لم يكن أحد ليتخيل قبل بضعة أشهر أن يصبح معظم مدن العالم وأكبرها اقتصادياً أشبه بمدن أشباح، وأن تخلو فنادق المدن السياحية من السياح. بين ليلة وضحاها توقفت آلاف المصانع عن العمل وأغلقت المطاعم أبوابها وبات ملايين العاملين يعملون من بيوتهم، هذا إن بقي لهم عمل. لقد كشفت الأزمة الاقتصادية الناتجة من تفشي فيروس كورونا (كوفيد – 19)، عن عيوب النظام الاقتصادي الرأسمالي، الأمر الذي تجلى بإصرار بعض زعماء الدول، وعلى رأسهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على إعادة فتح الاقتصاد على الرغم من الزيادة في عدد الإصابات، ذلك بأن الاقتصادات المبنية على أساس تعاظم المنفعة الشخصية لا تعتبر الإنسان العامل سوى أداة إنتاج نازعة عنه حقوقه الإنسانية. وتظهر العيوب أيضاً على صعيد التضامن بين الدول، إذ غاب التضامن العالمي لمصلحة تعزيز النزعة القومية الأنانية حتى بين دول تشكل أحلافاً واتحادات كالاتحاد الأوروبي، مع العلم أن الاتحاد الأوروبي كان وراء سياسات التقشف المالي في ميزانيات حكومات دول جنوب القارة الأوروبية. ومن أسوأ عيوب النظام الاقتصادي العالمي تخصص دول بإنتاج سلع معينة، والتكامل من خلال سلاسل توريد دولية. ففي الأزمة الحالية قام بعض الدول بوقف تصدير السلع الغذائية، بينما قامت الولايات المتحدة الأميركية بوقف تصدير المنتوجات الطبية، وهو ما خلق أزمة حقيقية في الأمن الغذائي، وفي نقص المنتوجات الطبية في كثير من الدول النامية والفقيرة.[1]
ومن المتوقع أن تشهد مرحلة ما بعد كورونا، وخصوصاً في الدول التي شهدت عجز النظام الصحي عن علاج عدد كبير من الإصابات، مساءلة ومحاسبة على السياسات المالية التقشفية التي شملت قطاعات أساسية كالصحة والتعليم، وما يعنيه ذلك من احتمال انقلاب على النظريات الاقتصادية السائدة والمبنية على معاظمة المنفعة الشخصية، وتلك التي توصي بتخفيض العجز في ميزانيات الحكومات.
فلسطين ونظامها الاقتصادي جزء من النظام العالمي، ويتأثران بشكل كبير بما يحدث حولهما. وعلى الرغم من أن عدد الإصابات في الضفة الغربية وقطاع غزة بقي منخفضاً مقارنة بدول العالم، فإن إجراءات الحكومة الفلسطينية في إعلان حالة الطوارىء لشهرين والإغلاق التام للقطاعات الاقتصادية لأكثر من شهر، باستثناء تلك التي تزود الحاجات الأساسية من غذاء وأدوية، سيكون لها أثر عميق في الاقتصاد الفلسطيني. ففي الوقت الذي تشكل الأنشطة الخدماتية نحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن الأنشطة الزراعية والحراجة وتربية المواشي وصيد الأسماك تشكل 6% فقط، بينما تشكل أنشطة التعدين والمحاجر والصناعة وإمدادات المياه والكهرباء 13% من الناتج المحلي الإجمالي.[2] هذا التوزيع للاقتصاد الفلسطيني يُظهر الأزمة الاقتصادية العميقة التي من المتوقع حدوثها نتيجة الإغلاق الطويل للعديد من المنشآت الاقتصادية، فمن المتوقع أن تكون فترة التعافي لهذه الأنشطة الخدماتية طويلة، ويُعزى ذلك إلى كون هذه الخدمات استهلاكية، وتعافيها يحتاج إلى تعافي دخل المستهلكين الذي يعتمد هو أيضاً على العمل في هذه الأنشطة من ناحية، وعلى العمل داخل الخط الأخضر من ناحية أُخرى.
وتشير التنبؤات لأداء الاقتصاد الفلسطيني في سنة 2020، إلى انكماش بنسب متفاوتة، إذ بينما يتوقع البنك الدولي انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2,5% في سنة 2020،[3] يتوقع الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني انكماشاً بنسبة 14,3% في سنة 2020 أيضاً. وبعيداً عن نقاش المنهجيات التي استُخدمت لاحتساب التنبؤات، فإن التباين الكبير في التوقعات يعكس تباين الافتراضات التي بُنيت على أساسها التنبؤات، ويخلق حالة من عدم اليقين الناجم عن المخاطر المترتبة على انتشار الفيروس، وخصوصاً أن الموجة الأخيرة لانتشار الفيروس كانت داخل مدينة القدس المحتلة وضواحيها، ومن خلال العمال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وهي مناطق خارجة عن سيطرة السلطة الفلسطينية. علاوة على هذه المخاطر هناك المخاطر التي يعاني جرّاءها الاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة نتيجة تبعيته لاقتصاد دولة الاحتلال المسيطرة على جميع المعابر والحدود، وعلى إيرادات السلطة المالية، فضلاً عمّا تمارسه من قرصنة لأموال المقاصة.
