مقدمة
ينشغل العالم الآن بوباء غير مسبوق (الكورونا) اجتاح العالم كله وسقط فيه مئات الآلاف من الضحايا، ولم تفلح المؤسسات الدولية والإقليمية في اتخاذ تدابير موحدة وصارمة وشاملة لكبح جماحه. وعلى الرغم من أن سرعة انتشاره واتساع مداه نتجا من وسائل السفر الحديثة التي حوّلت العالم إلى قرية صغيرة، فإن التعاون الدولي لم يصل إلى تلك المرحلة التي تعالج الكوارث على هذا النطاق العالمي الكبير.
وإذا تعلمنا درساً من تأثير الأوبئة في القرون الماضية، فإن عالمنا سيتغير بشكل كبير عندما يتضح تأثير الكورونا فيه. فعندما فتك الطاعون بأوروبا خلال الألف عام الماضية، نتجت منه تطورات اجتماعية هائلة مثل صعود الطبقة العاملة وهبوط نفوذ الطبقة الأرستقراطية مالكة الأراضي، وكذلك نشأة البحث في العلوم الحديثة، في مقابل انحدار نفوذ الكنيسة ومحاربتها البحث العلمي المجرد خارج النصوص الدينية.
وفيما يتعلق بفلسطين، فإن الوضع قد يتغير إيجابياً لمصلحة الحق الفلسطيني، إذا زالت هيمنة الولايات المتحدة أو انخفضت بشكل محسوس، وإذا حدثت ثورة اجتماعية اقتصادية للطبقات الفقيرة في الولايات المتحدة، ولم يسترجع النفوذ الصهيوني قوته المستمدة من المال اليهودي والسيطرة على مصادر الإعلام. غير أن الوقت الآن مبكر لوصف مستقبل العالم بعد الكورونا أو بسببها، لكن من المؤكد أن عالماً جديداً سينشأ.
بالنسبة إلى تاريخ الأوبئة في فلسطين، فإن حالها كانت كحال بلاد الشام، الجناح الشرقي من قلب الأمة العربية، وحال مصر، الجناح الغربي منها، فكلاهما كانت أحواله متشابهة في السكان والحكم والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. وسنعرض فيما يلي موجزاً لتاريخ الأوبئة في فلسطين، والذي يتميز من سائر المنطقة، بوجود سجلات متكاملة للصحة منذ إنشاء حكومة فلسطين تحت الانتداب البريطاني مدنياً في سنة 1920، ورسمياً في سنة 1922.
الرمد والملاريا في فلسطين
يشير تقرير حكومة فلسطين الصادر خلال الفترة 1945 - 1946،[1] والذي يتناول فترة الانتداب كاملة، إلى ما يلي:
إن أكثر الأمراض انتشاراً في فلسطين هما الرمد (التراخوما) والملاريا. فالرمد كان يصيب 60% إلى 95% من أطفال المدارس، والنسبة الأعلى كانت في القرى لعدم توافر العناية الصحية. وكان 13% من المصابين يفقدون النظر في عين واحدة، و4٫35% يفقدون النظر كلياً. وقد قلّت هذه النسبة كثيراً في نهاية الانتداب بسبب إنشاء مراكز صحية في معظم المدن وكثير من القرى، وكذلك إنشاء مستشفى عيون مركزي في القدس (سانت جون).
أمّا الملاريا فكانت منتشرة في مناطق المستنقعات، وخصوصاً على الساحل في الكبارة قرب قيسارية، وأيضاً على شاطىء نهر الأردن في بحيرة الحولة. وتشير إحصاءات حكومة فلسطين في سنة 1942، إلى وفاة ثلاثة فقط من أصل 1707 عولجوا من الإصابة. وبينما كانت نسبة مرضى الملاريا 7% من مجموع المرضى الذين سُجلوا للعلاج في سنة 1922، تضاءلت هذه النسبة، لأسباب متنوعة، إلى العُشر (أي 0.7%) من المرضى في سنة 1944.
