I
كثيرة هي المدن التي ارتبط مصيرها بالمرافىء، أو التي صنعت مجدها الموانىء. وبيروت مرفأ من قديم الزمان، لولا البحر الأبيض المتوسط، لما كانت ثروتها وكل الأشياء الفانية في خريف الحضارات.
من بين العمارات التي اخترعها الإنسان، فإن الجسر الموصل والرابط هو الأكثر حضارة وتعرضاً للزوال؛ والمرفأ لبيروت هو جسر للعبور بين حضارات وقارات، لكن مجده يبقى معلقاً على رياح المصادفة والزمان.
بيروت باب البحر والحظ السعيد، وفضل البحر على بيروت، أنه منحها موقعاً ممتازاً على ساحل بلاد الشام، وميناءً تجد المراكب فيه الأمان في الفصول كافة.
منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى ثلاثينيات القرن العشرين، كثيرون هم الرحّالة والقناصل والمغامرون الذي شطّطوا في بيروت، بعدما صارت المرفأ الأول في المشرق.
كان مرفأ بيروت في أول الأمر، حوضاً متواضعاً يحرسه بُرجان، وفي سنة 1860 أنشأ العثمانيون "السنسول" لمواجهة تزايد حركة النقل. وسرعان ما تبيّن أن المنشآت لم تعد كافية لاستيعاب حركة البواخر المتنامية حجماً وحمولة، عبر سبعة خطوط بحرية منتظمة، ولذا بدا ضرورياً إنشاء مرفأ حديث يستجيب للحاجات المتزايدة باستمرار، وهذا ما تم في سنة 1888 بموجب فرمان سلطاني.
في سنة 1890 ظهر المرفأ الجديد ليبدل صورة "منطقة البور". دُفن المرفأ القديم، وشُيدت أبنية لاستقبال أجهزة إدارية تناسب النشاط الجديد للمرفأ، فضلاً عن الأرصفة المتخصصة. وتحوّل خان أنطون بك إلى مركز للأعمال يضم القنصليات الأجنبية والخدمات البريدية والمصرف العثماني.
مرفأ بيروت في سنة 1893.
وجاءت موجة "التحديث" التي اجتاحت بيروت في ظل الانتداب الفرنسي (1919)، لتفرض تطويراً سريعاً لوظيفة المرفأ. وعلى هذا النحو، اقتُطعت أجزاء واسعة من شاطىء بيروت، وتقلصت الصفات الاجتماعية والجمالية لهذا المدى الجغرافي، إذ اختُرقت الأحياء التي كانت فضاءاتها ومنازلها تلامس مياه البحر، مثل منطقة المدوّر شرقاً، وعين المريسة غرباً.
مرفأ بيروت في سنة 1919.
II
مدينة موقوفة بيروت. أوقفها التاريخ لتكون شاهداً. دُمرت مراراً وأُعيد ترميمها في أيام الكنعانيين، وهُدمت وأُحرقت في أيام الرومان، ثم أُعيد البناء في المكان نفسه. خُرّبت وتشرد أهلها في زمن البيزنطيين والصليبيين، وقُصفت مراراً من البحر في خضم الصراع العثماني – الأوروبي، وهجرها الناس ثم عادوا إليها. شهدت بيروت عاصفة تفكك الدولة العثمانية، وويلات الحربين الأولى والثانية، وغزو الجيوش الأوروبية. أثخنتها حروب الأهل والأشقاء وإسرائيل في الربع الأخير من القرن العشرين، وكادت تودي بها كمجال وسيط للتبادل التجاري والثقافي والإعلام الحر.
في المربّع الجغرافي الجامع بين أسوار المدينة الكنعانية على تلّة تُشرف على المرفأ، وتقاطع الجادتين الرئيسيتين للمدينة الرومانية قرب "ساحة النجمة"، تُقرع الطبول لكتائب روما المنسحبة من "بيروت السعيدة"، وهي تجتاز وسط المدينة القديمة في محيط ساحة النجمة، ثم تصبح مدرسة الحقوق الرومانية أثراً بعد عين.
