت. غير أن المصالح الفرنسية، والمالية والتجارية المحلية، أحبطت تلك المحاولات.

عشية الحرب العالمية الأولى وخلالها، كانت بيروت ومرفأها في قلب النزاعات على المرافىء وسكك الحديد والموارد. فخلال مفاوضات سايكس - بيكو، طالب البريطانيون بمرفأ إسكندرون المقابل لقبرص التي احتلتها بريطانيا، ليخدم شمال بلاد النهرين المكرس للحكم البريطاني المباشر. وتمسكت فرنسا ببقاء مرفأَي إسكندرون وبيروت داخل "المنطقة الزرقاء" المفترضة للحكم الفرنسي المباشر، والتي كانت تشمل ولاية بيروت وأجزاء من كيليكيا وجنوب تركيا، لكنها اضطرت إلى التنازل لبريطانيا في المقابل عن مرفأَي عكا وحيفا.

ظل مرفأ بيروت ومدينة بيروت يثيران الإشكالات بشأن موقعهما من مستقبل المنطقة، ونشأ بين كبار موظفي الانتداب تياران متفارقان بالنسبة إلى مصير لبنان وعلاقته بسائر سورية: كلاهما يسعى إلى أفضل وسيلة للسيطرة على سورية في ضوء انطلاق الانتفاضات الوطنية والمسلحة ضد الانتداب، لكنهما يختلفان على مقادير تمثيل المصالح الأقلوية والمصالح الاقتصادية للكولونيالية الفرنسية. فقد كان روبير دوكيه، الأمين العام للمفوضية السامية في بيروت، يدعو إلى تقسيم سورية إلى مجموعة دويلات و"مدن حرّة" موزعة على أساس ديني وطائفي، وتتمتع بمقادير من الإدارة الذاتية ويتولى المفوض السامي السيطرة عليها من خلال القيام بدور الحَكَم في نزاعاتها. وكان جبل لبنان ذو الأكثرية المسيحية أحد تلك الكيانات، ومدينة بيروت أبرز المدن المرشحة لإعلانها "مرفأ حرّاً".

أمّا الجنرال غورو، القائد العام للقوات الفرنسية في الشرق، والمفوض السامي الاستثنائي لسورية ولبنان، فكان يرى إمكان السيطرة على سورية بتقسيمها إلى ثلاثة أو أربعة كيانات، منها كيان "لبنان الكبير". ووافقه رئيس الحكومة الجديد ألكسندر ميلران على فصل لبنان الكبير عن سائر سورية، لكنه كان يريد بيروت مرفاً حراً. وفي المقابل، أصرّ غورو على بيروت عاصمة للبنان الكبير، وعلى ضم طرابلس إليه لمنعها من منافسة مرفأ بيروت كمرفأ للشمال السوري، أو كمرفأ يخدم سورية كلها. أبرق ميلران إلى الجنرال في ٢٣ آب / أغسطس ١٩٢٠ ملاحظاً أن ضم طرابلس وبيروت "لا يشكل فائدة للمدينتين ولا للبنان ذاته"، داعياً إلى فترة اختبار تحافظ خلالها طرابلس و"ضاحيتها المسلمة" على مقدار كبير من الاستقلال الذاتي الإداري والمالي، الأمر الذي "يوفر الوقت لمراقبة كيفية تصرف الأطراف المعنية بعضها تجاه بعض." واستدعاه إلى باريس على اعتبار أن مثل تلك الأمور لا تُحلّ بواسطة البرقيات (Khoury, pp. 396-398).

استبق غورو العودة إلى باريس وأعلن في ٣١ آب/أغسطس ١٩٢٠ قيام لبنان الكبير، وحدوده النهر الكبير شمالاً و"بوابات فلسطين" جنوباً وقمم جبال لبنان الشرقية شرقاً، وعاصمته بيروت. وأعلن في المناسبة ذاتها قيام دولتَي دمشق وحلب، وسيضم إليهما دولة العلويين في آذار / مارس ١٩٢١ لإنشاء "الاتحاد السوري" وعاصمته حلب. وفي خطابه الاحتفالي، في اليوم التالي، تبسّط المفوض السامي الفرنسي في الحديث عن "الاستقلال الذاتي البلدي والمالي الموسع" لمدينتَي بيروت وطرابلس وارتباطهما بأعلى مرجعية في الدولة، إلّا إنه أصرّ على ضم طرابلس إلى لبنان الكبير "بما فيها ضاحيتها المسلمة."

