أولاً: العقيدة الأمنية الإسرائيلية
يتفق كثير من الباحثين على الحداثة النسبية للدراسات المتعلقة بظاهرة «الأمن القومي» كظاهرة علمية ومستوى للتحليل. فقد قامت تلك الدراسات بالتزامن مع الأوضاع السياسية والعسكرية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وتوالي التغييرات في هيكل النظام الدولي ومستوى القوة في قيادته. بيد أن الاهتمام الفكري والعلمي بتلك الظاهرة ارتبط بظاهرة العنف على المستويين الدولي والقومي، لدى الدول التي تمارس وتتعامل أكثر مع مفهوم العنف، كإسرائيل التي وضعت مسألة الأمن في قمة أولوياتها، وبلورت استراتيجيا متكاملة لمفهوم أمنها القومي وتحديداً العسكري.
وعلى الرغم من حداثة الدراسات في موضوع «الأمن»، فإن المفاهيم المرتبطة به أصبحت محددة وواضحة إلى حد بعيد في فكر القيادات السياسية والأمنية وعقلها في كثير من الدول. وفي المقابل، أخذت تتسع اهتمامات بأبعاد أُخرى لمفهوم الأمن القومي جديدة غير عسكرية أكثر تعقيداً وبعيدة عن الفكر الواقعي المرتبط بمفهوم القوة، ليشمل كلاً من البعد الاقتصادي والبيئي والتكنولوجي وغيره.
يُعرّف الأمن القومي لأي دولة في العالم، بأنه قدرتها على الحفاظ على مصالحها والدفاع عنها. لكن تعريف الأمن القومي الإسرائيلي يكاد يكون شاذاً عن جميع تلك المفاهيم، إذ يعرّف دافيد بن – غوريون الأمن القومي الإسرائيلي بقوله: هو «الدفاع عن الوجود»، مرهوناً بالهاجس الأمني الذي يقوم على الفرضية القائلة بأن إسرائيل موجودة في حالة خطر كياني دائم. لذلك، فإن مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي يمتد ليشمل محاولة التأثير في خط التفاعلات الإقليمية التي تضمن منع أي تحديد لقدرات إسرائيل السياسية والجيوبوليتيكية، الأمر الذي يفرض احتكاكاً دائماً مع محيطها الإقليمي وفرض التعامل معها على أساس واقعي لا يمكن تغييره، وهو ما يضع إسرائيل أمام معضلات استراتيجية تتطلب استراتيجيا عسكرية فعالة، مثل الملف النووي الإيراني، والتموضع الإيراني في سورية، وتراكم قدرات حزب الله الصاروخية.
لا يوجد نموذج محدد لنظرية الأمن الإسرائيلي التي تتجاوب مع متطلبات الواقع الإسرائيلي، وإنما هناك تراكم بالتدريج لمبادئ وأسس الاستراتيجيا الأمنية المبنية على التجربة العسكرية منذ الاستيطان اليهودي في فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر، والتجربة التي اكتسبتها المنظمات العسكرية من خلال الحرب العالمية الثانية والنكبة، إضافة إلى المعطيات الجيوسياسية. وأيضاً، لا يوجد نص مكتوب وواضح ومتكامل لنظرية الأمن الإسرائيلي، إذ إن قسماً منها تم تداوله شفهياً، والقسم الآخر تمت كتابته على شكل قوانين سنها البرلمان الإسرائيلي، وقرارات صادرة عن حكومات إسرائيل المتعاقبة، وكذلك على شكل تعليمات من قيادات عسكرية بارزة في الجيش وأوامر هيئة الأركان العليا، إضافة إلى كتب وكتيبات إرشاد صادرة عن أذرع الجيش الإسرائيلي. بهذا، فإن الأسس الاستراتيجية، الأمنية والعلمية والتنظيمية، كما هي موجودة في هذه المصادر، تُكوّن نظرية الأمن لإسرائيل التي كانت وما زالت فعالة حتى المرحلة الراهنة.
ما زال المفهوم الأمني يؤسس على جعل الدول العربية تقبل بوجود الدولة اليهودية. وفي الأساس، كانت إسرائيل التي تصوّرها بن – غوريون دولة تسعى لفترات طويلة من الهدوء، ولتجنب المواجهات العسكرية قدر الإمكان. لكن عليها، إذا دعت الحاجة، أن تحقق نصراً سريعاً بسبب صغر حجمها ومحدودية مواردها البشرية. وعلى هذا الأساس وُضعت مرتكزات العقيدة الأمنية، وأهمها:
أولاً: تعزيز قوة الردع.
ثانياً: نقل المعركة في أقرب وقت ممكن إلى أرض العدو وإنهاؤها بسرعة.
ثالثاً: تدمير قوات العدو العسكرية ومعداته.
رابعاً: «هجوم استباقي» أو «حرب خاطفة وقائية» في حال التأكد من خطر وشيك.
