تهدف الطرق الالتفافية إلى تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق معزولة وكانتونات صغيرة لمنع التواصل بين المناطق الفلسطينية، ومنع إقامة دولة فلسطينية، وقد وساهمت هذه الطرق كبنية استعمارية في تكريس التفكيك والفصل لكل ما هو فلسطيني كديموغرافيا وجغرافيا، وتكريس هيمنة وتواصل الاستعمار الإسرائيلي، الذي استغل الطرق الالتفافية كأداة استعمارية ساهمت في عملية ضم الأراضي الفلسطينية، ومحو السكان الفلسطينيين.
ويرى نضال العزة أنه من خلال الطرق الالتفافية تعيد "إسرائيل" رسم خريطة الضفة الغربية لكسب المزيد من الأراضي لفرض وقائع على الأرض، ومنع الفلسطينيين من الاستفادة من الأراضي الواقعة بين المستعمرات والطرق الالتفافية وحرمانهم من أرضهم ومصدر رزقهم. وقد صممت إسرائيل منظومة الطرق الالتفافية لغايات ربط المستعمرات الإسرائيلية بعضها ببعض وبالمدن الواقعة داخل "إسرائيل"، من أجل تسهيل تنقل المستعمرين الإسرائيليين فيما بينها، من دون أن يتطلب ذلك منهم المرور عبر المناطق المأهولة بالفلسطينيين. وتشكل معظم الطرق الالتفافية في الضفة الغربية عائقاً مادياً، ويشير المسار الفعلي لهذه الطرق المنتشرة في أرجاء الضفة الغربية وبيئتها إلى سياسية تمييزية تعزز غايات الهيمنة المكانية والعزل أو الفصل التي تفرضها إسرائيل على الضفة الغربية وسكانها.[1]
وقد بيّن رجا شحادة أن الطرق الالتفافية كانت قائمة في الضفة الغربية قبل سنة 1967، من الشمال إلى الجنوب في وسط المساحة، وتتصل بالطرق التي تتفرع من جوانب هذا الوسط، وأنه جرى تعبيد 93% منها. وفي سنة 1970، بدأت الحكومة الإسرائيلية إنشاء طرق من الشرق إلى الغرب تتصل بوادي الأردن، وأنشأت طرقاً تخترق الضفة الغربية، مصادرة آلاف الدونمات من أراضي الفلسطينيين من أجلها. وتخلت حكومة الليكود عن الاستراتيجية الشمالية- الجنوبية مؤكدة دمج نظام الطرق في الضفة الغربية في نظام الطرق الإسرائيلي.[2]
واعتبر عليان الهندي أن الطرق الالتفافية أدت دوراً مهماً في تثبيت الاستيطان في الضفة الغربية، حيث وضع أول مخطط هيكلي شامل للشوارع الالتفافية في الضفة الغربية سنة 1970. ولم تكتفِ إسرائيل بشق الشوارع وإنما منحتها حرماً يبلغ متوسط عرضه 150 متراً على جانبي الطريق، ويمنع في حرم الشارع إقامة بناء أو تمديد شبكات مياه أو كهرباء أو غيرها إلاّ بموافقة لجنة التنظيم الهيكلي الأعلى. وبحسب بعض المعطيات فإن لكل مئة كيلو متر من الشارع، وضع لخدمتها حرم شارع يبلغ عشرة الآف دونم؛ أي أن إسرائيل قامت بمصادرة 140 ألف دونم إضافي من الأملاك الخاصة وغيرها من أراضي الفلسطينيين. وتشير خريطة الطرق الالتفافية والطرق العرضية (شرق- غرب) في الضفة الغربية إلى تقسيم الضفة إلى أربع أقسام؛ اثنان في الوسط واثنان في الشمال والجنوب إضافة إلى ربط المستعمرات الإسرائيلية "بإسرائيل" ممزقة كل المدن والتجمعات العربية في الوقت نفسه وفصلها عن بعضها البعض.[3]
خريطة تبين كيف يقسم شارع 90 و60 و1 الضفة الغربية
