الفلسطيني في عزلته نقّار خشب لشجرة حياته
النص الكامل: 

بعد شهر من العزلة التي فرضها الوباء، بدا الأمر كأن الوقت حان لأبدأ كالجميع بالتذمر. وإن كان هناك دواء يُسكت هذا التذمر إذا ما بدأ، فهو دواء "الاعتياد"، فأبدأ، في حركة استباقية مضادة، بالاعتياد على خلق المسافات، واستبدال الصمت بالكلام، ثم يصبح الاعتياد نفسه لغة. وأول صفات الهيئة أن تمتلك الملامح، وأول الملامح الصوت، وصوت الاعتياد الصمت، وهكذا، في تطور سريع ودراماتيكي، أعطني صوتاً، ودعني أصرخ بصمت، فيعلم العالم أن هذه العزلة أصبحت حياة!

يستطيع الرائي، من الخارج، رؤية الصورة وهي تمّحي ثم تختفي تماماً، لكن جميع ما يشغل بال السائق، من الداخل، هو أن هناك ضباباً يتكاثف فوق زجاج سيارته، وأن الأمر بات مرهوناً بقراره هو عندما يبدأ بتحريك المسّاحتين فتفككان الهواء المتكاثف، وتنكشف أمامه الرؤية، أو أن يوقف سيارته فيوقف رحلته. أمّا غاية الذهاب: إلى أين يمضي في هذه الساعة المتأخرة من الليل، في هذا الجو العاصف؟ فهو موضوع آخر، فالبشرية فجأة توقفت عن التفكير في وجهتها، حتى ليبدو كأنها لم تكن، قبل هذا الوباء، ذاهبة إلى أي مكان، وهذا مثير للعجب!

من الخارج الإرادة صفر، ومن الداخل الإرادة 100 على 100، لكن لا هذا ولا ذاك حدث، فما أحدثه الوباء لا يصنَّف على أنه اختبار إرادات على عكس ما قد يبدو فعلاً. فما يبدو فعلا أنه حقيقي يمكن الشك فيه أيضاً، وهذا على الأقل فيما يخص الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، أمّا فيما يخصني بشأن ما يجري بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، فعزلتي ما زالت تواصل سيولتها العذبة في اليوم السالب السادس عشر، بعد مضي شهر ويومين. هذا الغطاء الفانتازي الكثيف الذي أمّنه لي الفايروس، كي أنسحب خلف باب بيتي، ومن دون لوم، يضع كل شيء تحت عدسة الشك، ومن داخل هذا الشك أصبح كل ما يحدث خارج المنطق، إنما يحدث بشكل مضاعف لغياب المنطق، لكن، وللمفارقة، تتم محاكمته بالأدوات القديمة - أدوات ما قبل الفيروس - فهل هناك منطق يحمي هذه الصورة مثلا؟

في صباح اليوم الأول (23 / 3 / 2020) لإغلاق أبواب البيوت على أصحابها، لتوفير الحماية لهم من عدو غير مرئي، واستجابة لدعوة الحكومة الفلسطينية، تقتحم قوة احتلال مكونة من 15 إلى 20 مجنداً ومجندة، بلدة سنيريا، قضاء قلقيلية، وتعتقل مواطنين من البلدة: علاء صادق وممدوح برّي.

سألوا علاء: عندكم كورونا في البيت؟ وبعد أن أجابهم بالنفي طلبوا منه تجهيز نفسه للاعتقال.

منظر الكمامات التي تحمي وجوه بعض الجنود، علاوة على البنادق التي ترافقهم لحمايتهم، في مقابل صورة الفلسطيني الذي دخل في عزلته وهو أعزل، والذي سلّم نفسه لجنود الاحتلال، ومن دون كمامة تحميه، واقتيد إلى المجهول غير المحمي، يضاعف صورة الخوف لدى المحتل، ويزيد في الأدلة التي تجرّمه، بينما الفلسطيني، في صراعه مع الاحتلال، هو هو، ماضٍ في عزلته منذ سنة 1948، مثلي تماماً، منذ تاريخ ميلادي في سنة 1975، إلى الرقم صفر، وصولاً إلى الأرقام السالبة.