ومن المتوقع أن تفضي حالة الانكماش الاقتصادي إلى ارتفاع كبير في نسبة البطالة، وذلك جرّاء توقف العمل في فترة الإغلاق، ونتيجة حالة التعافي البطيئة التي ستشهدها أغلبية القطاعات، ولا سيما أن نحو 46,7% من العاملين في الضفة الغربية وقطاع غزة يعملون من دون عقد مكتوب،[4] ومن المحتمل أن عدداً كبيراً من العمال في الضفة الغربية وقطاع غزة سيكونون عرضة لفقدان وظائفهم من دون أي حماية قانونية لحقوقهم. لذلك بات من الضروري تعزيز الرقابة على تطبيق قانون العمل من خلال زيادة أعداد المفتشين وتكثيف الزيارات لأماكن العمل من جانب وزارة العمل. وفضلاً عن ذلك، فإن العمال الفلسطينيين العاملين في المستعمرات الإسرائيلية وداخل الخط الأخضر في مناطق 48، ليسوا فقط عرضة لفقدان مصدر دخلهم في أي وقت بقرارات إسرائيلية عبر وقف تصاريح عملهم أو إغلاق الحواجز، بل هم أيضاً عرضة للاستغلال اليومي لعملهم الذي يُعتبر عملاً رخيصاً بالنسبة إلى المشغلين الإسرائيليين.
لقد أظهرت أزمة جائحة كورونا في مناطق داخل الخط الأخضر استغلال العمال الفلسطينيين من طرف مشغليهم من جهة، ومن طرف سماسرة التصاريح وتهريب العمال من جهة أُخرى. فالتسهيلات الإسرائيلية وترك الحواجز على الخط الأخضر من دون جنود، لم يكونا حباً بالعمال الفلسطينيين، وإنما من أجل السماح باستمرار عجلة الإنتاج، وخصوصاً في قطاعَي الزراعة والبناء الأكثر تشغيلاً للعمال الفلسطينيين. وبانت مظاهر الاستغلال عندما رأينا صور الجنود الإسرائيليين يتركون العمال الفلسطينيين الذين ظهرت عليهم بعض أعراض الإصابة بفيروس كورونا مرميين على الطرق. إن الانفكاك عن الاقتصاد الإسرائيلي يتطلب أولاً إيجاد فرص عمل لهؤلاء العمال داخل الاقتصاد الفلسطيني، وهذا ممكن، ولا سيما لأولئك الذين يعملون في قطاع الزراعة، إذا ترافق ذلك مع الاهتمام بقطاع الزراعة المحلي.
لا يستطيع أي اقتصاد حماية نفسه من المخاطر المتزايدة إلّا من خلال مجموعة من التأمينات وسياسات الحماية الاجتماعية، فالتأمينات تكون من خلال نظام ضمان اجتماعي يشمل مجموعة من التأمينات ضد المخاطر التي يواجهها المواطنون، وخصوصاً الفئات الأقل حظاً. ففي سنة 2016 صدر قرار بقانون رقم 19 لقانون الضمان الاجتماعي الفلسطيني، إلّا إن تطبيقه واجه رفضاً واسعاً من طرف العمال والعاملين وممثليهم، ومن طرف أرباب العمل، لكن المطالب كانت منقسمة، وبدوافع مختلفة، بين مَن طالب بتعديل القانون، ومَن طالب بإلغائه كلياً. غير أن الدافع المشترك بين الفئتين هو عدم وجود ثقة بقدرة السلطة الفلسطينية على إدارة رشيدة للصندوق، فضلاً عن حالة الغموض السياسي التي تسود مستقبل السلطة في ظل السياسات الصهيونية والأميركية المعبّر عنها في مشروع صفقة القرن. ولأن المنفعة الأكبر من قانون الضمان الاجتماعي هي تأمين الشيخوخة، الذي يغطي راتباً تقاعدياً للعمال بعد عمر 65 عاماً، أو للورثة في حال الوفاة، فإن حالة عدم اليقين وعدم توفر الثقة جعلت توقعات العاملين بحصولهم على منافع في المدى الطويل هشة وغير مؤكدة.
على ضوء ما تقدم، فإن أهم المخاطر التي تواجه العمالة الفلسطينية هي فقدان العمل وعدم وجود تأمين صحي يلبي الحد الأدنى من الحاجات الصحية. وفي هذا السياق توصي دراسة بشأن الحاجات الاجتماعية في فلسطين[5] بضرورة التأسيس لنظام ضمان اجتماعي في فلسطين لحماية الفئات الأكثر تضرراً، مع إعطاء الأولوية لتأمين البطالة والتأمين الصحي. وبالتالي، فإن إعادة النظر في قانون الضمان الاجتماعي من أجل حماية الحاجات الاجتماعية للفئات الأكثر تضرراً وسط هذه المخاطر، باتت أمراً ضرورياً وعاجلاً.