وأوضح شحادة أن مشروع الطريق 50 يهدف إلى وصل المستعمرات إحداها بالأُخرى "وبإسرائيل"، وتجنب المدن والقرى العربية، وإنشاء طرق لوصل المستعمرات بالأراضي الرئيسية التابعة لتل أبيب والقدس. ومن الواضح أن المشروع وضع لخدمة المصالح المحلية والإقليمية والقومية لإسرائيل، بينما تجاهل حاجات المواصلات الفلسطينية أو خدمتها فقط كنتيجة لمصالح إسرائيل، كما قصد المشروع أن يقيد التوسع العربي بتقييد البناء على جانبي الطرق. وطبعاً، دمرت تلك الطرق الأراضي الزراعية ومشاريع الري وغيرها من المنشآت الفلسطينية القائمة.[4]
وتقسم الطرق الالتفافية الفضاء العام الفلسطيني الجغرافي والطبيعي إلى كانتونات ومعازل ومربعات جغرافية وأمنية يسهل السيطرة عليها، ويتم تنميطها، وإيجاد حالة استثناء خاص بكل جغرافيا ممزقة ومجزئة. ويمكن القول إن الطرق الالتفافية ازدادت في أعقاب محادثات السلام الفلسطينية- الإسرائيلية في سنة 1994 لفرض واقع جديد على الأرض من شأنه أن يمنع قيام دولة فلسطينية. وتنقسم شبكة الطرق الالتفافية إلى ثلاثة أجزاء: جزء ممنوع على الفلسطينيين استخدامه بالكامل، وجزء يُسمح لهم باستخدامه بشكل جزئي، وجزء مسموح استخدامه بشكل مقيد. وتعمل إسرائيل على إنشاء البنية التحتية والطرق الالتفافية كذريعة لمصادرة الأراضي الفلسطينية، وبذلك تحقق تلقائياً التطهير المكاني بمنطق ساري حنفي، وهذا التطهير يعمل على تحقيق التطهير الاجتماعي أي تفكيك المجتمع الفلسطيني وفق صالح عبد الجواد. وبالتوازي يشرع الاستعمار الإسرائيلي بالتطهير الاسمي والثقافي بمنطق عبد الرحيم الشيخ، بفرض تسميات جديدة، فالشوارع الالتفافية تعمل على التطهير الاسمي، فجميعها وسمت بأرقام، ومن الأمثلة على ذلك شارع (60، 90، 1، 443، 9 وغيرها)، وهذا جزء من عملية المحو وتحويل الأراضي الفلسطينية إلى أرقام وشوارع مرقمنة.
بعض الشوارع الالتفافية باللون الأحمر، واللون الأسود حدود محافظات الضفة
ينطلق رائف زريق من مقولة أن هناك تحولاً وقع في الأرض الفلسطينية والتحكم الإسرائيلي فيها، فقد "أصبحت المناطق الفلسطينية المحتلة في وقت واحد أقرب وأبعد، وداخل إسرائيل وخارجها، جزءاً منها وجزءاً خارجاً عنها."[5] ويؤكد زريق على دور إسرائيل في إقصاء واحتواء المكان والسكان الفلسطينيين في آن، وبذلك تفرض إسرائيل حالة استثناء دائمة للفلسطينيين، وخصوصاً في مناطق (ج) من الضفة الغربية، فهم ليسوا داخل إسرائيل أو خارجها، وهم غير قريبين وغير بعيدين. إن هذه السياسات الاستعمارية توجد حالة اغتراب وشرذمة وتفكك للمجتمع الفلسطيني من أجل فرض منطق السيطرة والهيمنة من خلال سلطة غير مرئية أو مرئية لكنها غير متجسدة في عنف الدولة الشرطي والقمعي، وإنما تجسد الدولة الاستعمارية بعنفها البيروقراطي والتخطيطي ومخططاتها الهيكلية وإداراتها المحلية والبلدية والمجالس الإقليمية. وتُعتبر الطرق الالتفافية إحدى أدوات هذه السياسة الاستعمارية في الاحتواء والإقصاء والمحو والإنشاء، فالشارع الالتفافي يمزق القرية إلى نصفين، ويربط مستعمَرتين ببعضهما من أجل الاستثمار في اقتصاد الوقت للمستعمِر، وهدر اقتصاد الوقت للمستعمَر.