إنني على نحو شخصي، ومنذ اليوم الأول للعزلة، كأنني، أنا وحياتي، في مهب الريح، أمّا ما يجب أن تكون عليه لاحقاً هذه الحياة فموضوع أؤجل التفكير فيه!

والفلسطينيون وأحلامهم والاحتلال وأطماعه، هل هذا موضوع يمكن تأجيل التفكير فيه؟

تحدث عزلتي في بيت مساحته 110 أمتار، بطابو مختوم من سلطة الأراضي الفلسطينية في مدينة رام الله، وبشرفة تطل على شرفة بيت آخر من دون طابو لأنه يقع في المنطقة "ج". هذه فلسطين وهذه فلسطيني! وهما محتلتان، إلّا إن اتفاق أوسلو مع الاحتلال أعطى كل مكان في فلسطين حرفاً غير الآخر، فهل أحدثت هذه الحروف فرقاً في طعم العزلة في فمي وفم جارتي الفلسطينية؟

لم تجعل العزلة جارتي، لو أصابها الفيروس، أكثر قوة مني، ولم تجعلني أكثر ضعفاً منها. فنحن الاثنتان ما زلنا مثلما نحن، حتى لو أُصبنا بهذا الوباء كفلسطينيتين، غير أننا نحمل هويتين بلونين مختلفين، فواحدة خضراء والثانية زرقاء، والحرفان مختلفان، فهي "ج" وأنا "أ"، أمّا العدد، فسيعدّ الفلسطينيون والإسرائيليون جارتي في عداد مجموع الإصابات بالوباء، مرتين، وسيصبح رقمها مضاعفاً لأنه يُعدّ مرتين، مرة لدى وزارة صحة الاحتلال الإسرائيلية، ومرة لدى وزارة الصحة الفلسطينية. وفي مقابل رقمها سأساوي نفسي لكني سأنقص النصف، غير أن هذا لن يقلل من حجم عزلتي، إذ ستظل عزلة مكتملة ومتباهية بنفسها، فهي ربما تساوي عزلة جارتي، وربما تتقدم عليها بحسب حبي لهذه العزلة وامتناني لها، بل ربما تتقدم جارتي عليّ فتزيد عزلتها أضعافاً لو وقَعَت في غرامها وربما يزيد امتنانها على امتناني. أنا وجارتي "الفلسطينية" في منافسة قوية على الانتماء إلى عزلتنا الطارئة بسبب الفيروس الذي أُعلنت أولى حالاته في ووهان الصينية في الأول من كانون الأول / ديسمبر 2019، وعلى الانتماء إلى داخل العزلة الطارئة والأطول عمراً في العصر الحديث، والتي سبّبها الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين في 15 أيار / مايو 1948، وهذا كله طبعاً من دون أن تدوّن السلطة الفلسطينية ذلك على أنه رقم جديد في الإصابة، ولا الاحتلال الإسرائيلي وهو يتخلى عن فلسطينية يعدّها ولا يقدم لها العلاج، مع أن قوانينه المدنية لا تمنعه من ذلك، فتصل إلى جارتي رسالة مسجلة على هاتفها النقال الذي يحمل شريحة لشركة سيلكوم: أنت مصابة، احجري نفسك في بيتك.

قال صديقي إن هذا الوباء جاء تحديداً ليخرّب خطته هو، فقد تعرّف إلى صبية قبل أيام فقط من انتشار المرض، وأراد أن يبدأ معها قصة حب. هكذا يفعل صديقي دائماً، يقرر أن يبدأ قصص حبه، لكن، هذه المرة، وبدلاً من أن يلتقيا في مقهى ساعدته آخر مرة في اختياره، انقلب كل شيء فجأة، فاضطر إلى أن يتسلل إلى بيت عزاء والدها الذي شاءت له الأقدار أن يموت في هذا الزمن الصعب، كأن الوباء جاء ليخرب خطة الأب شخصياً: كيف تنتهي حياته! تخطى صديقي قرار الحكومة الفلسطينية ليثبت لحبيبته المرتقبة أنه جاد جداً في هذه القصة، وقد تصل جديته إلى أن يصبح عرضة للخطر لو تطلّب الأمر، فعاد مساء من بيت العزاء، إلى البيت، بآلام شديدة استمرت يومين، فاضطرت عائلته إلى حَجره في غرفته 14 يوماً، وهكذا انتهت قصة الحب، على نحو مأسوي، قبل أن تبدأ.