ومع أن إصابات الملاريا كانت، في معظمها، على الساحل وحول نهر الأردن الشمالي، إلّا إن إصابات كثيرة سُجلت في بيت جبرين وحولها، وهي القرية الجبلية ذات العيون والمجاري المائية العديدة. وهذا غريب حقاً. ويقول التقرير إنه في سنة 1918، مات سدس (1/6) أهالي بيت جبرين خلال 3 أشهر فقط.
وقد قامت الصهيونية بحملة دعائية كبيرة في الغرب عن دورها في تجفيف المستنقعات والقضاء على الملاريا، لإظهار دور المشروع الاستيطاني في تحسين أحوال البلد. وهذا مبالغ فيه جداً. فمجموع مساحة المستنقعات في فلسطين لا يتجاوز 27,000 دونم على الساحل، من أصل 26,330,000 دونم مساحة فلسطين، أي واحد من ألف. وهذا المكان قليل السكان، لكنه المكان الذي رست فيه قوارب تهريب المهاجرين اليهود، ومعظمه كثبان رملية. وعليه، فقد شكلت المناطق الساحلية قليلة السكان (عدا المدن الساحلية) أول موطىء قدم للاستيطان الصهيوني الذي امتد بعد ذلك إلى مرج ابن عامر للأسباب نفسها، ثم إلى الضفة الغربية من نهر الأردن شمالي بحيرة طبرية، وحول بحيرة الحولة.
بحيرة الحولة
إن قصة تجفيف مستنقعات بحيرة الحولة قصة طويلة،[2] وملخصها أن الصهيونية طاردت المستثمر اللبناني سليم سلام الذي أخذ امتياز تجفيف منطقة الحولة والاستفادة منها منذ الحكم العثماني قبل الحرب العالمية الأولى، إلى أن أقنعت حكومة الانتداب بفشله في المشروع في منتصف الثلاثينيات، ثم اشترت شركة يهودية منه هذا الامتياز بمباركة بريطانية.
وبعد احتلال فلسطين في سنة 1948، بدأت إسرائيل بتجفيف منطقة الحولة، مربكة بذلك الميزان البيئي المتوارث منذ آلاف الأعوام، فانتقمت الطبيعة منها بأن خلقت ديداناً وحشرات جديدة، بحيث أصبح المشروع عبئاً بيئياً جديداً، فاضطرت إسرائيل إلى دفق المياه من جديد، وأوجدت بحيرة أُخرى صغيرة. لقد أضحى المشروع درساً قاسياً في عدم العبث بالتوازن البيئي.
الجدري
هو كثير الحدوث، ولم يكن له علاج، عدا علاج الأطباء الشعبيين في القرى. وتسجل لنا تقارير الحكومة قصة مفصلة عن قرية الدوايمة في قضاء الخليل، حيث تسجل تقارير حكومة الانتداب انتشار الجدري في كانون الأول / ديسمبر 1921 في تلك القرية، وكيف أن الأهالي قاوموا تطعيم الحكومة لأولادهم وخبأوهم في المغارات، ولجأوا إلى العلاج على يد شاهين، الطبيب البلدي الذي أخذ عينة من المصابة (وكانت خادمة المختار) لقّح بها 300 طفل هُرّبوا إلى الكهوف. وكانت النتيجة: 120 طفلاً من أصل 300 أصابهم الجدري، و37 إصاباتهم ثانوية، والمجموع 157 إصابة من عدد السكان البالغ 2441 شخصاً (6,5%). ومات من المطعّمين 10 أشخاص (12%).
وكانت الحكومة قد أقامت مستشفى ميدانياً بإدارة دائرة الصحة لتطعيم الجميع، لكن كان المفروض البحث عن الأطفال في الكهوف وفوق السطوح لعدم اقتناع الأهالي بجدوى علاج الحكومة.
وممّا زاد الطين بلّة أن الطعم لم يكن من صناعة الحكومة، وإنما من صناعة د. ليو بويم (Dr. Leo Boehm)، وهو يهودي صهيوني روسي أنشأ معهد باستور (Pasteur Institute) في فلسطين، من دون علم باستور أو موافقته، وكانت نتائجه سيئة، وهو تابع لمنظمة هداسا. غير أن الحكومة تدخلت أخيراً، وعالجت الموقف بطريقة صحيحة.
