نحن في زمن جائحة كورونا، وها أنا أقيم في برلين التي جئت إليها منذ عام ونصف عام كزميلة في أحد مراكز الأبحاث في المدينة. ولم تكن رغبتي في الإقامة في برلين مجرد مصادفة أكاديمية، فأنا لم أسلك يوماً المسار "الأكاديمي" التقليدي، وإنما أنا معنية ببحث القضايا التي لها علاقة بمدن أو مواقع تشدني فكرياً وحسياً وعاطفياً.
كانت "المدينة برلين" حاضرة في بيتنا بشكل دائم. فشريك حياتي منخرط في الحقل الثقافي ويزور المدينة حيث يقدم أعمالاً فنية متنوعة. كما أنها كانت حاضرة لسبب آخر، فأمي تتردد إلى برلين وهي في طريقها لزيارة أخي المقيم، منذ نحو عشرين عاماً، في مدينة أُخرى في ألمانيا.
كانت زيارات برلين تجمعها بمَن هُجّر من أبناء وبنات عائلتها أيام النكبة. فأمي من عائلة مهجّرة من قرية "السجرة" [الشجرة قرب الناصرة]، وقد هُجّر معظم أفراد عائلتها أيام النكبة، فتشتت أبناء وبنات العائلة في مخيمات اللجوء الفلسطينية المتعددة؛ أمّا تفصيلات مسارات شتاتهم فقصة أُخرى.
كانت برلين إحدى المدن الأوروبية التي زرتها في السابق، وكانت زيارتها مختلفة عن الزيارات السياحية لتلك المدن. وفي أول زيارة لي إلى المدينة، حين رافقت أمي بطلب منها للقاء بعض تلك العائلات التي أوصلها مسار الشتات إلى العاصمة الألمانية، وجدت نفسي أنتقل من المواقع السياحية، البرلمان وبقايا الجدار والحدائق العامة، لأدخل بيوتاً تشبه منازل عرفتها في طفولتي.
لم يكن المشهد الخارجي لهذه البيوت يختلف عن تلك التي بنتها إسرائيل بعد النكبة لاستقبال المستعمرين الجدد؛ عمارات عالية متعددة الشقق، يطلَق عليها اسم "شيكون" أو "الشيكونات"، وهو الاسم الذي كان متداولاً بيننا، نحن الفلسطينيين، لاسم الحي الذي وُلدت فيه في مستعمرة "نتسيرت عيلّيت". أمّا في الداخل فكانت أقرب شكلاً ورائحة، إلى بيوت طفولتنا، تلك التي لم تعد موجودة في معظم أحياء مدينتي الناصرة.
كان بيت أبو الفضل الذي لجأ إلى برلين قادماً من أحد مخيمات اللجوء في لبنان، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في بداية الثمانينيات، مطلاً على مبنى التلفزيون في ساحة "ألكساندر بلاتز"، والذي أصبح اسمه العائلي، منذ تلك الزيارة "برج أبو الفضل". وعلى غرار سائر بيوت الفلسطينيين، باختلاف عمر إقامة سكانها في العاصمة الألمانية، تتصدر صورة الأقصى بيت أبي الفضل، كما أن خريطة فلسطين والكوفية معلقتان في مدخل البيت المؤثث بتفصيلاته كلها على الطريقة العربية، كأن "فلسطينيي برلين"، حملوا معهم المخيم وفلسطين إلى غربتهم الجديدة. كانت زيارتي لتلك البيوت التي عبقت جميعها برائحة القهوة والهال فرحة باستقبال "أهل فلسطين"، عبارة عن رحلة خارج المكان والزمان، لكن أكثر ما شغلني منذ تلك الزيارات السؤال عمّن هو أكثر غرابة: بيوت "أهل فلسطين، الأوروبية" في فلسطين، أم "البيوت الفلسطينية في أوروبا؟"
فلسطين – برلين - فلسطين
شاءت النكبة السورية (بالإذن من الأصدقاء السوريين والسوريات) أن تجمع المدن الأوروبية ما شتّتته النكبة الفلسطينية. وتحوّلت ابنة عم أمي، تلك التي استقرت في برلين نتيجة مسارات لجوء وهجرة جماعية وشخصية - وهذه أيضاً قصة أُخرى – إلى حلقة الوصل التي تجمع أمي بأبناء وبنات عائلتها.
جاءت زيارة أمي الأولى لي بعد انتقالي للإقامة في برلين، لترسم مشهداً إضافياً في لوحة الموت والحياة والوطن والغربة واللجوء بين فلسطين وألمانيا، وهي لوحة متعددة المشاهد غير المتناسقة. بضعة أيام قبل موعد سفرها من الناصرة إلى برلين، تلقّينا بحزن شديد خبر وفاة ابن عمها، ذلك الذي وصل إلى ألمانيا في قوارب الموت هارباً من الموت في سورية، في غرفة عمليات ألمانية. وربما لحسن حظه، أو لسخرية القدر، أن البيروقراطية والإجراءات الألمانية البطيئة شاءت أن نشارك في مراسم الدفن، وأن يُدفن مع حفنة من تراب فلسطين.