كانت خطتي قبل الوباء تتلخص بأن آخذ قطعة أرض صغيرة في قرية الجفتلك الزراعية على الحدود الغربية لنهر الأردن، في الأغوار الفلسطينية المهددة أراضيها بالمصادرة، حيث ولدت وأنفقت طفولتي في زراعة الذرة والفاصولياء، وقبلها أنفقتْ عائلتي أعوامها، في زراعة الملوخية.

فكرت في أن أحرر بقعة صغيرة من هذه الأرض على طريقتي، أن أستصلح قطعة منها، وأبني عليها بيتاً من خشب أزرع أمامه شجرة كف الأسد التي ستصعد شاهقة لو سقيتها ماء وسقتها السماء شمساً، وأربي كلباً كنعانياً وبقرة من نوع هولشتاين ببقع سوداء وبيضاء موزعة على سطحها بشكل لا تشبهها فيه أي بقرة أُخرى على سطح الأرض، وأدعو إلى هذا المكان فنانين من أماكن مختلفة من العالم، يساندون المزارعين في قطف الثمار، وزراعة البذور، وجزّ الحشيش من المستنبت، فيساندونني ويساندون أنفسهم، ويصبحون كما الفلسطيني في أصل الحكاية، نقّار خشب لشجرة حياته.

كنت أريد أن أسعى لتأسيس عزلة فنية في بقعة أرض يهددها الاحتلال، وأسميها باسم شجرة الحياة، وأجعلها متاحة بكل ما فيها من الأفكار والناس لاختبارات الريح والحرّ والذباب والناموس والأفاعي والأعشاب والفطر الموسمي وطيور الشنار والغزلان، ومقارعة الاحتلال الذي يقارع المزارعين في حقولهم، ويهددهم على الدوام بالطرد، لكن الفيروس جاء، وسرعان ما توقفت هذه الخطة وغيرها من الخطط، فلففت خطة المجابهة بالفن كورقة بردة وحولتها إلى بيت بابه مغلق داخل عمارة مكونة من ثماني شقق. غير أن سيلان ماء شتاء 2019 - 2020 الكثيف فوق سطح العمارة سبّب رطوبة بالغة في سقف شقتي التي تقع في الطبقة الأخيرة من المبنى، وكلما عاينت الرطوبة وأنا أحدق في العزلة، خفت على هذه العزلة من أن تتشقق، وكلما خرجت إلى البلكون لأطلّ على عزلة جارتي الفلسطينية، خشيت على حرفينا أن يتشققا. وتساءلت هل قسّمتنا هذه العزلة الجديدة، بعد أن قسّمنا الاحتلال داخل عزلتنا القديمة؟

كنت ذاهبة إلى خلق العزلة في أخفض بقاع الأرض، محاولة إيجاد شكل من أشكال المقاومة؛ عزلة لا تقاوم لأجل حياة فرد مثلما يحدث الآن، بل فرد يغامر بنفسه لأجل جماعته التي هي الفلسطينيون في شتات العالم، وسكان العالم في شتاتهم وغربتهم عن وجهاتهم. فمنذ احتلال 1948 وعزلة الفلسطيني ما زالت تتشكل، وهي في زمن الوباء تبدو أكثر وضوحاً، فتأخذ الشكل الذي لم يبدُ في البداية أنها ستذهب إليه. إن عزلة الفلسطيني تشبه خلية النحل التي تبدأ دائرية ثم تصبح سداسية.. لأن الحرارة الناتجة من نشاط النحل الذي يُضرب به المثل في النشاط، يذيب الشمع فيزيح الشكل عن مساره، ثم يكتسب العسل دلالته من الشمع، بل يصبح جزءاً، في حال الملكة وغيره، من مركّبه، فأذهب إلى البائع قائلة: أريد عسل شمع الملكة.