الكوليرا في مصر والشام
فتكت الكوليرا بعشرات الآلاف من الضحايا، مثلما هو معلوم من تقارير القرنين التاسع عشر والعشرين، ومن تقارير طبية سجلت عدد المصابين. وقد وصلت الكوليرا إلى فلسطين مراراً، عبر عودة الحجاج من مكة التي يختلط فيها الحجاج من مناطق العالم الإسلامي كافة.
وفي سنة 1902، انتشرت الكوليرا في المدن المكتظة بالسكان جرّاء عدم استعمال وسائل العناية الصحية الكافية، وكان انتشارها كبيراً في المدن القديمة، في القدس وطبرية ويافا، وربما كان هذا أحد الأسباب التي دعت سكان القدس الأغنياء إلى بناء بيوت فخمة لهم غربي القدس في نهاية القرن التاسع عشر. كما انتشرت الكوليرا في فلسطين في الحرب العالمية الأولى بواسطة الجنود الأتراك، وخصوصاً في أثناء المجاعة في سنة 1915.
الكوليرا في مصر
يذكر تقرير منظمة الصحة العالمية[3] أن الكوليرا اجتاحت مصر كلها من الوجه البحري إلى الوجه القبلي، ومنها إلى تونس في تموز / يوليو 1831، عن طريق الحجاج العائدين من مكة، وذلك في أيام حكم محمد علي.
وفي الفترة 1835 – 1837، ثم خلال سنتَي 1848 و1850، اجتاحت الكوليرا مصر ووصلت إلى جنوبها شاملاً السودان والحبشة، وكذلك شمال أفريقيا. وقد نُقل هذا المرض من مصر إلى أوروبا وإستانبول في تركيا عن طريق البواخر التي أبحرت من ميناء الإسكندرية. أمّا مصدر المرض الذي وصل إلى مكة فهو في جميع الأحوال كان القارة الهندية.
وخلال الفترة 1881 – 1883، اجتاحت الكوليرا مصر مرة أُخرى عن طريق الحجاج القادمين من مكة، والذين أصيبوا بها عن طريق حجاج لاهور (باكستان حالياً) في القارة الهندية. وكانت الإصابة شديدة في دمياط التي كان يقام فيها سوق شعبية كبيرة، ومنها انتقل إلى القاهرة والإسكندرية، وقد توفي من الإصابة 58,000 شخص. وفي سنة 1896 سقط 16,000 شخص في مصر ضحية للمرض. واجتاح المرض مصر مرة أُخرى في سنة 1902، وكان مركزه أسيوط، وخلال 3 أشهر توفي 34,000 مريض.
أمّا خلال الفترة 1946 – 1947، فتوفي في مصر أكثر من 15,000 مريض، ولهذا الحادث قصة أُخرى تتعلق بإسرائيل، سنتطرق إليها لاحقاً.
الكوليرا في فلسطين وسورية
أصابت الكوليرا الحجاج إلى بلاد الشام التي تشمل فلسطين ولبنان والأردن وسورية اليوم، وكانت إصاباتهم من مكة أيضاً، لكن بدرجة أخف. وفي كل مرة تصاب مصر بالكوليرا ينتقل المرض إلى بلاد الشام. وفي سنة 1875 اجتاح الوباء بلاد الشام، ولم يكن المصدر معروفاً، كما اجتاح فلسطين وسورية في سنة 1903، وامتد في مسار جديد، شمالاً نحو تركيا والبحر الأسود، وشرقاً نحو العراق وإيران، ولم يُعرف مصدره.
الحج
كان أداء فريضة الحج هو الفرصة المتاحة لعامة الناس للسفر إلى خارج بلدهم، عدا عدد قليل من التجار الذين يسافرون لأغراض التجارة، لكن اللقاء مع الحجاج من سائر بلاد العالم الإسلامي كان الفرصة الكبرى لنقل الأمراض.