وهناك زاوية من معالم الصليبيين الذين استقروا في المدينة قرناً كاملاً في مطلع الألفية الثانية. فالمكان الذي شغله المجلس العسكري الروماني، أقام الصليبيون على أنقاضه كنيسة باسم يوحنا المعمدان ما لبثت أن اعتُمدت جامعاً لعشرة أعوام، عندما استعاد صلاح الدين الأيوبي بيروت في سنة 1187، لكنها أعيدت كنيسة لدى سقوط المدينة ثانية في أيدي الصليبيين، ثم صارت الجامع العُمري الكبير.
صورة للجامع العُمري الكبير تعود إلى الفترة 1890 - 1905.
سيكون للمشهد وقْع الصدمة على "العثمانيين الجدد". فمعظم الفراغ في النسيج المديني الذي فسح المجال لأعمال شركة "سوليدير" عقب الحرب الطويلة 1975 – 1990، هو للحقبة العثمانية. والمفارقة هنا تبدو صارخة مع ما تبقّى من حداثة الانتداب الفرنسي، وخصوصاً في محيط شارعَي فوش وأللنبي وجادّة المعرض.
لكن لا بأس أن يولم الوالي للأعيان والقناصل في مبنى البلدية الذي بقي عثماني الطراز. العثمانيون تعرفهم بيروت! شاركتهم السراء والضراء في الصعود والهبوط! يكفي أنهم تركوا في أجمل موقع على مشارف المدينة القديمة، مكاناً لثُغرة السلطان في السراي الكبير والمستشفى العسكري الذي صار مقراً لمجلس الإنماء والإعمار، وكلّفوا يوسف أفتيموس بناء بُرج الساعة في سنة 1897. ولم تكن مفاجأة في القرن التاسع عشر، أن تستعيد "جوهرة بحر الروم" مكانتها بنقل مركز الولاية من صيدا إلى بيروت.
ولم تلبث المدينة العثمانية أن تبدلت أحوالها، مع قدوم إبراهيم باشا والجيوش المصرية في منتصف القرن التاسع عشر. ساحة البُرج سُميت هكذا، لأن الحاكم المصري قام بترميم البرج الذي بناه الأمير فخر الدين، وزاد ارتفاعه. وسجّل هدم السور على خط التماس مع محلة الجمّيزة، بداية توسع المدينة شرقاً. وفي أواخر القرن التاسع عشر، أعادت بلدية بيروت تنظيم ساحة البرج، وأنشأت فيها حديقة عامة باتت تُعرف باسم الحميدية نسبة إلى السلطان عبد الحميد.
تبدل اسمها مجدداً في سنة 1908، وصارت "ساحة الحرية" أو "ساحة الاتحاد" في إثر الإطاحة بالسلطان عبد الحميد وإعلان الدستور، لكن في سنة 1926، أُعيد تنظيمها مرة أُخرى على الطريقة الفرنسية، وحملت اسم "ساحة الشهداء". ووضعت سلطات الانتداب الفرنسي في وسطها، نصباً يمثل سيدتين باكيتين فوق قبر يرمز إلى الذين أُعدموا بأمر من جمال باشا خلال الحرب العالمية الأولى، غير أن هذا النصب أُبدل في سنة 1960، بالنصب الحالي الذي صنعه نحّات إيطالي.
صورة مركّبة لتمثالَي ساحة البرج، القديم والحالي.
شكلت ساحة البرج، وكانت الأكبر في بيروت، نقطة التقاء لجميع القادمين من أنحاء المدينة وضواحيها، ومن المناطق اللبنانية كلها، وذلك لكونها ملتقى الطرق التي تربط المدينة بالضواحي والأرياف، ومنطلق الطريقَين الدوليين بيروت – دمشق، وبيروت – طرابلس.
ساحة البرج في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات.
وكان يتركز حول الساحة أغلبية المطاعم والفنادق والمقاهي الشعبية ودور السينما، ومنها تفرعت الأسواق مثل سوق النورية وسوق الخضار وسوق أبو النصر وسوق سرسق. ولعل ذلك جعلها تعجّ بالحركة ليلاً نهاراً، وجذب إليها معظم طبقات المجتمع، فصارت رمزاً يحضر في مخيلة السواد الأعظم من اللبنانيين وذاكرتهم.
على مسافة قريبة من ساحة البرج، شُيدت في سنة 1888 كاتدرائية مار جرجس للموارنة، وسط جادة الأمير بشير وقُبالة مجمع اللعازارية، وذلك في محاذاة "درج الأربعين" المؤدي إلى الأسواق.