إننا الآن شعب يأكل عزلته. بدوت نحلة دوّرت الدائري وأنتجته في شكل سداسي، لكني لم أبتعد عن الغاية، بل حتى جارتي الفلسطينية لم تكن إلّا جزءاً من هذا البناء، إنها أحد أضلاع الشكل. وعلى عمق 250 متراً تحت سطح البحر، هناك مكان ملائم لعزلة عميقة أزرعها كقنبلة تفجر الاحتلال من ناحية، وتهرّب طريقاً لممارسة الحياة من ناحية أُخرى.

الآن أنا هنا، في مدينة رام الله، على ارتفاع 880 متراً فوق سطح البحر، وفي حافظة هاتفي الجوّال تتكوّم في 22 / 4 / 2020 هذه الأخبار: استشهاد أسير في سجن النقب في إثر تدهور حالته الصحية، ثم ينشر نادي الأسير تساؤل والدة الأسير الشهيد ثائر البرغوثي:

- "هل تعتقدون أنه استشهد اليوم فقط؟"

وتضيف:

- "188 يوماً تركوه في الزنازين.. هذه مش شهادة يعني؟"

وثمة رسالة أُخرى تقول إن الاحتلال يصيب شاباً بحجة تنفيذ عملية دهس وطعن قرب مستعمرة معاليه أدوميم، ثم تصل رسالة تعلن فيها وزارة الصحة الفلسطينية استشهاد شاب بعد إصابته برصاص الاحتلال على حاجز الكونتينر، والرسالتان لا تذكران اسم الشهيد، وهو الشهيد إبراهيم هلسة. أمّا بالنسبة إلى الحواجز، فهناك الآن حواجز أطلق عليها الفلسطينيون اسم حواجز المحبة، كي يميزوها من حواجز الاحتلال، إلّا إنها، وهي الشبيهة بما ارتسم على مدار أعوام في واقع الفلسطينيين وعذّب حركتهم، وهم في طريقهم خارج بيوتهم، تشبه أيضاً حواجز الاحتلال.

لقد سمّى البعض هذه العزلة مركباً، وقال إنه سيغرق هذه المرة بالفلسطينيين والإسرائيليين معاً، إذ ما زال مركب "مهبّ الريح" يحكمه مَن حكم مركب "الطريق"، لكن لا الطريق ولا مهب الريح، فيما يتعلق بالفلسطينيين أو الإسرائيليين، سيؤدي إلى حل. غير أن البشرية كلها في مركب واحد تشغل المخاوف جميع مَن هم في داخله، ولو كان مَن يقوده رجل سياسة أو اقتصاد، لربما لا يشغل باله بغرق مَن فيه. أمّا لو قاده شاعر، فلربما حلم بأن ينجو الجميع، ثم ستتاح الفرصة للجميع لأن يقتتلوا ثانية، فيحلم الشاعر مرة ثانية بأن ينجو الجميع مرة أُخرى، فأي شاعر يستطيع أن يعيش من دون أحلام وناس يتعرضون للمخاطر ثم ينجون بفضل خياله؟! ولو فكّر إنسان واقعي، مثلما فكر أحد الأصدقاء، لاقترح أن يحمل المركب الأغبياء فقط، لأنهم وحدهم القادرون على أن يبدأوا من جديد من دون أن يحرموا البداية قوتها.

أقف على شرفتي وأطل على شرفة جارتي "الفلسطينية" وأفكر في كيف أن هذه العزلة الإجبارية لم تسبب لي الدهشة، ولم تُشعرني بالخوف من العيش فيها أكثر. فالإنسان الذي يأتلف مع خوفه، يصبح فيما بعد إنساناً جديداً.

السيرة الشخصية: 

أحلام بشارات: روائية وكاتبة فلسطينية.