وكان الحجاج من بلاد مصر والشام يسلكون طريقين معروفين منذ القدم: الأول، درب الحج الشامي الذي ينطلق من دمشق في اتجاه المدينة المنورة ماراً ببصرى إسكي شام وعمّان القديمة وقطرانة ثم بلاد الحجاز، وكان هذا الدرب يجمع حجاج بلاد الشام وتركيا وآسيا الوسطى؛ الثاني، هو درب الحج المصري الذي ينطلق من القاهرة إلى نِخِل في وسط سيناء، ثم العقبة وقطرانة، فالحجاز، وكان يضم حجاج مصر والسودان والمغرب العربي وسائر أفريقيا. ويلتقي الدربان في قطرانة (جنوب الأردن)، حيث يجتمع عشرات الآلاف من الحجاج مع مرافقيهم من عسكر وخدم وغيرهم.
وقد تنبّهت مصر مبكراً إلى خطر نقل العدوى مع الحجاج العائدين من مكة، فأنشأت محطة حجر صحي في الطور (عاصمة محافظة جنوب سيناء)، وذلك بعد أن توقف استعمال درب الحج المصري في سنة 1885 بعد إنشاء قناة السويس، واستُعيض عنه بالقطار من القاهرة إلى السويس، ثم بالبواخر إلى جدة. كما هناك محطة حجر صحي في الشيخ زويد، شمالي سيناء، للقادمين إلى مصر من بلاد الشام.[4]
ويقع محجر الطور جنوبي هذه المدينة على شاطىء البحر ومساحته 4 كم2، ويشمل أرصفة بحرية وثلاث مباخر لتطهير الحجاج وثلاجة لصناعة الثلج وآلات إنارة كهرباء ومعزلاً للموبوئين، وأربعة مستشفيات وصيدلية ومنزلاً للأطباء والممرضين والعسكر، وهو مربوط بسكة حديد وخط تلغراف. وقد تم تأسيس المحجر في سنة 1858 في عهد الخديوي محمد سعيد باشا، وجرى تحديثه في سنة 1905.
الحجر الصحي (الكرنتينا) في بلاد الشام[5]
كان خطر الوباء قادماً من أوروبا مع الحجاج المسيحيين إلى القدس وسائر الديار المقدسة، وقد أقيمت المحاجر الصحية في عهد حملة إبراهيم باشا (1831 – 1840) الذي كان يشجّع الحجاج والسياح الأجانب على زيارة فلسطين.
أُنشئت الكرنتينا الأولى في بيروت في سنة 1834 لاستقبال الركاب وحجزهم فيها 12 يوماً، وقد طلب إبراهيم باشا، حاكم الشام في تلك الفترة، من القناصل الأوروبيين التزام رعاياهم الكاملة بهذه التعليمات. ونظراً إلى طول المسافة من بيروت إلى القدس، أقيمت كرنتينا في يافا، ثم في القدس خارج السور في سنة 1849.
ويذكر الكاتب الياباني الشهير توكوتومي كينجيرو (Tokutomi Kenjiro) (1868 - 1927) زيارته لفلسطين في سنة 1906، وخضوعه لإجراءات الكرنتينا في ميناء حيفا بما فيها التبخير والتطهير والحجز عدة أيام.
القدس
توصف القدس بأنها "أقذر مدينة" بحسب رأي القساوسة الذين يزورونها أو يعيشون فيها،[6] فخلال عام يمرض ربع سكانها من "الشرقيين والأوروبيين والمهاجرين والأهالي."
ولدينا سجل مدهش عن الملاريا في القدس[7] كتبه لنا فيكن كالبيان (Vicken Kalbian) ابن الطبيب الفلسطيني الأرمني الدكتور فاهان كالبيان (Vahan Kalbia) (1887 - 1970)، والذي كان الطبيب المعالج في المستشفى العسكري العثماني في المسكوبية في القدس. وقد بيّن لنا السجل أن حاجة القدس إلى المياه كانت تستدعي إقامة أحواض وبرك خارج القدس لتنقل المياه إلى داخل المدينة عبر قنوات، غير أن تلك الأحواض والبرك والقنوات كانت مرعى خصباً لتكاثر الناموس الناقل للملاريا. فالطبيب البريطاني كروبر(Cropper) الذي كان يقيم في القدس ورام الله في سنة 1905، يذكر أن نصف السكان تقريباً كانوا يصابون بالملاريا، وأكثرهم من الأطفال.
