لا تعرف الغرب وهكذا لن تعرف الشرق. لست بحاجة إلى الشمال فهذا شأن البوصلة وقد أنتجها البشر. تعرف الجنوب لأنه يشير إلى القبلة، وزملاؤك يصلّون ووجهتهم القبلة. كيف توصّلوا إلى أن القبلة قِبلة في مكان تغيب عنه الجهات؟ هل هي صلاة استخارة قد دلتهم على الطريق، أم إنها من فرضيات الحدس التي تسهّل الاتجاهات وتجعلها في متناول السليقة. وكم من سجين ضلّ اتجاه القِبلة في صلاته بعد أن نقلوه من قسم إلى قسم، ومن ثَمّ إلى قسم في داخل السجن الواحد، أو من سجن إلى سجن ومنه إلى سجن وهو مثقل بعذابات السجن السيار البوسطة، ومثقل بالقيد على يديه ورجليه المكبّلتين، ويحاصره الحديد كي لا يرى سوى الحديد وأقفاصه، ولا يشعر إلاّ بها حتى يفقد الشعور بالأوجاع.
أسرى، نبيل عناني، أكريلك على قماش، ٢٠١٠
هل السجان هو الدليل إلى القبلة، وهو الذي أوعز إلى المقيمين في سجنه أكثر منه دهوراً وسنين، والذي أوكلت إليه مهمة حراسته، بينما أنت تحرس ذهنك وقلبك وترمم صنفاً من المعنى لا يعرفه إلاّ من يعيش في الأقبية ولتصنع منه صبرك.
تبني لنفسك الجهات كي تتوازن الحياة، ومعها قطعة الجبل التي تظهر من عند بوابة الكانتينا، وزاوية الجدار المرتفع ثمانية أمتار والذي يحدّك من كل حدب وصوب، ويعلوه الشبك الذي يقطّع السماء والغيوم إلى مربعات صغيرة لا تشبه الفسيفساء، ولا يتسع المربع الواحد لأكثر من نجمة واحدة يجعلها تبدو وحيدة طوال فترة السجن. تظهر قطعة الجبل في عنبر واحد وتختفي في آخر لأن اتجاهات العنابر متقاطعة. وهي مرهونة لمقاسات جسمك وطول قامتك، فكلما ازدادت كسبتَ قطعة صغيرة تضاف إلى قطعة الجبل الصغيرة، وإذا لم يحالفك الحظ يفلت الجبل من الأفق ويعلو الجدار.
في البدء كان غصن شجرة ليمون حديثة العهد يمد عنقه كي يطال نور الشمس من الجهة الأُخرى لذات الجدار وكان متاحاً للرؤية فقط من الزاوية المعاكسة لقطعة الجبل. فحين ينظر الأسرى من تلك النقطة كانوا يرون ملامح رأس الغصن البعيد في محيط مجمّع الإدارة ومكاتب ضباطها، فيرفعون رؤوسهم أكثر كي يداعبوه بعيونهم، بعد أن اعتادوا مداعبة الأهل بالنظرات خلال الزيارات، ومن جانبي جدار زجاجي فاصل.
يرتفع رأس الغصن من يوم إلى يوم، وربما ينظر إلى الأسرى وينقل إليهم بشرى هم صنّاعها بأن الحياة لا تزال حياة. وإذا حدث وشاهدتك عيون السجن المزروعة في أعالي الجدار وأنت تلعب بعنقك، ففي ذلك شكّ بنيات هروب، ويكون مصيرك العزل حتى يعود عنقك إلى مكانه وتصغر زاوية العيون.
في الصيف القائظ الأول سنة 2010 وعلى مشارف غور بيسان كنا ننتظر أياماً عديدة كي تهب نسمة ريح خفيفة لا نشعر بها لكن نشاهد غصنها يتحرك بخفّة من خفّتها. الهواء حار وخانق كما لم أتوقعه يوماً، وحتى الأسرى القدامى في حينه كان يشهدون لحرارة الصيف إياه. أرضية الساحة تنافس شمس آب اللهاب في بثّ اللهب، وجدران الزنازين تحافظ على كل موجة حرارة في النهار كي تبثّها ليلاً هواء حاراً لا خيار لنا سوى أن نستأنس به حين نشغّل المراوح القديمة.