لم يُرضِ غورو كثيرين من التيارات المتصارعة على هوية لبنان ومصيره، ولم يُقنع المثقفين من دعاة "لبنان الكبير" أمثال يوسف السودا وبولس نجيم وخير الله خير الله، الطموحين إلى بناء كيان وطني قابل للحياة، لكن يحكمه أهله بأنفسهم. ولم يسعَ غورو لإقناع أكثرية أعضاء مجلس إدارة متصرفية جبل لبنان (المنتخبين من الأهالي) - وقد أعلنوا استقلال جبل لبنان وتوسعة حدوده، من طرف واحد، وعبّروا عن "رغبتهم في العيش بسلام مع جيرانهم"، فأمر قواته باعتقالهم وهم في طريقهم إلى دمشق للتفاوض بشأن العلاقات بين البلدين مع الحكومة العربية، ونفاهم إلى كورسيكا. ولا شك في أن "لبنان الكبير"، بالصيغة التي أعلنها غورو، أخاف دعاة "الملجأ المسيحي" في جبل لبنان، أو "لبنان الصغير" الموصول بفرنسا، وخيّب آمالهم. أمّا دعاة سورية الكبرى، في ظل الانتداب الفرنسي، فاستغربوا الأمر: إمّا أن يكون اتحاد سوري فيتقلص فيه حجم لبنان إلى جبل لبنان، وإمّا ان يكون لبنان الكبير، فيتخلى عن فكرة الملجأ المسيحي كي يتعاون مع سائر أجزاء سورية. أمّا والمولود ليس هذا أو ذاك، فقد جعل المفكر جورج سمنة يتساءل: "أي وطن قومي مسيحي هو هذا حيث نصف سكانه من المسلمين؟" (صليبا، ص 119). وفي المقابل، عارضت أكثرية المسلمين الكيان الجديد وقاطعت مؤسساته. وفي نهاية سنة ١٩٢١، تجمّع أنصار الانتداب في "حزب الترقي" تحت شعار "الحفاظ على استقلال لبنان الكبير في ظل الانتداب الفرنسي"، وقد ضم عدداً من وجهاء جبل لبنان ورجال الأعمال والمال والسياسيين في بيروت، وأبرزهم بشارة الخوري واميل إدّه، الرجلان اللذان سيهيمنان على الحياة السياسية لنحو ربع قرن.

لدى عودة غورو إلى فرنسا، أقامت غرفتا تجارة ليون ومارسيليا حفلاً على شرفه، تحية لانتصاراته وإنجازاته في سورية ولبنان. وخلال هذا الحفل، رفع الجنرال كأسه ليعلن: "أيها السادة، إن الصفقة ستكون مربحة" (Messieurs, l’affaire paierai!).

سرعان ما انقسم قادة "حزب الترقي"، وقدم إميل إده في سنة ١٩٢٨ مذكرة إلى الخارجية الفرنسية تطالب بإنشاء "لبنان متوسط" بإعلان جبل عامل منطقة حكم ذاتي على غرار دولة العلويين في سورية، وإعادة عدد من المناطق المسلمة من البقاع الشمالي إلى سورية. واقترح إدّه أن تعلَن طرابلس "مدينة حرّة" تحت الإدارة الفرنسية، يُمنح سكانها المسيحيون الجنسية اللبنانية، والمسلمون الجنسية السورية، وهكذا يتأمن في هذا اللبنان المتوسط أكثرية مسيحية تصل إلى ٨٠٪ من السكان، تسمح بـ "حمايته"، بحسب تعبيره، لكن لم يؤخذ برأي إدّه.

