سجن عسقلان بداية آذار/مارس منتصف الثمانينيات
فُتح الباب الرئيسي لباحة السجن، ألقيت منه صُرَّةَ أسير جديد، تحوي كالعادة، فرشة وأغطية وبعض الملابس الداخلية، وتبِع الصُرّة شاب لا يتجاوز التاسعة عشرة عاماً، قصير القامة نحيف، قبض جاهداً بكفِّه اليسرى على البنطال الذي كاد يسقط عن وسطه وبالكف الأُخرى صافح الأسرى الذين اصطفوا حول الباحة لاستقباله. كانت ملابسه أكبر من مقاسه بأربعة أو خمسة مقاسات، أيقنتُ أنه الرفيق الذي وقع في الأسر بعد الاشتباك القصير الذي جرى على أراضي الجنوب اللبناني في عملية عسكرية جاءت لإحياء ذكرى الانطلاقة في 12/11، فملابس السجن الذي ارتداها كانت باللون الأزرق الغامق وهي ملابس خاصة بقسمي التحقيق في عتليت والصرفند، حيث يتم التحقيق مع أسرى الدوريات. صاح شاويش الساحة أبو صلاح "استقبلوا الرفيق"، وهو أسير مسؤول عن خلية الأسرى التي تقوم بتنظيف الساحه وإعداد الشاي الجماعي الذي يتم تناوله في أثناء الحلقات الثقافية. سرت في اتجاهه وانتظرت دوري حتى انتهى من مصافحة الجميع سألته عن اسمه، أجاب بصوت منخفض كأنه يفشي سراً، "علي، علي خميس أحمد"، قلت له مبتسماً، هل هذا اسمك أم هو اسمك الحركيّ؟ أجاب من دون أن يشاركني الابتسام، "اسمي، اسمي الحقيقي". كان علي ما زال يعيش صدمة الأسر فعيونه لم تتوقف عن تفحص الوجوه وكل شيء، داخل السجن، فهو شارد الذهن بالكاد يسمعنا، وحاولت جذب انتباهه، فسألته عن الرفيق الآخر، شريكه في الدورية، الذي وقع معه في الأسر، كما جاء في حينه في نشرة الأخبار، بعد أن استُشهد رفيقان آخران، قال لي إنه بقي في عربة نقل الأسرى التي جاءت به إلى عسقلان، وإنه منقول إلى سجنٍ آخر، كان السجن الآخر هو سجن نفحة.
هاني زُعرب، ستاندباي رقم 1، زفت وحناء وأصباغ على قماش، 120x100 سم، 2007
كنّا في كل عام وفي ذكرى الانطلاقة أو بعدها بوقت قصير نفرّغ سريرين (بُرشين) في زنزانة 13 قسم ج - استعداداً لاستقبال رفاق الدوريات، ففي هذه الزنزانة كنا نقوم بتأهيلهم لحياة الأسر وإعدادهم ثقافياً وتنظيمياً، وكان من الطبيعي استقبال الرفيق علي في هذه الزنزانة ففيها سيتم كتابة "التقرير الاعتقالي". والتقرير الاعتقالي يغطي كل ما اعترف به الأسير خلال التحقيق بالإضافة إلى الأحداث التي مرّ بها من لحظة انطلاقه من القاعدة العسكرية مروراً بفترة التحقيق وصولاً إلى عسقلان، وقامت جميع الفصائل في حينه، كحركة "فتح" والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية بإعداد مثل هذه التقارير الاعتقالية التي يقدمها أسرى الدوريات الذين يتم أسرهم في العمليات، وهي عمليات في أغلبيتها جاءت في مناسبة إحياء يوم الانطلاقة.
كان تقرير علي الاعتقالي واحداً من عشرات التقارير التي أعددت بعضها بنفسي والبعض الآخر اطّلعت عليه في إطار التعاون الأمني وتبادل المعلومات بين الفصائل حين كان هناك ما زال تعاون. لم يفاجئني علي بأي معلومة جديدة ولا حتى في تفصيلية جديدة لم تأت عليها التقارير السابقة، كانت الأسماء والأماكن هي نفسها، والدليل أبو محمد هو الدليل نفسه الذي تكررت أوصافه في التقارير في دوريات الفصائل الأُخرى، فأبو محمد هذا، يدّعي بأنه من سكان الجنوب اللبناني، ويعرف المنطقه وتضاريسها جيداً، وهو الذي سيقود علي والدوريات الأُخرى في السنوات اللاحقة إلى الشريط الحدودي، قال علي: "كنّا أربعة رفاق، تسلمنا الدليل أبو محمد من المسؤول العسكري في نقطة الانطلاق، تفقد كمية المياه والمعلبات التي في حوزتنا، وتأكد من أن المياه كافية ليومٍ ونصف اليوم، وهو الوقت الذي نحتاج إليه للوصول إلى نقطة الاشتباك عند الشريط الحدودي، سرنا خلفه حاملين جعبنا وأسلحتنا في طرق وعرة، هبطنا ودياناً وصعدنا جبالاً وتفادينا المناطق المأهولة والقرى والفلاحين الذين عملوا في بساتينهم."