من باب الدركاه في آخر جادة الأمير بشير، دخل إبراهيم باشا بيروت في سنة 1831 دخول الفاتحين. وكان هذا الباب يُعتبر الأجمل بين الأبواب السبعة لبيروت، ويُترك مفتوحاً حتى ساعة متقدمة من الليل للمسافرين الأجانب. وقد هُدم الباب وجامع الدركاه في سنة 1915 لدى شقّ جادة المعرض. وما لبثت نافورة "الحميدية" وسط "ساحة السور" القريبة من السراي الكبير، أن نُقلت من الساحة ليحل مكانها نصب لرياض الصلح في سنة 1950. وتقبع النافورة الآن في حديقة الصنائع، من دون أي إشارة تدل على تاريخها.
III
قبل أن تكون "حرب السنتَين" والحروب اللاحقة المتصلة بها أو المتفرعة منها، تعرضت الشبكة المتداخلة للأحياء والأسواق في بيروت القديمة، لسياسة "تحديث" شرع في تنفيذها الوالي عزمي بك في سنة 1915، بتشجيع من البرجوازية التجارية الكبيرة. وبالتدريج، قضت هذه العملية على معظم الأسواق القديمة، وغابت الأرصفة المبلطة الضيقة لتحل مكانها شوارع مستقيمة واسعة. وستحمل هذه الشوارع لاحقاً أسماء كولونيالية مثل شارع أللنبي، وشارع فوش، وشارع ويغان.
كانت الأسواق القديمة تتّبع تخطيطاً يجمع أصحاب كل حرفة في سوق خاصة، وغالباً ما كانت السوق تحمل اسم هذه الحرفة. وفي داخل السوق الواحدة تنتشر المخازن والدكاكين في الطبقة الأرضية، تعلوها طبقة ثانية مخصصة للسكن. ومن الأسواق التي هُدمت أو تعرضت للتحولات العمرانية: سوق القطن؛ سوق الحدادين؛ سوق النجارين؛ سوق القزاز (الزجاج). أمّا الأسواق التي حافظت على طابعها المعماري حتى سبعينيات القرن العشرين، فنذكر منها: سوق الطويلة وكانت تسكن فيها نخبة العائلات البيروتية في وقت من الأوقات؛ سوق الورد المعروفة بسوق الفرنج؛ سوق أياس التي كانت حياً سكنياً لآل أياس؛ سوق سرسق؛ سوق الصاغة التي كانت تُقفَل ليلاً ببوابات الحديد؛ إلخ.
الحجارة تتدحرج وتجرح الذاكرة التي فتحت صندوقها لتُفصح عن الأحداث والوقائع والأسماء.
الجراحة التحديثية في زمن الامتداد الفرنسي، خرقت معظم النسيج المديني التقليدي، وأظهرت نظاماً عقارياً جديداً طُرحت بموجبه المساحات والعقارات في سوق المضاربات. وقد أغرى ارتفاع الأسعار الناس ببيع أملاكهم، الأمر الذي أدى إلى تفريغ المدينة القديمة من الأحياء السكنية، وإلى نشوء فضاءات يفرضها التحديث وأنماط الحياة والعيش المتصلة بالزمن الأوروبي، والدور الجديد المُعدّ لبيروت في المنطقة. وفي هذا السياق ظهر شارع المصارف والمؤسسات المتنوعة التي حولت بيروت إلى مدينة للخدمات على مستوى الإقليم.
انتقلت المدينة من عصر إلى عصر. تجاوزت حدودها القديمة ، وخرجت خلسة من المربع الأصلي للأسواق. الأبواب السبعة لم يعد لها وظيفة تخدم مناعة "الوسط التجاري"، فبتنا نرى أحياء وشوارع تظهر وتختفي، والبحر / المرفأ ما عاد يحكم اتجاهات المدينة ومزاجها. لقد فقد الحي البيروتي بأسواقه وحمّاماته وخاناته، كثيراً من سماته المميزة، وانكمش النسيج الحيوي الذي كان يمنحه المعنى والصفات.