إن فشل نظريات تعاظم المنفعة الشخصية في تحقيق الأمان الاجتماعي، حتى في الاقتصادات المتطورة، أعاد طرح مبدأ المنفعة العامة واقتصادات التضامن، إذ لا يمكن للحماية من المخاطر التي يتعرض لها الاقتصاد الفلسطيني، وخصوصاً في ظل جائحة كورونا وما بعدها، أن تصل إلى النجاعة من دون نظام تكافل وتضامن واسع بين مكونات المجتمع كافة.
لقد سطر الفلسطينيون نموذجاً ناجحاً للاقتصاد التضامني في الانتفاضة الأولى من خلال ما كان يسمى اللجان الشعبية التي كانت تؤمّن الحد الأدنى من التعليم والصحة والغذاء من خلال استغلال الأراضي لزراعتها. وربما يكون من الصعب الآن العودة بشكل كلي إلى ذلك النموذج، غير أن من الممكن العمل على تأسيس جمعيات تعاونية واسعة ومتخصصة بقطاعات معينة، وخصوصاً التعاونيات الزراعية، إذ لدينا في فلسطين نظام موروث يخفف من التكلفة المرتفعة لارتفاع أسعار الأراضي، وهو نظام تضمين أو تأجير الأراضي الزراعية في مقابل حصة من المنتوج الزراعي. هذا النوع من التعاونيات، إذا تم تنفيذه على نطاق واسع، قد يساهم في ضمان استمرار توريد الغذاء في ظل المخاطر المستقبلية الممكنة لانتشار فيروس كورونا مرة أُخرى، أو في حال انتشار وباءات جديدة، من دون أن يبقى الفلسطينيون تحت رحمة توريد الغذاء من طرف دولة الاحتلال. كما تساهم التعاونيات في إعادة الاعتبار إلى قطاع الزراعة الفلسطيني الذي تم تجاهله طوال عقود، الأمر الذي أدى إلى تقلصه من مكون أساسي للاقتصاد الفلسطيني حتى سبعينيات القرن الماضي إلى زراعة لا تتعدى مستوى الحدائق المنزلية. ومن الطبيعي أن يكون احتضان مثل هذه المشاريع التعاونية من خلال الاتحادات والنقابات العمالية، لأن مفهوم النقابات مبني على أساس التكافل والتضامن بين أعضائها، غير أن هذا يتطلب أولاً شفافية في العمل لدى هذه الاتحادات والنقابات، وإعادة تنظيمها بحيث تكون منتخبة بشكل دوري.
لقد تجلت أزمة التضامن الفلسطيني الداخلي في ظل جائحة كورونا في صندوق أسسته الحكومة الفلسطينية باسم "وقفة عز"، إذ لم تصل التبرعات من شركات القطاع الخاص إلى المبلغ المتواضع الذي أعلنت الحكومة طموحها بالوصول إليه وهو 28 مليون دولار. لذا، أصبح من الضروري مأسسة الالتزام بالتضامن من طرف القطاع الخاص الذي يحقق أرباحاً عالية، وذلك من خلال فرض ضريبة سنوية على الشركات ذات الربحية العالية، على أن تذهب أموال هذه الضريبة إلى صندوق خاص للطوارىء. وكانت الحكومة الفلسطينية قد ألغت الشريحة الضريبية الأعلى (20%) على دخل كبرى الشركات ورجال الأعمال، واكتفت بشريحة 15%.
أخيراً، أعادت أزمة جائحة كورونا في فلسطين وفي العالم أجمع ترتيب الأولويات الاستهلاكية للمجتمعات، فبات الغذاء والصحة والتعليم حاجات أساسية لأي مجتمع، وبقيت الأنشطة الاقتصادية في هذه القطاعات هي الوحيدة التي تعمل بشكل اعتيادي نسبياً. لذلك، فإن إعادة ترتيب أولويات الحكومة يعني أن يكون تطوير البنية التحتية لهذه القطاعات على رأس الأولويات، وأن يتم وضع خطط طويلة المدى لتنمية هذه القطاعات.
المصادر:
[1]Food and Agriculture Organization of the United Nations (FAO), “Addressing the Impacts of COVID-19 in Food Crises, April – December 2020”, Rome 2020, http://www.fao.org/documents/card/en/c/ca8497en/
[2] الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، "الحسابات القومية في فلسطين لعام 2019 بالأسعار الثابتة: سنة الأساس 2015"، في الرابط الإلكتروني التالي:
http://www.pcbs.gov.ps/Portals/_Rainbow/Documents/A.QNA_Constant.html
[3] World Bank, “Patlestinian Teritories”, http://pubdocs.worldbank.org/en/394981554825501362/mpo-pse.pdf
[4] الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، "مسح القوى العاملة الفلسطيني لعام 2018" (فلسطين، رام الله: 2019).
[5]Jamil Hilal and Penny Johnson and Riad Musa, In the Public Interest: Public Revenues, Social Allocations, and Social Needs in Palestine (Ramallah: Birzeit University, Women's Studies Program, The Forum for Social and Economic Policy Research, 2003).