محسن إبراهيم: بلاغة الصمت
في ذكرى
النص الكامل: 

في الأعوام التي تلت ترسيخ الهيمنة السورية على لبنان، دخل محسن إبراهيم في صمت طويل، وغاب على الرغم من حضوره.

في أعوام الصمت تلك، كان أبو خالد حاضراً، لكن كلامه صار يشبه الهمس. تحوّل من أحد قادة الحركة الوطنية اللبنانية إلى القائد السري للعمل الفلسطيني في لبنان، وإلى مرجع لمئات المناضلات والمناضلين الذين قاوموا الاستبداد وبقوا أمناء لتراث المقاومة.

 

محسن إبراهيم

 

كان محسن إبراهيم،

فعل الماضي الناقص الذي لا يصح على الرجل بسبب وفاته في الثالث من حزيران / يونيو 2020، بل لأنه اختار الصمت الطوعي، وغادر الفعل السياسي المباشر.

وكنا نتساءل عن سر هذا الخيار. كيف استطاع رجل عاش حقبة الحركة القومية، وكان أحد قادة انعطافها اليساري في أواخر الستينيات، أن يخرج من المسرح الصاخب بهدوء وتواضع؟

صديق جمال عبد الناصر وياسر عرفات، رفيق كمال جنبلاط وجورج حاوي، الزعيم الثاني للحركة الوطنية اللبنانية، وأحد مؤسسَي جبهة المقاومة الوطنية، يطوي أوراقه ويخرج بلا صخب أو ضجيج، مخلياً المكان الذي ملأه بذكاء وبديهة متوقدة وقدرة على المناورة.

في بدايات أيام الصمت تلك، كنا نلتقي به في مكتبه في وطى المصيطبة، وكنا نرى فيه بعضاً من ذواتنا التي هددها انقلاب الزمن، وكان ينصح ويقود، لكنه كان يعلم أنه خرج من الضوء إلى الظل. ففي ذلك الزمن الدموي الذي تراكمت فيه الاغتيالات فوق الاغتيالات، من حسين مروة ومهدي عامل إلى كوادر حركة "فتح"، دخل محسن إبراهيم في ظله، مخبئاً فيه أسراره كافة.

وكان صمته وسيلته الشجاعة في مواجهة زمن الجبناء الذي احتل لبنان.

تقدم مسيرة هذا الرجل سجلاً لمرحلة البدايات الجديدة التي لم تستطع أن تبدأ، من عبدالناصر إلى ياسر عرفات، ومن كمال جنبلاط إلى الحرب الأهلية اللبنانية، ومن الخروج الفلسطيني من لبنان إلى أوسلو.

حاولنا أكثر من مرة في "مجلة الدراسات الفلسطينية" أن نجري معه حواراً طويلاً، قلت له إننا نريد هذا الحوار كشكل من أشكال السيرة أو المذكرات، لكنه كان يتهرب بلباقة، قائلاً لنا أنه يكتب مذكراته.

مات محسن إبراهيم قبل أن ينشر مذكراته، أو ربما قبل أن يكتبها، لا أدري، لكن ما أعرفه هو أن الرجل كان يعرف كثيراً، وربما كان يعرف أكثر من طاقة أي فرد على الاحتمال، أو ربما كان يجد نفسه في نفوس كثيرة، فآثر أن يترك ما يعرفه لنفسه، ووضعنا أمام تحدي أن نكتشف في مسيرته حكاية زمن مليء بالوعود والانكسارات، والمرايا المحطمة، والذاكرة المشروخة، وتاريخاً لم يستطع أن يفي بوعده بأن يكون تاريخاً جديداً للبنان والمشرق العربي.

لم يكن محسن إبراهيم بطلاً أسطورياً، لكنه اختار أن يكون رفيقاً للأبطال، أي أن يكون بطلاً سرّياً. من علاقته بجمال عبد الناصر ومكتب الرئيس حيث كان صاحب الكلمة المسموعة، إلى رفقة الدرب الطويلة التي جمعته بثلاثة من كبار الشهداء: كمال جنبلاط وياسر عرفات وجورج حاوي.

صحيح أن أبا خالد لم يتجرع كأس الشهادة الدموي كرفاقه الثلاثة الكبار، لكنه اختار أن يستشهد على طريقته، فكان الشاهد الأخير الصامت.

جمعت مسيرة هذا الرجل حكاياتنا كلها، فكانت تحولاته من الناصرية إلى الماركسية، ومن حركة القوميين العرب إلى منظمتَي الاشتراكيين اللبنانيين والعمل الشيوعي، مؤشراً إلى الزلازل التي كانت تحاصر المنطقة، من فشل الوحدة السورية - المصرية إلى حرب اليمن، وصولاً إلى هزيمة الخامس من حزيران / يونيو، ومن هزيمة أيلول الأسود إلى الحرب الأهلية اللبنانية وكوارثها، ومن الخروج من بيروت إلى الانتفاضتين الفلسطينيتين.

في قراءة هذه المنعطفات التي كان محسن إبراهيم أحد أهم رموزها، يكمن تاريخنا المعاصر الذي يخبىء الأسئلة التي جرى تجاهل كثير منها، والتي تنفجر اليوم في وجوهنا.

خرج أبو خالد من صمته مرات نادرة كانت إحداها في ذكرى رفيقه جورج حاوي، حين تجرأ وقدّم نقداً ذاتياً لمسيرة اليسار في الحرب الأهلية، وعلاقة الحرب بالمقاومة الفلسطينية.

اليوم، مع وفاته، يخرج محسن إبراهيم نهائياً من صمته، ليترك لنا تراثاً ناطقاً بالشجاعة والوفاء، وسيرة تختزل في انعطافاتها السياسية والفكرية وطناً صغيراً اسمه لبنان، كبر بكبار صنعوا معناه، ويجد نفسه اليوم خارج المعنى في زمن الصغار الذين يسرقون الحلم من العيون.