لقد تعايش السكان مع الملاريا، وخصوصاً أن الإدارة العثمانية لم تكن تطبق قواعد إجرائية صحية لمكافحة هذا المرض، ولذلك ليس من العجيب أن يكون جنود الجيش العثماني هم أكثر الضحايا. فمن الأرقام المذهلة التي يسوقها كالبيان نكتشف أن عدد الذين ماتوا من الجيش العثماني يبلغ 771,844 شخصاً، بينهم 466,759 كانوا ضحايا الأمراض، بينما قُتل منهم في المعارك الحربية 68,378 جندياً فقط،[8] أي 15% من مجموع الضحايا، وهذا رقم رهيب يدل على عدم كفاءة الجيش العثماني في مكافحة الأمراض بين جنوده، ومنه نستنتج أن نسبة الضحايا بين المدنيين الذين لا يتمتعون بأي عناية حكومية منظمة، هي أكبر كثيراً.
وبين الضحايا أيضاً في الحرب العالمية الأولي، العمال المصريون الذين جلبهم الجيش البريطاني لاحتلال فلسطين في سنة 1917، وعددهم 150,000 عامل، وهو نفسه عدد أفراد الجيش البريطاني الذي جاء إلى فلسطين، والمكون من جنود إنجليز وأستراليين وهنود.
وكانت مهمة العمال المصريين الذين جُلبوا بعقود عمل صورية تشبه السخرة، هي مد خطوط السكة الحديد، ونقل الذخائر وتفريغ السفن، وتحميل المؤن على الجمال وسائر الأعمال اليدوية. وقد جلب هؤلاء العمال البلهارسيا معهم إلى فلسطين، لكنهم في المقابل كانوا أول ضحايا الملاريا بسبب عملهم في شمال فلسطين حيث تكثر المستنقعات، بينما كان جنوبها جافاً ليس به مياه راكدة. غير أن الإنجليز أهملوا في معالجتهم خلافاً للقوانين الصحية الصارمة التي كانت مطبقة على جنود الجيش البريطاني.
وعند دخول الجيش البريطاني إلى فلسطين أدركت القيادة أهمية الحرب الوقائية الصحية، فاكتشفت دواء لمعالجة الملاريا مستخرجاً من لحاء شجرة الكينيا (Eucalyptus) التي استُوردت من أستراليا وزُرعت في فلسطين منذ سنة 1920. وصُرف لكل جندي حبة كوينين (Quinine) يومياً، وبذلك قلّت إصابات الجنود بشكل هائل مقارنة بضحايا الجيش العثماني.
ولذلك، لجأ الجيش البريطاني إلى استعمال سلاح سرّي جديد هو الملاريا ضد الجيش العثماني، وذلك بتطويق الجيش العثماني ودفعه إلى المناطق المنخفضة في غور الأردن المصابة بالملاريا، وبقاء الجيش البريطاني في الأماكن الجبلية الجافة، الأمر الذي يضمن سقوط الجنود العثمانيين قتلى بفعل الملاريا، أكثر كثيراً من سقوطهم قتلى جرّاء البنادق البريطانية. وهذا العمل اليوم يُعتبر من جرائم الحرب البشعة، لكنه هو الذي ساهم في بناء الإمبراطورية البريطانية في الشرق.
الأنفلونزا الإسبانية (Spanish Flu)
مع تراجع الملاريا بالتدريج في فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى، أصيبت فلسطين بوباء الأنفلونزا الإسبانية، وهو وباء غريب عن فلسطين حمله الجنود الأميركيون إلى أوروبا، ومنها إلى فلسطين عن طريق الجيش البريطاني. وإذا اشترك المرضان في الإصابة، الملاريا والأنفلونزا الإسبانية، فإن ضحايا الأمراض في الجيش ستفوق 37 مرة القتلى في الحرب (أي بنسبة 1: 37)، وذلك بحسب تقرير خبير الأمراض المعدية دنيس شانسكين (Denis Shanskin).
