تهديد الهوية الفلسطينية
نبذة مختصرة: 

ما يجري الآن هو صراع بين ذاكرة فلسطينية تصر على البقاء من خلال نقلها من جيل إلى جيل، وبين حلم إسرائيلي بمسح هذه الذاكرة. الهوية الفلسطينية كانت موجودة على مر العصور وستستمر، لكن القلق يتأتى من التأثير الحتمي في طبيعة هذه الهوية، بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين يعيشون في فلسطين، أو أولئك الذين يعيشون خارجها.

النص الكامل: 

"علينا أن نفعل كل شيء لضمان ألّا يعودوا [الفلسطينيون] أبداً... كبار السن سيموتون والصغار سينسون"، هذا ما قاله ديفيد بن - غوريون في سنة 1949، بعد أن انتهى، أو قارب على الانتهاء، من طرد 800,000 إلى 900,000 من الفلسطينيين من ديارهم وأرضهم؛ أي ما يناهز ثلاثة أرباع سكان البلد الذين بُعثروا وشُتتوا في جميع أرجاء الأرض، من دون أن يبقى لديهم أي شيء سوى الأمل بالنسبة إلى البعض، والحلم للبعض الآخر.

كان بن - غوريون مؤمناً بما قاله، وعنى كل كلمة. وإذا كان الأمر كذلك، فنحن نتعامل هنا مع مسألة خطرة جداً وشديدة التعقيد، "لقد خرجوا الآن ويجب ألّا يعودوا"؛ "إنهم" منقسمون بين حاضر مكوّن من قسم مسنّ سرعان ما سيذوي ويموت مع ما وقع عليه من فعل، ومستقبل هو قسم فتيّ سينسى ما حدث. والقسمان يعبّران عن أناس (ماذا يمكن أن يكونا غير ذلك؟) لا حول لهم للعيش ولا ذاكرة للتذكر. هكذا نظر بن - غوريون إلى ضحاياه. لا بد عندها من "أنهم" كانوا قوماً غريبين تعرّض واقعهم للتجاهل بفظاظة، وحُرموا حتى من إمكان تذكّر الأذى الذي لحق بهم على الرغم من استمرار حدوثه بإصرار. لقد بدأت هذه العملية في سنة 1948 ولم تنتهِ، مع أنها وصلت إلى حد بعيد: اجتياح؛ هدنة؛ تقسيم؛ دولتان؛ احتلال؛ دولة يهودية؛ ضمّ؛ والحبل على الجرار.

وقد أنكرت غولدا مئير فيما بعد، أن الفلسطينيين وُجدوا، حتى كشعب، وفعلت ذلك بمهارة لم يختبرها بن - غوريون: "لم يكن الأمر كما لو أنه كان هناك شعب فلسطيني في فلسطين وجئنا وأخرجناهم منها وأخذنا بلدهم منهم. لم يكن لهم وجود." إذاً، كانت فلسطين إمّا فارغة، وإمّا كان يسكنها شعب آخر. ما فعلته مئير هو أنها أرادت أن تميز بين "الفلسطينيين" و"الشعب الفلسطيني"؛ الشعب بمعنى الوعي الاجتماعي والوطني والسياسي، والشعب الذي لديه هوية مؤلفة من خصائص موجودة لدى هؤلاء الاشخاص كمجموعة. تطرح مئير سؤالاً جدياً، لكن قبل أن نعالجه، دعونا نذهب أبعد قليلاً ونتعرف على نياتها النهائية من خلال اقتباس تصريح آخر منسوب إليها: "أشم رائحة أجدادي في خيبر"، قالت وهي تقف على شاطىء خليج العقبة. لا بد من أنها كانت تمتلك حاسة شم استثنائية! لقد صارت فلسطين وشعبها جزءاً من كلٍّ كبير يتعين تحقيقه.

في سنة 1967، اجتاح الإسرائيليون بقية فلسطين وبدأوا بجدية عملية بناء المستعمرات، وشرع اليهود يستوطنون في الأراضي التي جرى الاستيلاء عليها حديثاً (ما يُسمى "الضفة الغربية")، وأكدوا أو أعادوا تأكيد ادعاءهم أن فلسطين كلها كانت لهم منذ غابر الزمن، وأن الله وهبهم إياها. وقد أدى ذلك إلى الإخضاع الفعلي لبقية الفلسطينيين في قبضة الإسرائيليين. والمجال محدود، هنا، للخوض في تفصيلات ذلك.