"وعند المساء وصلنا منطقة تطل من بعيد على بيوت مضاءة، جلسنا تحت شجره زيتون، تناولنا بعض الطعام وشربنا الماء، واتضح لنا لاحقاً أنها كانت وجبتنا الأخيره، فقد وقف أبو محمد وأشار إلى البيوت المضاءة وقال ..."، وهنا قاطعت علي وواصلت روايته من حيث انتهت وقلت: "بعد أن أشار لكم بأصبعه المبتورة نحو البيوت المضاءة، قال لكم: أترون تلك الإنارة البعيدة؟ هذه هي المستعمرات الإسرائيلية، ولم يبق أمامكم للوصول إلى الشريط الحدودي سوى ثلاثة أو أربعة كيلومترات، خذوا قسطاً من الراحة الآن وعند الفجر تبدأون سيركم نحو المستعمرة، لكن عليكم أن تتخلصوا من حملكم غير الضروري حتى تسهل عليكم الحركة، واتركوا المعلبات ومطرة المياه هنا، فأنتم لن تكونوا بحاجة إليها بعد، ابقوا معكم فقط سلاحكم وذخيرتكم."
ابتسم علي وسألني مازحاً: "شو يا رفيق، كاين معنا وسامع كلشي؟ بعدين مِنوينْ بتعرف إنه إصبع الدليل مقطوعة؟" أردتُ أن أجيبه بأن من كانوا قبلك يا علي وهم بالعشرات هم الذين رووا لي حكاية أبو محمد الدليل، بل كدتُ من شدة قهري أن أصرخ بأسمائهم: بلال عواد، شادي كروم، بسام حميد، موسى خميس السوداني وغيرهم ممن قادهم الدليل نفسه إلى المصير نفسه ومن الفصائل جميعها، بل كدتُ أيضاً أقول له ليس مهماً ما حققته عمليته المسلحة، بعد أن أصبح هدف العمل المسلح هو العمل المسلح الذي يقدم هدية بمناسبة يوم الانطلاقة، بل إن اعتقالك واستشهاد رفيقين آخرين، هو آثار جانبية في طريق تحديد الهدف وهو إحياء ذكرى الانطلاقة، لكنني لم أشأ أن أقول الحقيقة، فوظيفتي الآن في الأسر ليست قول الحقيقة، وإنما الحفاظ عليه كقيمة معنوية ووطنية، والحقيقة في هذه الحالة ليست مؤلمة فحسب، بل ومحبطة، ووظيفتي أيضاً وفي إطار المبدأ الناظم - المركزية الديمقراطية، أن أرسل تقرير علي الاعتقالي إلى قيادة الفرع، لا لكي أشرح له ولغيره وضعه، وفي أحسن الأحوال أن أعود وأطالب في تقريري للمرة العاشرة، بأن يتم استبدال هذا الدليل الذي سيتبيّن لعلي بأنه لم يقدهم إلاّ إلى طريق مبتور كإصبعه، فقد كنت أجبن من أن يتجرأ عقلي في حينه على التفكير أبعد من قضية الدليل، كأن أسأل عن معنى حياة المناضلين وقيمتها بعد أن تحول هدف العمل المسلح إلى العمل المسلح فقط، واليوم أسأل نفسي ألم يكن هذا السؤال الذي لم أسأله هو الذي كرسنا في الأسر خمسة وثلاثين عاماً حتى الآن؟ وكم من نقدٍ لا نطلقه اليوم يقرر مستقبل الأجيال القادمة، النقد كالثمرة، إن لم تقدمه في موعدهِ سقط وفقد قيمته التصحيحية.
قطع علي عليَّ خيط تفكيري واستغراقي في تأمل هذا المسلسل الذي أعيشه منذ سنوات، وأعادني إلى الحكاية والتقرير الاعتقالي قائلاً: "تماماً هذا فعلاً ما جرى، بعدها نهض الدليل وصافحنا مودعاً متمنياً لنا النجاح وعاد أدراجه وقبل طلوع الفجر بقليل نفذنا ما أوصانا به، تخلصنا من جعبة المعلبات والمياه التي تبقت في حوزتنا بعد العشاء وبدأنا السير في اتجاه المستعمرة الإسرائيلية بخط مستقيم فلم يكن هناك ما يعيقنا أو يدعونا إلى الالتفاف، وبعد أقل من ساعة ونصف الساعة، كانت مفاجأتنا أكبر من أن نخفيها بعد أن طلع النهار علينا ونحن لسنا أمام مستعمرة إسرائيلية، وإنما إحدى قرى الجنوب اللبناني. كان بعض سكان القرية قد خرج إلى العمل في البساتين المجاورة، وآخرون قادوا ماشيتهم للرعي في التلال القريبة، لقد تبيّن لنا بأننا ما زلنا في المداخل الشمالية للجنوب اللبناني، وفي المنطقه التي تسيطر عليها قوات لحد، قررنا على الرغم من ذلك أن نواصل المسير نحو الشريط الحدودي، لكننا ظللنا الطريق وبقينا مدة نهار بكامله نسير دون أن نهتدي إلى هدفنا، أو ربما كنا ندور حول القرية وحول أنفسنا. حلَّ الظلام، تجمعنا بالقرب من صخرةٍ قدّرنا بأنها ساتر كافٍ في حال كُشف أمرنا واضطررنا إلى الاشتباك مع قوات جيش لحد، كنا منهكين، عطشى، من دون ماءٍ أو طعام، غفونا بضع ساعات لكن ليس قبل أن اخترنا صخرةً في موقعٍ أعلى تشكل لنا نقطة حراسة.