السياسة العمرانية ومشاريع تنظيم بيروت، ومنها مخطط التهيئة العامة (1952)، والمخطط المعروف باسم "إيكوشار" (1964)، أسفرت كلها عن تقطيع أوصال المدينة: الشوارع العريضة المستقيمة اخترقت أحياء كثيرة فقسّمتها وجزّأتها، وفصلت أحياء بكاملها عن بيئتها الطبيعية. وجاءت المضاربات العقارية والتجارية لتُفقِد الأحياء أماكنها العامة، فقد اختفى الحمّام العمومي، وهُدمت سبل المياه، وقُطعت أشجار الجمّيز، واندثرت الساحات.
ومع ذلك بقيت في محلة الجمّيزة أيقونات تخبر عن جماليات المدينة القديمة: نافذة للسماء، وفسحة للحديقة، وشرفة للقناطر والألوان والطيور، وحكايا للعاشقين على درجات سُلّم السراسقة. كذلك في محلة مار نقولا في قلب الأشرفية، حيث تأبى بيروت أن تعلن حداثتها البشعة، فإن واجهات البيوت المتوسطية ما زالت تحافظ على شيء من قيمتها المعمارية والجمالية، ويسود نوع من التشابك والانسجام بين العمارتَين القديمة والحديثة. وعلى الرغم من جروح الحرب، فإن الحياة اليومية في محلة المدوّر ومار مخايل ظلت تخفي حنيناً إلى بيروت الأربعينيات والخمسينيات.
شارع الجميزة قبل انفجار 4 آب / أغسطس 2020.
IV
لم تعد بيروت هي "المدينة". دُمر مركزها دفعة واحدة في اللحظات الأولى لحرب متجددة منذ سنة 1975، وأصبحت فجأة مدينة منزوعة النواة. اختل توازنها، وصارت إطاراً فضفاضاً لمدن تتجاور ولا تنتظم حول محور.
المركز اختفى فجأة من المدى الحسّي للمدينة، بعد أن كان دوره أساسياً في ترتيب المجال على نطاق العاصمة والبلد، لكنه ظل يضطلع بهذا الدور، على الرغم من نشوء مراكز أُخرى على الأطراف مثل شارع الحمراء، لِما كان يحمل من معانٍ ورموز وصور للمخيلة.
المركز يكثّف كل ما يدور في دائرته. فهو القطب، أو المحور الذي من دونه تتفكك الأشياء وتتلاشى في العدم والفوضى، وهو المرآة التي تعكس صورتها. هو قلبها النابض، وعقلها المفكر والمقرر، ويجب النظر إليه باعتباره عملاً تاريخياً مستمراً، قبل أن يكون مجالاً عمرانياً. وفي هذا المجال تظهر شخصية المدينة بجلاء، فهو كيانها المشبع بذاكرتها ومعانيها ودلالاتها.
الحرب جعلت المركز فراغاً يكبر شيئاً فشيئاً في وعي السكان، فراغاً يُحدث انفصاماً في وحدة النسيج المديني، كما أنها أدت إلى زوال المرجعية المركزية، أي البعد التوحيدي للمركز، كعامل يربط المحيط اجتماعاً وعمراناً وثقافة.
إن تدمير المركز وبروز الخط الفاصل في بيروت، كان لهما الأثر الكبير في تغيير التنظيم الجيوسياسي للمدينة، فصارت كانتونات تحكمها ميليشيات ريفية.
ساحة البرج في زمن الحرب: دمار ومسلحون.
اخترقت التجزئة بدورها ذاكرة المكان، وبدلت صورة المدينة في مخيلة السكان، فظهرت المدينة جسداً مقطّعاً بلا رأس. وقد نشأ عن هذا الوضع، تجارب عيش بديلة، وصور جماعية خاصة ومختلفة، باختلاف إدراك كل جماعة لمدى المدينة ونقاط الاستدلال والتوجه. وفي خضمّ هذه الفوضى العارمة، حوصرت بيروت الفلسطينية، لكنها امتنعت على الغزو الإسرائيلي بفضل عرق فيها ظل ينبض.
ها إن مشهداً آخر يطل علينا من عالم الجنوب. لنا موعد مع الطاقة الحيوية في خندق الغميق والمصيطبة. هنا تحولات لقرية حدودية رحلت في يوم أسود إلى بيروت، وكان لها محطات ومحطات قبل العبور الأخير. "عُلّقت منازلنا على حبال الهواء، لأنه ممنوع أن نراقب قمرنا والنجوم على قاب قوسين أو أدنى من فلسطين المحتلة. دارت بنا الأرض مرتين: مرة بسبب الحرب في الداخل، وأُخرى بسبب الصراع على الإقليم، وفي نهاية المطاف، وصلنا إلى المدينة متعبين. ومع أنها فسحت لنا في المجال، إلّا إننا ما عرفنا الاستقرار الحقيقي."