كانت في الغصن حركة تدل على الحركة، حتى وإن كانت النسمة بعيدة ولا تطال سوى أطراف نظر الأسير، لكنها كانت ضرورية كي يقنع ذاكرته بأن هواء النسمات لم ينقطع عن الدنيا بعد، وكي يتلذّذ بسراب برودتها المنعش يتسلّل إلى وجدانه ويبني الأمل على غصنها الراقص على إيقاعها.
عاد العنق إلى مكانه، لكن الذي اختفى هذه المرة هو الغصن كما لو كان سراباً فوق السراب. وحتى السراب يسد أحياناً مكان قطعة الجبل ويجعل التوازنات ممكنة. لقد أظهرت عيونهم المثبتة أن ما لم يتوقعوه قد حدث، فقد التقطت عيون الأسرى المحلّقة ذلك الغصن وغدا الأمر حدثاً وموضع كلام يومي. لم يحتمل السجان غصن الليمون المشرئب نحو السماء، ولا نظرات الأسرى التي ترفع أطراف الأفق وتدفع به بعيداً نحو أفق آخر. قطعوه واختفت النسمة المشتهاة.
لونان في لون، وعن هندسة المستطيلات
انتهت لعبة الغصن، ومعها لعبة الجهات، فلا حاجة إلى ذلك ولا معالم ولا معنى لجهة إن لم يكن لها اتجاه معاكس. كل الجهات هي سواء في السجن، وكلها تدل على اللا-اتجاه واتجاهه المعاكس في اللا-اتجاه ذاته. فالاتجاه وعكسه سيان. الأسرى في غنى عن ذلك، ما لم يقودهم السجان إلى بوابات السجن، هو يعود إلى السجن والأسير إلى حريته، وهي ذاتها بوابة اتجاهها المعاكس حين أغلقوها وزجوا بالأسرى داخلها، ومنها إلى بوابة أصغر ومن ثم بوابة أصغر إلى درجة، وإن كان بالك هادئاً وخيالك سارحاً، تتذكر لعبة البابوشكا الروسية إذ كلما فتحت طبقة تجد لعبة أصغر وتحمل المعالم والشكل ذاته. ثم تستدرك أنّ بالك قد غرّر بك، وأن بوابات السجن لا تلعب.
ثم ما الحاجة إلى الجهات إذا كانت كل البدائل مستطيلة؟ هندسة المستطيلات، حجرة السجن وكذا ساحة القسم وكل المرافق، وكذا قاعة الزيارات كلها مستطيلات متآكلة اللون الأزرق أبيض. وهذا بخلاف الطبيعة حيث الأزرق الآتي من السماء والأبيض الآتي من السماء ومن أعالي الجبال المكسوة بالثلوج.
***
الأزرق-أبيض ليسا لونين، إنهما لون واحد. ولا مجال لسوء الفهم ولا للخطأ في التوصيف. إنه لون المشروع، وفقط في بلادنا، لا مثيل له في أي بلد آخر في أنحاء المعمورة. ففي كل مكان خارج سجنهم الكبير وسجنهم الصغير يكون اللونان لونين.
لقد تآكل اللون، ويبدو أن اتساخه الآتي من اتساخ الجدران يضفي شعوراً من الراحة، الاتساخ مهديء. لا رهبة للاتساخ ولا سطوة بل إنهما من مواصفات اللون المذكور، لون القهر الدائم، وكلما بهت اللون حضرت السكينة.
في المنافسة بين اللون وبهتانه تبني الأوهام أعشاشها في زوايا الاعتياد على اللون وعلى المستطيل وعلى العَلَم المتمترس في مركز المكان. هل نتنبه إليه كل صباح عند الخروج إلى الساحة كي نحارب أوهامنا به، أم نعتاد عليه ولا نعود نشعر بوجوده ونحن نبني عالمنا؟
معركة العلم
هناك ثلاثة أصناف من التعامل مع العلم، هناك من ينسى حضوره تماماً بعد أن استقرّ في الموقت، وهناك من يلتفت إليه كل يوم كي تبقى أوهام السيادة بعيدة عن حياة الاعتقال، وكي لا يقول أحدهم "عندي" في إشارة إلى القسم الذي وضعه السجان فيه وأصبح مندوباً عن الأسرى، وقد انتحل على ما يبدو بعض رموز السيادة لكن دونما سيادة.