تسلم الرفيق مصطفى وردية الحراسة الأولى وفي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، بدّلت مصطفى في الحراسة، ونزل إلى موقع تجمعنا ليأخذ قسطاً من النوم لنواصل مسيرتنا عند طلوع الفجر، لا أعرف كم من الوقت مضى، ربما نصف ساعة أو أكثر بقليل، حطّت طائرة إسرائيلية مئات الأمتار منّا، أنزلت قوات، انتشرت بسرعة وبدأت بتمشيط المنطقة، ساروا في اتجاهنا مباشرة، انكمشنا بين الصخور حتى لا تكتشفنا الطائرة التي ظلت تحوم فوقنا، وما أن اقتربوا من مرمى نيراننا حتى أطلق الرفيق أحمد صلية واحدة، ثم ساد هدوء تبعته نيران غزيرة نحو موقع الرفاق، عاد الهدوء ثم تبعته نداءات بمكبر الصوت، بأن نسلم أنفسنا رافعين الأيدي، أطلق أحمد صلية أُخرى وصمت، ناديته، فأجاب بأنه أصيب بعيارات نارية بكفّهِ وفخذه، وما أن أنهى كلامه حتى عادت النيران مرةً أُخرى وبعيارات الخمس مئة،" وهنا تململتُ في مقعدي، أحسست بالاختناق فأنا أعرف تماماً ما ستخبرنا الجملة التالية، وأيقن علي لغة جسدي، فاختصر ما جرى في الاشتباك وقال باقتضاب: "كان موقع الصخرة التي استحكمت خلفها، يشرف جيداً على موقع الرفاق الثلاثة، حاولتُ تغطية انسحابهم في إتجاهي، لكن عبثاً مزقتهم النيران الكثيفة، أحمد أُسر مصاباً، لكنه كان في كامل وعيهِ." توقف علي عن الحديث واغرورقت عيناه بالدمع فلم يقوَ على ذكر استشهاد الرفيقين مصطفى وإسماعيل. لكنني كنت ملزماً بسؤاله مباشرة عن الموضوع حتى اشمله في تقريري، ملزماً بذلك من أجل أُسرهم التي يجب أن تعرف من مصدرٍ أول مصير أبنائها، وحتى لا تبقى عرضة كباقي أُسر الشهداء لتقوّلات، وشائعات وآمالٍ كاذبة.
قدم له أحد الرفاق كوباً من الماء، أزاحه علي بيده رافضاً الإمساك به وأجهش في البكاء قائلاً: "مصطفى وإسماعيل يا رفيق ماتوا وهم عطشانين!!"، تيبّست حلوقنا وخيّم الصمت للحظات، ثم واصل حديثه وقال: "خدعنا الدليل ولم يوصلنا إلى الشريط الحدودي، لقد استشهد الرفاق بسببه"، لم يرَ علي إلاّ الدليل خللاً وثغرةً، لم يستطع أن يرى أبعد من الدليل سبباً في فشل العملية ووقوعهم في الأسر. أردتُ أن أقول لهم أنت يا علي ورفاقك كنتم مجرد وسيلة، منذ أن كفّ العمل المسلح عن أن يكون استراتيجية تحرير وإنما أصبح هدفاً أيديولوجياً، وعندما نصبح أنا وأنت وسائل لا يحصى على ذاك الجانب من المتراس من الشهداء والأسرى، ولا سيما أسرى وشهداء الفصيل في ذكرى انطلاقته، نحن يا رفيقي، دليل على استمرار فصائلنا في العمل المسلح، فالخلل الأساس ليس في ذلك الدليل الذي قادك نحو الجنوب، وإنما الخلل في كوننا دلالات بعد أن غاب المدلول، لم أملك هذه الكلمات ولا الجرأة لأقولها لعلي.
أُطلق علي في إطار إفراجات أُوسلو، أمّا أنا القابع في السجن منذ خمسة وثلاثين عاماً فقدت تحوّلتُ إلى أيقونة كما يليق بهذه المرحلة، أيقونة لا أعرف ماذا تعني دلالاتها في ظل انهيار عربي وحالة فلسطينية رثة.
18\09\2020
الجلبوع