الصحة العامة في فلسطين في عصر الانتداب البريطاني
جاء في تقرير مفصل عن هذا الموضوع،[9] ذكر لمرض الجدري في فلسطين كتبه أطباء يهود، وفيه تمجيد لدور الصهيونيين في تحسين الحالة الصحية في فلسطين.
فبصورة عامة، كان هدف الإدارة الاستعمارية في فلسطين وسائر المستعمرات من العناية الطبية هو تحسين الطاقة الاقتصادية للمستعمِر، وذلك بمنع الأمراض عن الأوروبيين (وخصوصاً الجنود) الموجودين فيها، وكذلك بتحسين صحة العمال العاملين في مزارع الأوروبيين. ولم يكن لصحة أهالي المستعمرة أي أهمية إلّا عندما تهدد تلك الأهداف الأولية، وهذا معناه أن الصحة في الريف أو في المناطق الحضرية التي لا توجد فيها مصالح أوروبية، لم تلقَ أي اهتمام. وعدم الاهتمام هذا ينطبق على فلسطين، أولاً من جهة أولويات الحكومة البريطانية، وخصوصاً في مطلع الانتداب، وثانياً من جهة الأهداف الصهيونية التي كانت تسعى لتجفيف المستنقعات في الساحل حيث زرع المستعمرون أول مستعمراتهم. لذلك، فإنه في مطلع عهد الانتداب، كان الاهتمام بصحة 85,000 يهودي ومَن لحقهم من المستعمرين الأوروبيين الجدد، أهم من 650,000 فلسطيني هم أهل البلد.
وجاء في أول تقرير طبي من حكومة الانتداب في سنة 1921 ما يلي:
لقد زارت البعثات الطبية، وأعضاؤها في معظمهم فلسطينيون، كل قرية في فلسطين، وأُعطي كل مختار تعليمات عن كيفية معالجة الطوارىء الصحية، وكذلك نماذج للإعلام عن الولادات والوفيات والإصابات بالأمراض، وعن المخالفات للتعليمات الصحية والعقاب المتوقع عليها. مع ذلك، ومثلما يقول التقرير، فإن فلسطين قبل الانتداب لم تكن خالية من الرعاية الصحية على يد "مجموعة متميزة من الأطباء الشعبيين" الذين كان لهم دور، حتى بعد وصول وسائل الطب الحديث.
ومع أن التطعيم يُعتبر من وسائل العلم الحديث، حتى قبل اكتشاف المضادات الحيوية، إلّا إن استعماله في بداية القرن العشرين أدى أحياناً إلى ثورة من العصيان المدني بين الأهالي، نظراً إلى الشك في أهداف السلطة الرسمية وجدوى علاجها. وبناء على ذلك، فإن تطبيق التعليمات الصحية كان يعوقه كثيراً عدم الثقة بحكومة الانتداب وبنجاعة الأدوية الحديثة، وكذلك عدم الثقة التي كان لها مبرراتها، بمعالجة الأطباء الصهيونيين للمرضى من القرى أو من الأماكن الحضرية المهملة سابقاً. غير أن هذا الاستنكاف من القرى الفلسطينية لم يكن يشمل المؤسسات الصحية الفلسطينية القديمة في فلسطين مثل البعثات التبشيرية العميقة الجذور في فلسطين، والمؤسسات المسيحية الأصلية الفلسطينية.
ولذلك تبقى جذور الاستيطان الأوروبي، وخصوصاً الصهيوني، ولو في أمور الصحة والمرض، موطن شك مبرر يكشفه الحدس الوطني الطبيعي.
