يجمعني ورمزي ريحان مهنياً أن كلينا درس الفيزياء النظرية، تخصص هو بفيزياء الجسيمات الأولية وأنا بالفيزياء النووية، وهما موضوعان لهما مداخل بعضهما على بعض. ولم يكن مثل هذه التخصصات مألوفاً بين الجامعيين الفلسطينيين في ذلك الوقت (أواخر ستينيات القرن المنصرم)، ولذا، عندما كنت أشاهد وخطيبتي (زوجتي لاحقاً) فيلماً في سينما دنيا في رام الله مطلع السبعينيات، ارتأت صديقة لنا (نادية ميخائيل) كانت تجلس على المقعد أمامي، أن من الضروري أن تعرّفني إلى الشخص الجالس بجانبها، رمزي ريحان الفيزيائي النظري الآخر في البلد، والذي لم أكن قد قابلته حتى ذلك الوقت. أدار رمزي رأسه ربع استدارة وابتسم نصف ابتسامة ولم نتبادل الحديث، فالمكان ليس ملائماً للحديث فيما يفترض أنه اهتماماً مشتركاً، ولم يكن هناك اهتمامات مشتركة أُخرى أعرف عنها في ذلك الوقت.
رمزي ريحان
بعد فترة زرت كلية بير زيت لأتفحص إمكانات العمل في الجامعة العتيدة التي كثر الحديث عن قرب تأسيسها، وقابلت الإدارة (أذكر أن د. جابي برامكي هو الذي قابلني) وفهمت أن لديها ما يكفي من الفيزيائيين، د. حنا ناصر ورمزي ريحان، وهكذا انتهت محاولتي الخجولة للالتحاق بجامعة بير زيت القريبة من البيت، ربما إرضاء لوالديّ، فقد كنت مهتماً أكثر بالانخراط في دراسات وأبحاث ما بعد الدكتوراه في مراكز بحوث متخصصة في أوروبا الغربية. وبعد ثمانية أعوام قضيتها في معاهد وجامعات أوروبية وفي الجامعة الأردنية، اتصلت بي إدارة جامعة بير زيت تدعوني إلى العمل فيها، وكان لي لقاءات في عمّان مع رئيس الجامعة المبعد د. حنا ناصر ونائبه د. جابي برامكي حضرها رمزي ريحان، عميد كلية العلوم الذي كان يشغل موقعاً بارزاً في عملية صوغ القرار في الجامعة. وتم الاتفاق على انضمامي إلى الهيئة التدريسية في جامعة بير زيت اعتباراً من مطلع العام الدراسي 1979 / 1980، لكن الجامعة أُغلقت وتعثّر سير العام الأكاديمي، فتأجل بدء عملي حتى العام الدراسي 1980 / 1981.
انضممت إلى دائرة الفيزياء في جامعة بير زيت وكان رمزي عضواً في هيئتها التدريسية، وتعارفنا أكثر واكتشفنا عدة اهتمامات مشتركة تجاوزت الفيزياء النظرية بمختلف دهاليزها. فكلانا – كما العديد من الجامعيين الفلسطينيين من تلك الحقبة – وجد في الدراسة الجامعية فرصة لملاحقة فضوله العلمي والمعرفي في أكثر من مجال من دون استعجال. كان لدينا اهتمام كبير بالموسيقى الكلاسيكية ومشاهير المؤلفين والمؤدين، وبينما تركز شغفي على الاستماع، كان هو يهتم بالتأليف ويتقن العزف على البيانو الذي كان يقتنيه في بيته الصغير القريب من بيتي في رام الله، وكثيراً ما زرته في تلك الفترة.
كان رمزي يقضي أوقاتاً طويلة يتدرب على عزف قطع موسيقية صعبة لمشاهير برعوا في التأليف لهذه الآلة، وإن كنت لا أذكر أنه طرق أصابعها في وجودي أبداً. لكن موضوع الرياضيات البحتة كان أكثر ما يشد اهتمامنا المشترك خارج الفيزياء، فقد كان له شغف بالمسائل التي لم تجد حلاً، وخصوصاً "نظرية فيرما الأخيرة" أو "تخمين فيرما"، وهو ما خمّنه فيرما في سنة 1637 وبقي من دون دحض أو إثبات لقرون، فشدّ اهتمام كثيرين من مشاهير الرياضيين، وآخرين من المهتمين بالرياضيات البحتة مثل كلينا، إلّا إن رمزي قضى وقتاً أكثر في المحاولة (تم إثبات النظرية أخيراً في سنة 1995 من طرف أستاذ الرياضيات أندرو وايل)، ذلك بأن نمط حياته كان يسمح بذلك، إذ عاش وحيداً أعزب عازفاً عن النشاطات خارج الأكاديمية ومؤسساتها وشؤونها وعمّا لا يمت إلى اهتماماته الشخصية، وخصوصاً في الفكر والموسيقى.
لم يُنهِ رمزي متطلبات الدكتوراه. فقد درس في جامعة الشرق الأوسط التقنية (METU) في إستانبول مع أستاذ الفيزياء النظرية التركي المرموق "فزا غورسي" (Feza Gürsey) الذي كان يتنقّل في تلك الفترة بين إستانبول وييل (Yale)، وتوسع في دراسة الفيزياء النظرية خارج المجال الضيق لأطروحته فلم يستكمل متطلبات الدرجة، وكان مع ذلك يبزّ كثيرين ممّن حصلوا على الدكتوراه وبقي علمهم ونشاطهم محصورَين في ذلك الحيز الضيق المطلوب للحصول على الدرجة العلمية، فاكتسب قدرات تحليلية واسعة أهّلته للقيام بالعديد من المهمات التي شكلت فيما بعد تحدياً في عملية وضع لبنات الجامعة العتيدة - الأولى في فلسطين - التي شارك في بنائها.