لم أخطط لهذا كله حين تقدمت إلى تلك الوظيفة، وكنت في المراحل النهائية من كتابة أطروحة الدكتوراه التي تناولت آليات هدم مسار التمدن الفلسطيني، وتحديداً في مدينة حيفا، وإنما كنت أتطلع إلى أن يساهم انتقالي إلى "مدينة الثقافة" في تعميق فهمي لما يحدث في مدينة حيفا من انتعاش لمشهد ثقافي فني فلسطيني. فعلى الرغم من الاختلاف الكبير بين المدينين، فإنني كنت آمل بأن يفتح لي انتقالي إلى مدينة تعجّ بالفن والثقافة، بعيداً عن فلسطين، نوافذ تساعدني على التفكير في المحلي من خلال العالمي البعيد.
أثارت برلين فضولي. فالمشهد الثقافي الـ "لا-غربي" بتشكلّه في حيز غربي، فيما يشبه الواقع الذي تطرحه أسئلتي بشأن حيفا، شدني إلى المواقع النابضة بنشاطات لا غربية: عربية وغير عربية. لماذا وكيف تحولت برلين إلى هذه الحاضنة، ولماذا يقصدها الفنانون والفنانات العرب من مواقع لجوئهم الأوروبي ليعرضوا، أو ليشاركوا المدينة عروضها؟ ومَن هو هذا الجمهور المتعدد اللهجات العربية؟ وكيف أتشارك مع الأصدقاء والغرباء العرب ثقافة وذوقاً فنياً متشابهاً (عدا انتمائنا إلى طبقة اجتماعية اقتصادية متشابهة نوعاً ما)، وذلك على الرغم من عزلنا عنهم؟ أسئلة تحولت إلى جزء من تجربتي المعيشية والبحثية.
انشغالي البحثي والعاطفي في هذه الأسئلة في سياق مدينة حيفا، جعل الملاهي وساحات العرض في برلين، مسرحاً لمشاهداتي، فشرعت أسجل وأدوّن ما جاء فيها، وخصوصاً تلك اللقاءات العفوية مع غرباء لم أصادفهم سابقاً، في محاولة للتعرف إلى ما يسميه هنري لوفيفر "قيمة الاستخدام" لمدينة وللمدينة.
لقد فرض الحضور العربي نفسه عليّ، وأصبح التلصص والاستماع إلى محادثات الشوارع والمواصلات العامة، طريقتي للتعرف إلى بعض تجارب الجاليات العربية في المدينة: شارع زونيناليه (أو شارع العرب، مثلما يطلق عليه العرب في المدينة)، وشارع كارل ماركس، والذي أسميه حلب التي لم أزرها قط، لأنه يضجّ باللهجة السورية، حملا إليّ قصص حياة الناس اليومية، البعيدة كل البعد عن المشهد الفني، والتي تتحدث في الفضاء العام بحرّية، مفترضة أن غربتها وفضاءه الواسع شرطان كافيان للحماية من الانكشاف الشخصي.
الخلافات مع "المعلم الألماني" (صاحب العمل)، وصعوبات تعلّم اللغة الألمانية، والشكاوى عن البيروقراطيا الألمانية، وقصص مكتب العمل وأجور العمل، حضرت مع أحاديث النساء في الشارع وفي ساحة سوق الحي وفي السوبر ماركت. قصصهن هذه أرشدتني، من دون أن تقصد، إلى أفضل نوع ملوخية منشفّه في السوبر ماركت، أنا التي وبفضل أمي، لم أتحمّل يوماً مشقة تجهيز "المونة". وحمل إليّ الفضاء أيضاً قصص حب، وخيانة، ومحادثات غزل، بدأت في المخيم ووصلت إلى برلين.
خوف بعض العائلات من إخراج أولادهم من البيت بحجج "الإهمال"، أو لفرض نمط حياة تقليدي على فتيان متمردين، كانت من القصص التي ترددت كثيراً في الأوبان (القطار التحتي). غير أن قصص التحايل على الشرطة من طرف شباب يبيع المخدرات في زوايا الحارة، ويستعمل بعضهم العربية ولو المكسرة للتحذير من وجود الشرطة في المنطقة، كثيراً ما أثارت فضولي.