أمّا في المقلب الشرقي للمشهد، فانقلبت الأحوال من استقرار نسبي قبل كارثة المرفأ إلى قلق الوجود بسبب خسارة "جنى العمر" وعدم الاطمئنان إلى تعويض يأتي من نخبة حاكمة فاسدة. لكن الإنسان هنا لا خيار له سوى الرحيل في المكان نفسه لأنه لم يألف الفراغ سابقاً، وها هو الآن يملأ الدنيا حزناً وغضباً كالبركان الثائر، وإن كانت تعزّيه حماسة المتطوعين القادمين من جميع الأحياء والمناطق لرفع الأنقاض والإغاثة. "بيوتنا باتت مطروحة في الشارع، وآداب الضيافة تقضي بأن نعتذر منكم لاستحالة دعوتكم إلى مشاركتنا تناول القهوة، لكن للأسف لم يعد لدينا من السقوف ما يأوينا، وسقطت الشرفات ومعها متعة الصبحية. وإذا أُجبرنا على المغادرة فإنما نرحل إلى الجبال في الشمال. وفي انتظار العودة يقال لنا إن بيروت دخلت زمن (اللعبة الكبرى). الصينيون يريدونها محطة أساسية في مشروعهم الجديد لطريق الحرير بين الشرق وأوروبا. الأتراك يعودون إليها بحنين دفين، بينما ينشط الفرنسيون والأميركيون للحدّ من خسائرهم."
V
في أي منزلة من النكبات والمحن يندرج انفجار المرفأ وتدمير محيطه المديني لناحية الجمّيزة والجعيتاوي ومار مخايل؟
أخال نفسي مراقباً قادماً من كوكب المريخ، فماذا يتراءى لي بعد محرقة المرفأ التي استحقت التشبيه بكارثة هيروشيما وتشيرنوبيل؟
المدينة التي تتجرأ على الموت لتخرج مجدداً من بين الأنقاض، ترفض أن تنطفىء روحها تحت سماء سوليدير جديدة. ها هي تفرد جناحيها وتحلّق فوق أطلال المرفأ وساحة البرج فترى كيف أن التخريب الجديد يتقاطع مع التخريب السابق، ويتطلب علاجاً جذرياً مشتركاً لئلا يتم الإجهاز على ما تبقّى من روح بيروت وثقافتها.
إن عبقرية المدينة في الناس وهي لباس لهم، فإن بدّلوا تبدلت صورتها. لذلك ترى الذاكرة تؤدي دوراً مهماً في الدفاع عن ثقافة المدينة. الرموز والصور التي انطبعت في الذاكرة الجماعية، تعود لتتجلى مرة أُخرى في علاقة الأهالي بمدينتهم، وفي ممارساتهم اليومية. وهذا ما نسمعه يتردد على ألسنة المنكوبين والمهجرين من سكان أحياء شرقي بيروت.
على أهمية عمليات إعادة الترميم والإعمار وضرورتها، فإن الدفاع عن المدينة في ضوء الاختراق الذي قامت به مرجعية سوليدير النيوليبرالية المتوحشة، ربما يستدعي إعادة تشكيل الفضاءات الداخلية والشوارع والجادات الكبرى، وهذه محاولة رمزية لإعادة تشكيل بُنى الذاكرة الجماعية، عبر استعادة النسيج الحيوي للمدينة. ونظراً إلى المواجهة المتوقعة مع المقاولين ومشاريعهم المغرية، فإن من المهم أن يبقى النسيج المديني مفتوحاً لأبناء المدينة، ومغلقاً على غزوة المقاول الطارىء.
المراقب القادم من كوكب آخر قد يتصور أيضاً خطاً دفاعياً رمزياً عبر شبكة معقدة من المربعات المتداخلة على مستويات عدة، بحيث تبدو المدينة المستعادة، كأن لا مفتاح لها من الخارج، إذ يستحيل على الغازي فكّ رموزها لفَهْم تركيبتها والسيطرة عليها. وهذه يمكن أن تُختصر بجدلية الخفي والظاهر، والداخل والخارج، والمفتوح والمغلق.