لا وجود لعلاقة سببية بين هاوية التطبيع (والأصح استخدام كلمة التتبيع (بحسب تعبير ناصر القدوة)، لأنها أكثر دقة)، التي ذهبت إليها دولتا الإمارات والبحرين وبين عصف الانفجار الذي قتل بيروت.
نفي وجود العلاقة السببية لا يعني انتفاء العلاقة بين الحدثين، فهما حدثان متوازيان، والتوازي ربما حمل مؤشرات أكثر خطورة من السببية. فالمشرق العربي الذي بدأ يفقد نقطة ارتكازه في الحربين المتتاليتين على العراق، فقد توازنه كلياً مع انهيار "الربيع العربي"، وصار ساحات للصراعات الإقليمية والدولية، وفقدت دوله ودويلاته القدرة حتى على التدخل في شؤونها.
مَن لا يمتلك قراره، يفقد قدرته على ربط الأحداث، ولا يرى في التاريخ سوى ما رآه الشاعر الجاهلي في المنايا، بصفتها "خبط عشواء".
التتبيع جاء بقرار من الخارج، وهو قرار أميركي، الهدف منه تقديم هدية إلى صاحب صفقة القرن، في معركته الرئاسية غير مضمونة النتائج. ترامب وصهره الشاب أوحيا ولم يقررا، وإنما تركا القرار لأصحاب الحل والعقد في دول النفط. المشايخ، وبناء على معادلة بسيطة، قرروا أن التحالف مع إسرائيل، وطلب حمايتها "صار حتمياً" في مواجهة لا قدرة لهم على خوضها مع إيران وتركيا.
وفي زمن التوازي، فإن الوحي لا يُردّ، لأن الموحى إليه يشعر بأنه في مأزق، وهو غير قادر على رسم سياساته في ظل تحول المشرق العربي إلى مجموعة من الدول التي مزقها الاستبداد، وأخضعها لشكل استعماري متجدد.
الكلام على أن التتبيع أوقف الضم يثير الأسى، فأصحاب المبادرة العربية التي صيغت في بيروت في سنة 2002، في ذروة الحصار القاتل الذي تعرض له ياسر عرفات، مزقوا مبادرتهم بأيديهم، ودخلوا في صراعات "ملوك الطوائف"، وخضعوا للإملاءات. إنه مشهد لا يشير إلّا إلى محاولة تأخير الأفول الذي صار حتمياً.
التتبيع الإماراتي والبحريني حدث استراتيجي لم يُفاجىء أحداً؛ إنه يشبه حجراً رُمي كي يحرك مياهاً آسنة تجمعت في مستنقع، وهو مرشح لأن يكون بداية دومينو خليجي يُنهي آخر ما تبقّى من عناصر الأمن القومي العربي، ويكشف المنطقة أمام التوسعية الإسرائيلية.
بالتوازي مع هاوية التتبيع، جاء الانفجار - الجريمة في مرفأ بيروت، في السادسة وسبع دقائق من مساء الثلثاء 4 آب / أغسطس 2020.
لا وجود لعلاقة سببية بين الحدثين، لكن انفجار المرفأ يُظهر الوجه الآخر من الصورة، ويقول حقيقة أن الفساد وتحويل بنية الدولة إلى مرتع للمافيات واللصوص، هما مدخل آخر إلى التتبيع.
محاولة قتل بيروت، وهو اليوم قتل حقيقي وليس رمزياً، هو حصاد مرٌّ لأربعة عقود من الخضوع للخارج الإقليمي المستبد، والذي رافقته هيمنة حثالات البنى الطائفية على السلطتَين السياسية والاقتصادية في لبنان.
أضاع لبنان فرصتين نادرتين: اندحار جيش الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب اللبناني أمام مقاومة عسكرية وشعبية في سنة 2000، وخروج جيش هيمنة النظام الاستبدادي السوري من لبنان بعد انتفاضة شعبية كبرى في سنة 2005.