لكن إحدى النقاط الرئيسية المثيرة للقلق هي التأثير الحتمي في طبيعة هوية الفلسطينيين، أكانوا يعيشون في فلسطين أم خارجها. ومجدداً، هذه مسألة متشعبة وشديدة التعقيد ولا يمكن معالجتها ضمن ألف كلمة مسموح بها للكاتب: ولهذا، فإن تعريف الهوية وتاريخها وتنوعاتها، بالفعل، ومتى تحدد ظروف أناس معينين هوية لهم، هي أمور كلها يجب التطرق إليها بإيجاز شديد.

لندع التاريخ وراءنا. يقول ابن خلدون إن "الفلسطينيين" أرسلوا في أحد الأعوام إلى الخليفة المأمون، مثل العديد من رعاياه، هدية (ضريبة؟) بقيمة 310 آلاف دينار، و300 ألف رطل من الزبيب؛ نعم ليس المال فقط، بل الزبيب أيضاً، وهو أبهى ما تنتجه الكرمة. ثم جاء دور البرتقال ليختبر خطر الغزاة، ومثله الزيتون القديم قِدَمَ الكرمة، والذي يهدده الغزاة أيضاً. لكن غولدا مئير وحلفاءها سيجادلون بأن الفلسطينيين ما كانوا "شعباً". دعونا نتجاوز كثيراً من الوقت وكثيراً من التطور لنؤكد أن فلسطينيي الحاضر هم شعب له هوية مميزة، ثقافية واجتماعية ووطنية، وأن هناك كثيراً ممّا يثبت ذلك، وهذا من خلال النظر في جوانب الحياة مثل الزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والفن في مختلف أشكاله، والتطريز الفريد والحكايات الخيالية والطعام وألعاب الأطفال المتعددة والتفاعل مع الآخرين، بمَن في ذلك الإسرائيليون. وعلى غرار العديد من الشعوب الأُخرى، فإن لدى أطفال فلسطين مجموعة متنوعة من الألعاب، وهي ألعاب تختلف من منطقة إلى أُخرى في البلد، لكنها ما زالت مستخدمة ويحبذها أطفال فلسطين في مناطقها كافة. إنها لمغالطة فعلاً، بل افتراء، الادعاء أن الشعب الفلسطيني لم يكن لديه هوية إلّا عندما بدأ اليهود بالاستيطان في البلد.

أود أن أعرّج هنا، إذا سُمح لي، على موضوع آخر يتعلق بالمخالطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين: لقد ولدتُ في القدس، وعشت بعيداً عنها 60 عاماً. وقد تبعني الإسرائيليون أو حلفاؤهم إلى أميركا، وأغروني بأن أكتب عن أيام طفولتي. أعطيتُ خمسة أمثلة لتجربتي، منذ اللحظة التي تشكل فيها لديّ الوعي إلى اليوم الذي أُخرجت فيه من منزلي، وحيداً، في مدينة اللد. على مثالي الأول، أجاب المؤلف المرتبط بمستشفى ماونت سيناي هوسبيتال والأستاذ المساعد في الطب النفسي: "هذا جميل. الرجاء إرسال المزيد. أفهم لماذا فزتَ بجائزتك. ذاكرتك بروستية أكثر من [الروائي الفرنسي ميشيل] بروست نفسه، مع كل ما لديك من ذاكرة حسية. لقد قرأت عن قابلية تحديد تفصيلات الموقع بالصدى، واعتقدت أنها مهارة تُكتسب بالتدريب، لكنك اكتسبتها بحدسك." أرسلتُ المزيد. واستمرت هويتي في النمو والتطور حتى قرأ المحرر أو الناقد المثال الخامس، وهو وصف موجز لليوم الذي أُخرجتُ فيه تحت تهديد السلاح من مدينتي. وكان الرد أن "تجنّب الأمثلة السياسية ذات القدرة على استقطاب المواقف." تخلّص من الذروة. اِنسَ هذا الجزء من حياتك. قلِّم هويتك. وطبعاً، هذا ليس سوى مثال واحد من عشرات الآلاف، مع كل ما فيها من اختلافات، وطبعاً، سُحب عرض النشر.