حروب إسرائيل الجرثومية
في سنة 1947، اجتاح المرض مناطق كثيرة في مصر وفي سورية (وخصوصاً في حوران)، بسبب الحرب الجرثومية التي شنّتها إسرائيل قبيل إنشائها. ففي سنة 1948 قُبض على يهوديَّين في غزة يحملان جراثيم لتلويث مياه غزة حيث يوجد الجيش المصري، وأُعدما. وفي السنة نفسها قامت إسرائيل بتلويث مياه عكا بجراثيم التيفود في أثناء وجود الانتداب البريطاني، فسقط ضحايا من الفلسطينيين ومن الجنود البريطانيين، ورفضت بريطانيا معاقبة إسرائيل على ذلك.[10]
أنشأت إسرائيل في سنة 1948 مركزاً للحرب الجرثومية والبيولوجية (IIBR) في بيت شكري التاجي الفاروقي في وادي حنين الذي استولت عليه في سنة 1948، وهو لا يزال قائماً إلى يومنا هذا. ويضم المركز 370 موظفاً، بينهم 160 عالماً. ومع أن المركز ينتج جراثيم الطاعون والتيفود والأنتراكس وغيرها، إلّا إن إسرائيل لم توقّع أي اتفاقية خاصة بالحرب البيولوجية مثل اتفاقية BTWC.[11]
وقد أُصيبت مصر بموجة من الكوليرا في 22 / 9 / 1947، لكن مصدرها لم يكن الحجاج من مكة، لأن المرض انتشر قبل عودة الحجاج، غير أنه يُعزى إلى تلويث إسرائيل لقرية مصرية هي القرين شرقي الدلتا قريباً من قناة السويس، والتي كانت مصدراً لمياه الشرب للقرى المجاورة، وتُعتبر مقراً لتجمّع تجار التمور وغيرهم في السوق السنوية، علاوة على تجمّع 6000 عامل يعملون في مشاريع الإنشاءات.[12] وخلال 3 أسابيع انتشر المرض في الوجه البحري، وبما أنه مزروع، فقد اختفى في كانون الأول / ديسمبر 1947 بعد أن خلّف وراءه 20,472 ضحية. وفي الوقت نفسه تقريباً، في كانون الأول / ديسمبر 1947، وبعد اختفائه من مصر، انتشر المرض في القرى المجاورة لفلسطين في حوران، وذلك في 5 قرى على طريق درعا – دمشق، وهو الطريق المؤدي إلى فلسطين من سورية.
هاتان الحالتان في سنة 1947، وهي السنة التي اتُّخذ فيها قرار تقسيم فلسطين، والتي كانت إسرائيل فيها تستعد لاحتلال فلسطين، علاوة على عدم وجود دلائل جغرافية مثل السابق عن انتشار الأمراض مع عودة الحجاج، ترجّح الاتهامات بأن إسرائيل زرعت تلك الأوبئة لتوقف التدخل العربي المحتمل في فلسطين، والذي كان هدفه منع إسرائيل من احتلالها.[13]
ولم يتوقف دور إسرائيل عند تلويث البيئة الفلسطينية والعربية منذ 72 عاماً، ولم تكتفِ بتصنيع القنابل النووية، بل كانت مستعدة للقضاء على الشعب الفلسطيني بأسلحة بيولوجية أيضاً، فقد أطلقت إسرائيل الغازات السامة على قطاع غزة مراراً، الأمر الذي نتج منه زيادة حالات السرطان وإسقاط الأجنّة. ويوجد الآن في غزة أكبر جمعية في فلسطين هي "جمعية الحق في الحياة"، التي ترعى ألف طفل مصابين بتلازمة داون. كذلك رشت إسرائيل المدارس خلال الانتفاضة الثانية بمواد سامة، ولم يتم التحقيق فيها.
علاوة على ذلك، تطبق إسرائيل قوانين الفصل العنصري على المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل، وعلى الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال الإسرائيلي، فلا تعاملهم مثل اليهود، ولا تطبق عليهم قوانين الإجراءات الصحية التي تطبَّق على اليهود، تاركة العنان للأمراض كي تفتك بهم. وهذه معركة من معارك الإبادة المتدرجة مثلما جاء في عريضة جمعية عدالة إلى محكمة العدل العليا في إسرائيل.