أمّا مشاركتي في التظاهرات والمهرجانات الفنية وأيضاً الاحتجاجية، تحولت إلى وسيلة إضافية للتعرف إلى المدينة، فقد انكشفت من خلالها على الياسام الألماني (الياسام هي وحدة محاربة الشغب الخاصة في الشرطة الإسرائيلية)، على عنف الشرطة، ضد مَن تستخدم، في أي حالات؟ أي وحدات شرطية تحضر في أي تظاهرة؟
(أنا) بين برلين وحيفا وسؤال المدن الثقافية
في العالم ما بعد الصناعي، تصدرت الثقافة المشهد الحضري، وكثيرة هي الدوافع التي ساهمت في هذا التحول، وبعضها كان محاولة الدول الأوروبية "إنقاذ" مدن صناعية كانت قد دخلت مرحلة التدهور الاقتصادي. ولم تكن المدن في تلك المرحلة أكثر عدالة من المرحلة السابقة، إذ شهدت هذه المدن تصاعداً في الفجوات الاجتماعية ساهمت فيه السياسات المحلية في طرد الفئات الفقيرة إلى هوامش المدن، وتحويل هذه المراكز إلى مواقع تغلب فيها المواقع الفنية والثقافية تحضيراً لرفع قيمتها الشرائية، وتسليعها وبيعها إلى الطبقات العليا، القومية وتلك العابرة للقوميات. وقد أدت السياحة العالمية دوراً ليس قليلاً في هذا، كما ساهمت في فلكرة (من فولكلور) الميراث الاجتماعي المعماري المحلي وسلعنته (تحويله إلى سلعة).
يحاكي المشهدان البرليني والحيفاوي الفني وتشكلهما (مع الفارق الشاسع بينهما) كحاضنة "متعددة الثقافات"، هذه التحولات. فهنا يُطرد الفقير واللاجىء إلى أطراف المدينة، ويستفيد التركي القادم كمهاجر عمل في الخمسينيات من استغلال كونه هو الآخر، فيتحول الحي التركي الحدودي بين شرق برلين وغربها، بعد سقوط الجدار، إلى قلب برلين النابض بالثقافة والفن ويحتفل بالتعددية. وهناك يُطرد الفلسطيني من قلب مدينته إلى أطرافها، ويستفيد الفلسطيني ابن الطبقة الوسطى، من فلكرة عروبته، لينتعش المشهد الثقافي الفلسطيني، المستقل.
هنا يتحول الحي التركي إلى مركز احتجاجات اليسار، والتي تُقمع بقوة وعنف في حال جمعت هوامش المجتمع المحتجة على السياسات النيوليبرالية وتقليص السياسات الاجتماعية، وحادت عن الاحتجاج بالوسائل الفنية. وهناك، تُقمع التظاهرات التي تعيد فلسطين وعلمها، إلى قلب المشروع النيوليبرلي الإسرائيلي الذي يسلعن قلب حيفا العربية.
في كلا المكانين يتصارع الناس في حياتهم اليومية، وأيضاً في احتجاجاتهم المنظمة، كل في سياقة الخاص، ضد تحويل الحيّز المعاش إلى حيّز مجرد، يُمحى منه التاريخ، وتضيع فيه الفروقات، وتُخلط السياسة بالاقتصاد من أجل ضمان تحوّل جميع مركباته إلى سلع في السوق.
هكذا هي المدن، دينامية ومتحركة، تتشابك فيها السياسات القطرية والمحلية، وتتحداها حياة الناس اليومية بأفعالهم وردات أفعالهم، لتخلق واقعاً مركباً، فنحبها لهذا السبب وتغضبنا للأسباب نفسها.
المدن أو ما بعد كورونا
لم يحبطني الإغلاق في زمن كورونا، مثلما يحبطني تخفيف الإغلاق اليوم. وأكثر ما يشغلني سلسلة من الأسئلة التي سيكشف المستقبل عن أجوبتها: كيف ستتأثر العلاقات في المدينة ومع المدينة في ظروف يتحول فيها الإنسان هو ذاته إلى مصدر الخطر لمجرد وجوده في الحيّز العام؟ كيف سيتحول دور الحيّز العام وشكله في المدينة بعد وباء كورونا، في ظل شروط الابتعاد الجسدي؟ ماذا يعني مدينة لا تماسّ فيها بين غرباء؟ ما هو شكل مدن تتحول فيها العفوية إلى خطر ومخاطرة؟ وكيف نجحت الحكومات في إقناعنا بأن القيمة الاستهلاكية وليس القيمة الاستخدامية هي الأولوية في المدن؟ هل نشهد تحولات المدن الثقافية؟ وهل تشكّل التحولات العالمية، وخصوصاً سبات السياحة العالمية اليوم، فرصة لنعيد التفكير في كيفية استعادة مدننا، لتصبح أكثر عدلاً؟ هل سنستعيد تعريفنا لثقافاتنا فننتزع سلعنتها، أم ننصاع للأولويات التي تضعها الحكومات من دون التفكير فيما يعني أن نعيش في مدن ما بعد كورونا؟