وفي سياق متصل، أشار شارون روتبارد إلى أن التخطيط الاستعماري يهتم بأن تكون "مناطق الاستيطان في نقاط مرتفعة على التلال والجبال .... وهكذا فإننا نرى في المناطق المحتلة اليوم بلدين واحداً فوق الآخر: فوق، هناك يهودا والسامرة، بلد المستعمرات والمعسكرات، بلد الشوارع الالتفافية والأنفاق؛ أمّا تحت، فهناك فلسطين، بلد القرى والبلدات، بلد الطرق والمسالك الترابية. في المجمل، لمنطق البرج والسور تأثير حاسم في كيف يرى الإسرائيليون المكان الذي يقطنونه، وكيف يرسم هذا المكان بدوره عالم القيم ذاتها: المراقِب ضد المراقَب."[6] ويبين منطق روتبارد أن هناك هدفاً أمنياً وسلطة سيادية وعقابية استعمارية تنشئها الطرق الالتفافية المعززة بالسور والبرج، وتنتهك الطرق الالتفافية التقسيم الطبيعي للأرض الفلسطينية وتحول المشهد الفلسطيني إلى مشهد استعماري مغاير بصرياً للمشهد الفلسطيني المألوف عبر شق الطرق الالتفافية وبناء الجسور وحفر الأنفاق وشبكة طرق ومواصلات متقاطعة ومتشعبة تشق فلسطين بشكل طولي وعرضي.
تتركز الطرق الالتفافية الإسرائيلية في مناطق (ج) من الضفة الغربية، ولا يمكن فهم الطرق الالتفافية خارج سياق المشروع الاستعماري الإسرائيلي؛ فالطرق الالتفافية هي بنية استعمارية استيطانية هدفها إزالة السكان الفلسطينيين وتطهير المكان الفلسطيني، ومحاولة تحقيق فكرة تطهير الفلسطنة (تطهير وتفكيك الهوية الفلسطينية) وتفكيك المجتمع الفلسطيني مكانياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً ونفسياً، وتحويل الضفة الغربية إلى معازل وكانتونات، وتحقيق الفصل العنصري بطريقة مرئية وغير مرئية.
كما تقوم الطرق الالتفافية بعدد من المهمات والوظائف الأُخرى غير الفصل والتطهير المكاني ومصادرة الأراضي واغتيال المكان الفلسطيني وتهجير سكانه، فهذه الوظائف تحقق شرذمة الفلسطينيين وتمزيقهم مكانياً واجتماعياً وسكانياً ونفسياً وسياسياً. وإلى جانب ذلك يشير تقرير (مكتب ممثل الاتحاد الأوروبي) إلى أن الطرق الالتفافية ومشاريع الحفريات الأثرية والسياحية بصورة عامة المرتبطة بالمستعمرات تساهم في التوسع المستمر للمستوطنات.[7] وفي حالة عدم وجود مستعمرات في الأماكن التي تشق فيها الطرق الالتفافية فهي مؤشر على وجود مخططات استعمارية استيطانية مستقبلية للمنطقة التي يشق الشارع فيها. كما يمكن القول إن الشارع الالتفافي الذي يشق يعمل على تسهيل تنقل المستوطنين، ويوجد حالة نمو سكاني واستيطاني بالقرب منه. فقد شهدت مستعمرتا "تكواع" و"نكوديم" بمحاذاة شارع شارع ليبرمان الالتفافي الذي يوصلهما بالقدس زيادة سكانية ملحوظة بعد شق الشارع وتعبيده.