عُين رمزي مدرساً متفرغاً في كلية بير زيت اعتباراً من العام الدراسي 1970 / 1971، وشغل عدة مناصب إدارية في الجهاز الأكاديمي بما فيه منصبا عميد شؤون الطلبة 1973 - 1976 وعميد كلية العلوم 1977 - 1980، وكان قد رُقّي إلى رتبة أستاذ مساعد في سنة 1977، واستمر عضواً منتظماً في الهيئة التدريسية لدائرة الفيزياء، وشغل لاحقاً منصب نائب الرئيس للتخطيط والتطوير لأكثر من دورة حتى سنة 2004، حين وصل إلى السن القانوني للتقاعد في السنة نفسها التي عدتُ فيها إلى الجامعة رئيساً بعد غياب دام 12 عاماً قضيتها في العمل العام. إلّا إن ارتباطه بالجامعة استمر من دون انقطاع من خلال التعاقد السنوي للقيام بمهمات متفرقة، فكانت فرصة أُخرى لنا للعمل معاً في إدارة المؤسسة.
أحد مداخل جامعة بير زيت.
شغل رمزي منصب نائب الرئيس للتخطيط والتطوير حتى سنة 2005، ثم منصب نائب الرئيس للشؤون المجتمعية 2005 / 2006، وأدى دوراً مهماً في نقل المراكز والمعاهد التابعة للجامعة، عدا مركز التعليم المستمر، من مقارها خارج الجامعة في رام الله إلى الحرم الجامعي الرئيسي في بير زيت، في عملية هدفت إلى تعزيز العلاقات والتفاعل بين المكونات الرئيسية للجامعة، والنهوض بمستواها الأكاديمي على صعيد البحوث.
استمر رمزي في الفترة اللاحقة في العمل كأستاذ مساعد غير متفرغ (Adjunct Professor) في دائرة الفيزياء، وكمستشارٍ لمجلس أمناء الجامعة خلال الفترة 2006 – 2014، وشملت مهماته العمل على المخطط الهيكلي للجامعة وتوفير الأراضي الضرورية لتطويرها، والعمل على تعديل قانون الجامعة وأنظمتها ضمن لجنة خاصة، وحضور اجتماعات مجلس الأمناء ومكتبه التنفيذي ولجنة الاستثمار، وتقديم استشارات يطلبها منه رئيس المجلس، وبذا بقي رمزي ينتمي إلى الحلقة الضيقة التي تضطلع بصوغ توجهات الجامعة، وهي مكانة احتلها طوال معرفتي به، فهو لم يكن بعيداً قط عن دائرة مستشاري رئيس الجامعة ورئيس مجلس أمنائها، إلى أن لم يعد وضعه الصحي يسمح بذلك. لقد شكّل رمزي بحكم خبرته الطويلة ودوره النشط في جميع مراحل تطور الجامعة، أكاديمياً وهيكلياً، مخزنَ الذاكرة المؤسساتية الذي كان يُعتدّ به ويُرجع إليه لضمان ترابط حلقات تطور الجامعة في المراحل كافة.
كان رمزي يهتم كثيراً بالتفصيلات، سواء وجدت مجالاً للتطبيق أم لم تجد، وبنى بذلك مخزوناً من الدراية شكّل منبعاً للأفكار الجديدة كلما وصلت الأمور إلى طريق مسدود. لذلك، كثيراً ما اختلط الأمر على البعض، فظنوا أنه صاحب قرار، لكن هناك فرقاً بين المستشار المؤثر وصاحب القرار الذي يتحمل المسؤولية، وهو كان ينتمي إلى الفئة الأولى.
أتاحت أعوام رئاستي للجامعة خلال الفترة 2004 - 2010 الفرصة لنا للعمل معاً على مشروع مهم هو توثيق قصة جامعة بير زيت منذ أُنشئت كمدرسة للبنات في سنة 1924، حتى سنة 2010. فرمزي ريحان عاصر نشأتها كجامعة فلسطينية أولى، وشارك في التخطيط لانتقالها عبر المراحل الأكاديمية (كلية متوسطة، فكلية جامعية، ثم جامعة تقدم برامج الماجستير) وقبولها في المنابر العربية والدولية حيث اجتزأت لنفسها مكانة مرموقة، وكونت علاقات متينة مع المجتمعات الأكاديمية الرفيعة. كما شارك في تسيير دفتها عبر مراحل سياسية عاصفة مذ أنشئت تحت الاحتلال الإسرائيلي وعلى الرغم منه، حتى إقامة السلطة الوطنية في سنة 1994، وهي مراحل تخللها إغلاق متكرر للجامعة من طرف سلطات الاحتلال، وأزمات متلاحقة تتمثل في شحّ الموارد المالية والبشرية، والاحتجاجات النقابية والطلابية.
كرّمته الجامعة على الأعوام الكثيرة التي قضاها في خدمتها وذلك في حفل تخرّج الفوج الثالث والثلاثين في سنة 2008، وكان من الطبيعي أن أتوجه إليه كي يشارك في توثيق مسيرة الجامعة من خلال كتاب مصوّر بعنوان "جامعة بير زيت: قصة مؤسسة وطنية" باللغتين العربية والإنجليزية، وعُهد إليه بكتابة فصلين، قناعة بأنه أفضل مَن يمكن أن يكتبهما؛ الفصل الثالث بعنوان: "الإبحار في المجهول: من كلية إلى جامعة"، والعاشر بعنوان: "الطريق إلى المستقبل"، وأعتقد أن رمزي لم يكن ليمانع إذا اعتبرنا ذلك الكتاب توثيقاً للفصل الأهم في حياته المهنية ومساهمته فيه كجزء من سيرته الذاتية.