هناك شأن آخر للتعامل مع العلَم، وهو من اختصاص ذاك "المواطن"، وهو لقب التحبب الذي يطلقه الزملاء على الأسير أيمن الشرباتي المحكوم مدى الحياة. لقد أثار المواطن حتى فضول ضباط استخبارات السجون، وسؤالهم الملازم "لماذا؟" يقوم هذا المواطن غير المواطن بالتزود بقارورة عطر من نوع جيليت المسموح بها وقداحة وفي لحظة عادية يتسلق الجدار، يسكب العطر ويشعل العلم.
يكف كل شيء عن أن يكون عادياً وتتوقف الحركة. وللحقيقة فإن المواطن يشعل العلم ورسالته ليست موجهة إلى السجان فحسب، بل إلى الأسرى بأن المكان هو سجن، وأن تقاعس القيادات يجر المهانة إلى الحركة الأسيرة ويحبط الروح المحبطة من طول الانتظار، وتقهقر الروح هو عدوها قبل السجان.
تهرول إدارة السجن وضباط المكان إلى موقع معركة العلم بعد أن تعلن الإغلاق التام ضمن الإغلاق الثابت، وحالة الطوارئ ضمن الطارئ دائماً. يعزلون المواطن عن زملائه ويقتادونه إلى خارج القسم ورأسه مرفوع كأنه ينظر إلى حيث كان غصن الليمون قبل أن يقطعوه ويطردوا النسمة التي لازمته. يلوح الأسرى بأصابعهم وهاماتهم وكلماتهم من وراء الشبك الحديدي في الزنازين، ليطلق المواطن صهيله الذي يكرّم به الأسرى كل صباح في طابور الرياضة. الرضى يملأ المكان ويغضب السجان المهان. يصحو الجميع حتى قارورة العطر والقدّاحة والعلم. وضمن الإجراءات الانتقامية حظرت مصلحة السجون زجاجات العطر البخّاخ لكونه سريع الاشتعال إذا ما التقى مع قدّاحة وعلم. في حين أن مصلحة احتكار "دداش" الاقتصادية وهي الشركة المعتمدة لتزويد الكانتين بسلة المشتريات، تعمل في إطار إجراء كهذا لمصلحة الأسرى الذين يقومون بدورهم بخدمة مصالحها التجارية، فالأسرى هم الزبائن وهم رواد سوق دداش.
وعلى طريقة الشيء بالشيء يذكر، فقد كان صديقي المواطن الخليلي الأصل والمقدسيّ الهوى يتلقى عندي درس تقوية في العبرية، وكنا نلتقي بوتيرة مكثفة تلائم وتيرة اجتهاده وشغفه. وقرر أن يستعين بملاحق ثقافية قديمة احتفظ بها من صحيفة "هارتس"، واستغرقنا وقتاً مطوّلاً في قراءة "حاييم غوري". كان يقرأ النصوص العبرية ويتحدثها باللهجة الخليلية المتميّزة، ومن كثرة الدروس ومتعتها وجدتني قد حافظت على إلمامي بالعبرية لكني تعلمتها باللهجة الخليلية.
وكي لا ننسى العلم المسكين أحادي اللون الأزرق-أبيض وضحية ضحاياه، فإن شاءت الأقدار الحاكمة وكان مدير السجن عربياً فكان يسارع وعلى الفور في انتداب السجانين لإزالة آثار الحريق وتثبيت علم آخر جديد حاد اللون، إمعاناً في احترام جلال الولاء، والاستعارة من إميل حبيبي، وإذا كان المدير يهودياً فإنه يمارس لعبة الواثق من سيادته ويتريّث يوماً أو يومين ربما ينجح في مظاهرة السيادة.
لم ترسل شجرة الليمون غصنها من جديد، فلتنتظر عيون التوق إلى نسمة.
(سجن الجلبوع)