ويُعتبر قطاع غزة مثالاً صارخاً لذلك، إذ إن إسرائيل لا تكتفي بشن الحروب العسكرية المتتالية عليه، بما فيها من قتل ودمار، بل تضيّق الخناق عليه أيضاً، وتمنع وصول معدات الفحص وأجهزة الوقاية من كورونا إليه، وتقوم برشّ مواد سامة تُستعمل لرشّ الحقول على حدود القطاع بحيث تحملها الريح الشرقية إلى غزة مدمرة حقولها وصحتها، الأمر الذي يجعله غير قابل للحياة، مثلما جاء في تقرير للأمم المتحدة.[14]
هكذا، وبعد أعوام من الاستعمار، تتكشف لنا هذه الحقائق في الموضوع الجديد الذي أخذ أبعاداً مهمة في دراسة الاستعمار وهو "الاستعمار الاستيطاني" (settlers colonialism) الذي أصبح الآن موضوعاً دراسياً مهماً بعد أن أنار مشاعله الراحل الباحث باتريك وولف (Patrick Wolfe)، في مؤلفاته العديدة، وفي مقدمها مقالته: "الاستعمار الاستيطاني وإبادة السكان الأصليين".[15] بعبارة أُخرى، فإن "المستعمر يريد الأرض ولا يريد أهلها"، ويعمل على أن يقضي عليهم بالقتل أو النفي أو المرض أو مسح الذاكرة، فهذا هو هدف الصهيونية الدائم.
المصادر:
[1]“Palestine and Transjordan Administration Reports 1918-1948”, vol. 13, 1945/6 (London, Archive, 1995), pp. 171-175.
[2]Salman Abu Sitta, Atlas of Palestine 1917-1966 (London: Palestine Land Society, 2010), part I, chapter 4, pp. 137- 138.
[3]Robert Pollitzer, Cholera, World Health Organization (WHO), 1959.
[4] "أثري يكشف تاريخ أقدم محجر صحي بسيناء في مؤتمر دولي"، "الدستور" (عمّان)، في الرابط الإلكتروني التالي: www.dostor.org/print.aspx?3066448
[5] حمزة العقرباوي، "تاريخ الحجر الصحي في فلسطين"، موقع "ألترا فلسطين"، في الرابط الإلكتروني التالي:https://tinyurl.com/tc2thy4
[6]Thomas Chaplin, “The Fevers of Jerusalem: Some Account of their Nature, Causes, and Treatment, as Observed in the Years 1861, 1862, and 1863”, The Lancet, vol. 84, issue 2141 (September 10, 1846), pp. 289-291, https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(02)68554-X/fulltext
[7]Vicken V. Kalbian, “Reflections on Malaria in Jerusalem”, Jerusalem Quarterly, issue 67 (Autumn 2016), pp. 82-96.
[8] المرجع رقم 52 في تقرير كالبيان، مأخوذ من "موسوعة الحرب العالمية الأولى" الصادرة عن الجامعة الحرة في برلين، في سنة 2014.
[9]Nadav Davidovitch and Zalman Greenberg, “Public Health, Culture, and Colonial Medicine: Smallpox and Variolation in Palestine during the British Mandate”, Public Health Reports, vol. 122, no. 3 (May–June 2007), pp. 398-406, https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC1847484/pdf/phr122000398.pdf
[10]Salman Abu Sitta, “Traces of Poison-Israel’s Dark History Revealed”, “Palestine Land Society”, http://www.plands.org/en/articles-speeches/articles/2003/traces-of-poison%E2%80%93israels-dark-history-revealed
[11] “The Nuclear Threat Initiative, Israel overview (Biological)”,
https://www.nti.org/learn/countries/israel/
[12] Sir Aly Tewfik Shousha, Pasha, M.D., “Cholera Epidemic in Egypt (1947): A Preliminary Report”, World Health Organization (WHO) Report, https://apps.who.int/iris/bitstream/handle/10665/266082/PMC2553924.pdf?sequence=1&isAllowed=y
[13]Abu Sitta, “Traces of Poison…”, op. cit.
[14] S. C. Molavi & Eyal Weizman, “The Viral Emergency in Palestine”, “Verso Books”,
https://www.versobooks.com/blogs/4674-the-viral-emergency-in-palestine
[15]Patrick Wolfe, “Settler Colonialism and the Elimination of the Native”, Journal of Genocidal Research, vol. 8, issue 4 (December 2006), pp. 387-409.