وبين تقرير سنوي صدر سنة 2014 عن مركز أبحاث الأراضي- القدس، أن الاحتلال قد أنشأ طرقاً التفافية استعمارية نهبت أكثر من 196.000 دونم، وحرم الفلسطينيين من استخدم أراضيهم القريبة من تلك الطرق والتي بلغت ما يزيد على 98.000 دونم، ناهيك عن الاستيلاء على كل الموارد الطبيعية القريبة من الطرق الالتفافية مثل آبار المياه والينابيع،[8] بمساحة إجمالية تبلغ نحو 100 ألف دونم (حرم الشارع).[9] كما أشار التقرير: "يبلغ مجموع مساحة الأراضي الضائعة من الفلسطينيين بسبب الاستيطان وحماية المستعمرات وطرقها والجدار العازل نحو (1864) كم2 ، وهذه تشمل ما مساحته 33% من مجموع مساحة الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية."[10]
حققت الطرق الالتفافية مبدأ الفصل بين الفلسطينيين وتفتيت المكان الفلسطيني والعمل على تطهير الفلسطينيين، كما ساهمت كبنية استعمارية استيطانية في عملية ضم واسعة قبل إطلاق مشروع الضم مؤخراً وفق الاتفاق السياسي بين بنيامين نتنياهو وبيني غانتس بتاريخ 20 نيسان/ أبريل 2020. وقد أدت الطرق الالتفافية وحرم الطريق الالتفافي إلى ابتلاع واستعمار ما يوازي ثلث مساحة الضفة الغربية، وفق ما تبينه الأرقام المنشورة، بالإضافة إلى الضم من خلال جدار الفصل العنصري وبناء المستعمَرات والأدوات الاستعمارية الأُخرى. أي أن مشروع الضم الحالي وخطابه الذي يقوده نتنياهو هو عبارة عن تراكم استعماري استيطاني متواصل منذ سنة 1948، ويهدف مشروع الاستعمار هذا وأدواته كالطرق الالتفافية وغيرها إلى عملية فصل الفلسطيني ووصل المستعمر الإسرائيلي وتحقيق المحو الثقافي والاجتماعي والسياسي والجغرافي.
- يستند المقال إلى ورقة قدمها الباحث في مؤتمر مؤسسة الدراسات الفلسطينية السنوي تحت عنوان " واقع ومستقبل منطقة ج والأغوار"، والذي عُقد في جامعة بيرزيت وجمعية الشبان المسيحية في أريحا في 2 و 3 و 4 تشرين الثاني/نوفمبر، 2018
- مصدر الخرائط: معلومات أولية من هيئة مقاومة الجدار والاستيطان عولجت البيانات باستخدام برنامج نظم المعلومات الجغرافية تمت المعالجة عام 2018.
[1] نضال العزة (محرر)، "التهجير القسري للسكان: الحالة الفلسطينية، مصادرة الأراضي وحرمان أصحابها من التصرف والانتفاع بها." ورقة عمل رقم 21 (بيت لحم: بديل، المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، 2017)، ص 58.
[2] رجا شحادة، "قانون المحتل: إسرائيل والضفة الغربية"، ترجمة محمود زايد (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية وجامعة الكويت، 1900)، ص 64.
[3]عليان الهندي، "مشاريع الاستيطان وتأثيرها في تشكيل مستقبل الضفة الغربية." "شؤون فلسطينية"، العدد 249-250 (صيف/ خريف 2012)، ص 164.
[4] رجا شحادة، مصدر سبق ذكره، ص 64-65.
[5] رائف زريق، "تمهيد". ساري حنفي (وآخرون محررون)، "سلطة الإقصاء الشامل: تشريح الحكم الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012)، ص 19.
[6] Sharon Rotbard, A Civilian Occupation: The Politics of Israeli Architecture (London; New York: Vers, 2003), pp. 52-53.
[7] مكتب ممثل الاتحاد الأوروبي (الضفة الغربية وقطاع غزة والأونروا). "تقرير لستة أشهر عن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس الشرقية" (كانون الثاني/يناير – حزيران/يونيو 2017)"، 15 كانون الأول، 2017، ص 1.
[8] قسم مراقبة الانتهاكات الإسرائيلية في مركز أبحاث الأراضي. "الانتهاكات الإسرائيلية للحقوق الفلسطينية في الأرض والسكن: التقرير السنوي لعام 2014" (القدس: جمعية الدراسات العربية، 2015)، ص 105.
[9] مركز رؤية للتنمية السياسية، صورة توضيحية، https://vision-pd.org/archives/509525 (استرجع بتاريخ 9/7/2020).
[10] المصدر نفسه، ص 106.