مع هذه الضغوط المتنوعة كلها، من سلب الأرض والاختلاط والشتات، هل يستطيع الشعب الفلسطيني الحفاظ على هويته؟ من الصعب الإجابة على ذلك. لقد ذهب ونستون تشرشل إلى حد مقارنتهم بالكلاب، فقد قال عن الفلسطينيين (وغيرهم):

 لا أوافق على أن للكلب في المذود الحق النهائي في المذود مع أنه قد يكون مكث هناك لفترة طويلة. أنا لا أعترف بهذا الحق. أنا لا أعترف، على سبيل المثال، بأنه قد تم ارتكاب خطأ كبير بحق الهنود الحمر في أميركا أو السود في أستراليا. أنا لا أعترف بأن خطأ ارتُكب بحق هؤلاء الأشخاص من خلال حقيقة أن عرقاً أقوى، عرقاً أعلى درجة، عرقاً أكثر حكمة على الصعيد العالمي، إذا وضعنا الأمر على هذا النحو، قد جاء وحل مكانهم.

 حسناً! فالفلسطينيون هم بالنسبة إلى تشرشل كلاب ترقد بسكون في المذود، وهم كذلك بالنسبة إلى بن - غوريون وغولدا مئير. لقد أحرج تشرشل بكلامه اللجنة التي وجّهه إليها إلى درجة تعيّن معها حذفه من السجلات، لكنه مع ذلك حصل على جائزة نوبل "لإتقانه الوصف التاريخي والسيرة الذاتية، وكذلك لخطبه الرائعة في الدفاع عن القيم الإنسانية الجليلة"، باستثناء أن "قيمه الإنسانية" لا تنطبق على الكلاب الراقدة في المذود، أو على الهنود وغيرهم. ومن المعروف أن الغرب في مجمله قدّم الدعم إلى ونستون تشرشل و"قيمه الإنسانية"، لكن الفلسطينيين، سواء نُظر إليهم ككلاب أم لا، باقون هنا بهويتهم الخاصة.

الهوية الفلسطينية موجودة وستستمر في الوجود، مثلما وُجدت على مر العصور، غير أن المستعمرين الغزاة عازمون على القضاء عليها؛ إنهم من دون رحمة، وسيعملون بكل ما يملكون من قوة على "إبادة جميع المتوحشين" مثلما حاول بعض حلفائهم الغربيين، والولايات المتحدة على رأسهم، أن يفعلوا في أماكن أُخرى. الفلسطينيون مشتتون داخل أرضهم وخارجها، وموجودون بين شعوب أجنبية بهويات متعددة، لكن الأمل الوحيد بالنسبة إليهم الآن يكمن في المقاومة؛ المقاومة بمعنى التشبث بفلسطينيتهم وتقاليدهم المتصلة بالأرض وما تحمله الذاكرة في الخارج. لقد ذكرنا العديد من العادات والممارسات، ولم نذكر بعد أهمية اللغة: الفلسطينيون في كل مكان يحتاجون إلى الحفاظ على لغتهم الأدبية و[لهجتهم] العامية أو تعلمها، لأن اللغة تحافظ على الماضي والحاضر بقدر ما تضمن الطريق إلى المستقبل، وهي تساعد على نحو كبير على استمرارية تماسك الشعب الاجتماعي وتعزيزه. يستخدم الفلسطينيون عدداً كبيراً ومتنوعاً من اللهجات العامية، بحيث يواجه غير الفلسطينيين، لكن ليس الفلسطينيون، بعض المشكلات في فهمها أحياناً. فعلى سبيل المثال لا الحصر، خذ شخصاً من أهل نابلس أو الخليل أو بئر السبع وآخر من عكا أو الناصرة أو صفد. جميعهم يستخدمون كثيراً من المصطلحات العامية التي يصعب فهمها على شخص من مصر أو سورية، لكن ليس على فلسطيني من المناطق التي ذكرتها، ومن هنا أهمية الحفاظ على اللغة وتعلمها.

وهناك جانب آخر من جوانب مقاومة تهديد الهوية وهو الذاكرة التي تُختزن فيها كل تجارب الفرد. صحيح أن الذاكرة لها طرقها الخاصة، ويمكن أن تكون مخلصة، كما يمكنها مراجعة الحدث من خلال الاختزال أو التوسع أو التغيير، لكنها على الرغم من ذلك، تسمح لكبار السن بتوريث ما حفظوه لتجنب النسيان. لنتذكر أن بن - غوريون وشعبه يدّعون أنهم يتذكرون ما تركه لهم إلههم الأسطوري، غير أن ما لدى الشعب الفلسطيني هو واقع وليس أسطورة ليتذكرها ويؤكد نفسه من خلالها.

 

*مقالة خاصة بـالمجلة بعنوان: On Threatening Palestinian Identity

ترجمة: صفاء كنج.

السيرة الشخصية: 

رجائي بُصيلة: كاتب وأكاديمي فلسطيني.