كان النزاع على الموارد المائية بين دولتَي الانتداب (بريطانيا وفرنسا) قد أدى، بعد مفاوضات دامت عامَين، إلى اقتسام مياه نهر الأردن الذي بات يجري كله في أراضي الانتداب البريطاني، بينما احتفظت فرنسا بروافده في هضبة الجولان والجنوب اللبناني، الأمر الذي أدى إلى تقاسم الجليل الأعلى بينهما، وضم جبل عامل إلى لبنان.

أمّا التوازن بين المسيحيين والمسلمين، فحُلّ بتجاوز جدل الأكثرية والأقلية كلياً، عن طريق اعتماد تعريف لبنان على اعتباره "بلد الأقليات الدينية المتعايشة"، وتأسيس نظام سياسي يوزع أنصبة الحكم بين الطوائف بناء على نسبة كل منها من السكان، الأمر الذي عنى منح الأسبقية السياسية للطائفة الأكبر عدداً، أي الطائفة المارونية.

لم تُعلَن بيروت مدينة حرة أو مرفأ حراً، لكن المصالح الاقتصادية الفرنسية قضت بأن تتحول بيروت إلى العاصمة الاقتصادية للبلدين، المنفصلين سياسياً وإدارياً، والموحدين اقتصادياً من حيث العملة والجمارك وشركات الخدمات العامة والمرفأ الواحد. وحظي المرفأ بقدر كبير من الاهتمام لتطويره من أجل منافسة مرفأ حيفا الذي وظّف فيه الانتداب البريطاني الأموال والجهود لتوسعته وتعميقه وتطوير تجهيزاته ليكون المرفأ الأول للداخل العربي، فكان لهم ذلك على حساب المرفأ اللبناني منذ منتصف الثلاثينيات.

تواصلت محاولات إرضاء طرابلس واستيعابها، فجرى التعويض عنها بإنشاء مصفاة لتكرير وتصدير النفط العراقي. وخلال العهد الاستقلالي، ظهر حزب باسم "حزب التحرر العربي" أسسه هنري فرعون وعبد الحميد كرامي. أمّا إذا تساءل المرء ما الذي يجمع مفتي طرابلس وعضو الكتلة الوطنية السورية وداعية سلخ طرابلس عن لبنان الكبير مع المصرفي المليونير والكياني اللبناني المتعصب، فإننا نعرف شطراً من الجواب: هنري فرعون، هو رئيس مجلس إدارة شركة مرفأ بيروت! وهي شراكة حزبية ستثمر فيما بعد. بعد أشهر قليلة من الاستقلال سيضغط مستشارا الرئيس بشارة الخوري، أي ميشال شيحا وهنري فرعون، من أجل إقصاء رياض الصلح عن رئاسة الحكومة وتعيين عبد الحميد كرامي. وما إن حدث هذا، حتى تنازل كرامي لفرعون عن السياسة الخارجية في وقت دقيق هو تأسيس جامعة الدول العربية في القاهرة وعلى جدول أعمالها تحقيق الاتحاد العربي. ويمكن هنا التكهن بدور قائد "التحرر العربي" في تلك الاجتماعات: فقد رفض مشروع الاتحاد، وأصر على لا إلزامية قرارات الجامعة العربية على الدول الأعضاء إلّا إذا كانت بالإجماع.

وكان ذلك كله قبل أن يُغلَق مرفأ حيفا بسبب قيام دولة إسرائيل ليحل مرفأ بيروت محله، ويبدأ عهد جديد صارت فيه بيروت هي المرفأ شبه الوحيد للداخل العربي.

 

المراجع

البستاني، سليم. "سلسلة الأعمال المجهولة". تحرير ميشال جحا. بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، ١٩٩٠، ص ١٨٣ - ١٨٦.

صليبا، لويس. "لبنان الكبير أمام خطأ تاريخي". بيروت: دار ومكتبة بيبليون، 2015.

طرابلسي فواز. "تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف". بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، ط 1، ٢٠٠٨.

_____ "سايكس- بيكو- بلفور: ما وراء الخرائط". بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، ٢٠١٩.

Khoury, Gérard. La France et le Grand Liban: Naissance du Liban Moderne, 1914-1920. Paris: Armand Colin, 1993, pp. 395-399.