بدلاً من جمع الانتصارين وبناء دولة الاستقلال، بحسب العبارة التي كتبها مُنح الصلح في أحد خطابات فؤاد شهاب، أعلنت القوى الطائفية المهيمنة أنها لا تُحسن الجمع لأنها اعتادت على الطرح.
بالطرح يبقى الانقسام الطائفي والسياسي، وتُشرّع الأبواب أمام تلاعب القوى الإقليمية بالوضع اللبناني، ويستطيع مافيات الطوائف ولصوص المصارف وطفيليّو الفساد الاستمرار في نهب الدولة والشعب، عبر نظام حرب أهلية دائمة ونائمة، تحرسه الميليشيا الأقوى.
لقد جرى تحويل لبنان إلى غابة تحتلها الذئاب، ويسود فيها النهب، ويتسيّد عليها الإهمال واللامبالاة، بحيث جاء انفجار المرفأ ومحاولة قتل بيروت، وتحطيم ثلث أحيائها، وترك الثلثَين الباقيين للخوف والفقر والعوز، تتويجاً لمَن قرر أن يتوّج رأسه بالموت والعار.
انتفاضة 17 تشرين الأول / أكتوبر التي تكالبت ضدها الطوائف وشبّيحتها، وجدت نفسها محاصرة بالقمع والكورونا، قبل أن تجد أنها متروكة وحدها أمام مدينة تئن بالاحتضار.
لم يجد قادة التفليسة اللبنانية أي حرج من طأطأة الرأس أمام تقريع الرئيس الفرنسي. فجأة نسي زعماء القبائل الهمجيون انزعاجهم من شتائم شباب الانتفاضة وشاباتها، وانحنوا تحت وطأة إهانات الرئيس الفرنسي، علّهم يجدون فتاتاً تحت مائدته، يلمّونه من مساعدات موعودة.
التوازي بين الحدثين التتبيعيَّين يرسم أفقاً عربياً لا أفق له. لم يجد الرئيس الفرنسي العائد بذاكرة الانتداب قوة عربية يصنع معها تسوية جديدة تضع لبنان الكبير في غرفة العناية المشددة، فلجأ إلى التفاوض مع القوة الإقليمية الإيرانية، علّه يجد ترتيباً، ولو موقتاً، في انتظار نتائج الانتخابات الأميركية.
لكن أين تقع فلسطين في ظل هذا الموقت العربي المحكوم بالهاوية والذاهب إلى الكارثة؟
نشير أولاً إلى أن كارثة بيروت هي كارثة فلسطينية أيضاً، فالمدينة حملت الصليب الفلسطيني بإرادة ابنائها، وبقيت عاصمة النضال الفلسطيني حتى النهاية. وعندما تُقتل بيروت بهذه الطريقة الوحشية، يموت شيء من فلسطين.
ونشير ثانياً إلى أن فلسطين في عين الخطر. الخطر ليس خارجياً فقط، بل إنه داخلي أيضاً، وله علامتان: الانقسام في سلطتين يفترسهما الفساد من جهة، والتخشب في مفاصل قيادات هرمة فقدت صلتها بنبض الألم الذي تعيشه الفلسطينيات والفلسطينيون في فلسطين المحتلة، أي في القدس وغزة ومناطق ألف وباء وجيم في الضفة الغربية، من جهة ثانية.
فلسطين أمام ما يشبه مرحلة نكبوية جديدة، لكن علينا أن نميز بين نهاية مرحلة ونهاية قضية.
المرحلة انتهت، أمّا قضية فلسطين وفكرتها فستكونان نقطة الضوء من أجل مقاومة فلسطينية متجددة بشعاراتها وممارساتها ورموزها.
المرحلة محكومة بالنهاية، بينما فكرة فلسطين بصفتها فكرة حُريّة فغير قابلة للموت والفناء.