خامساً: سلاح نووي كخيار أخير.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية، جرى اعتماد مبدأين. كان الأول منهما فكرة «جيش الشعب» الذي يمكن تعبئته بسرعة، وهو يتكوّن أساساً من المجندين في الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياط. وهو جيش نظامي محترف صغير وقوات احتياط كبيرة وقوات جوية متقدمة، وتفوقه على الأسلحة الجوية العربية مجتمعة، وأجهزة استخبارات عالية الكفاءة. والمبدأ الثاني أصبح يُعرف بـ «المثلث الأمني» الذي ترتكز عليه العقيدة الأمنية: الردع والإنذار المبكر والانتصار العسكري الحاسم. كذلك إدراك أن واقع انعدام التماثل في القدرات الاقتصادية والديموغرافية بين إسرائيل والدول العربية المعادية لا يسمح للأولى بإحراز انتصار نهائي. وتمت إضافة ركيزة رابعة إلى الثالوث الأمني الإسرائيلي، هي الدفاع (بمفهوم الحماية)، الذي يُعنى أساساً ببلورة آليات فعالة لحماية الجبهة الداخلية من الصواريخ المعادية، الأمر الذي أحست به إسرائيل بعد الحرب على لبنان سنة 2006.
وفي العقدين الأخيرين، أصبح هناك إدراك ووعي، وخصوصاً لدى المؤسسات البحثية لضرورة إجراء تعديل جوهري على العقيدة الأمنية، نتيجة تراكم المتغيرات والمستجدات في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل. إلاّ إننا لم نشهد أي قراءة رسمية تشير إلى أي تغيير أو تحديث جوهري في العقيدة الأمنية الإسرائيلية. وطالما أن إسرائيل لا تملك رؤيا سياسية مستقبلية، فإن الذهنية الأمنية والعسكرية ستبقى هي المسيطرة، وتبقى التغييرات الأساسية ترتكز في المجال العملاني العسكري (الاستراتيجيا العسكرية) وفقاً للمحيط الاستراتيجي القائم.
وفي المقابل، توصي المؤسسات البحثية بإدراج أربعة عناصر جديدة تضاف إلى العقيدة الأمنية هي: الإحباط والمنع؛ التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية؛ التحالفات الإقليمية؛ التأقلم.
عنصر الإحباط والمنع في السياسة التي تنتهجها إسرائيل عملياً منذ سنوات، قوامه استخدام الوسائل التي في حيازتها من أجل إجهاض التهديدات غير التقليدية ضدها، مثل: استهداف العلماء الإيرانيين، واستهداف قوافل الصواريخ إلى حزب الله، وهجمات على دير الزور سنة 2007 مستهدفة مفاعلها النووي.
ويشدد الخبراء على أهمية إعطاء العلاقات الاستراتيجية الاستثنائية مع الولايات المتحدة الأولوية لتنمية هذه العلاقات بأكبر قدر ممكن، من أجل ضمان التفوق العسكري المطلق والنوعي على كل الدول الإقليمية، وكذلك ضمان هذا الذخر السياسي والأمني الأكثر أهمية بالنسبة إلى إسرائيل على الساحة الدولية.
وفيما يتعلق بالتحالفات الإقليمية، ينبغي لإسرائيل أن تدفع في اتجاه بلورة تحالفات رسمية وغير رسمية، مع السعودية ودول الخليج، والعلاقات بدول شرق أفريقيا، وفي مقدمها إثيوبيا وكينيا وجنوب السودان وأوغندا، ودول الحوض الشرقي للمتوسط، ومنها قبرص واليونان ودول البلقان.
أمّا العنصر الرابع المتعلق بالتأقلم، فكانت بلورته في ضوء الأزمات التي شهدتها الدول العربية منذ سنة 2011، إذ إن التحولات المتواترة والمتطرفة في المنطقة توجب تطوير آليات ووسائل لصناعة القرار خلال مدة زمنية قصيرة تسمح بتقليص الأضرار على إسرائيل، ولا سيما عند فشل أجهزة الاستخبارات في استشراف الزلزال الذي شهده المشهد الإقليمي.
مبدأ الردع وحدود القوة
يُنظر إلى الردع كمركب من مركبات العقيدة الأمنية للدول، وهو يهدف في حده الأدنى إلى المحافظة على الوضع الاستراتيجي القائم وعدم تحوله إلى بيئة معادية تستلزم تفعيل القوة العسكرية، بينما يصل في حده الأعلى إلى فرض الإرادة السياسية على الخصم من دون حروب. ومن هنا، يتأتى تفسير مدى تمسك العقيدة الأمنية الإسرائيلية بمبدأ الردع، كمكوّن أساسي لها، لتحقيق أهداف إسرائيل أو المحافظة على وجودها ومصالحها، سواء من ناحية دفاعية أو هجومية.
استخدمت إسرائيل مفهوم الردع على مدى طويل، وساعدها في تحقيق أهدافها في أغلبية معاركها ضد الدول العربية. لذا، هي تفضل نوعين من أنواع الردع المتعددة، وتحديداً «الردع بالمنع» و«الردع بالعقاب»، ولكل منهما مهمة عينية تتحدد بحسب الظروف الموضوعية وقدرات الخصم.
وتتحرك إسرائيل، وواضعو السياسة الأمنية فيها، في فهم وتقدير سلوك خصومها، مستندة إلى الافتراض القائم على أن السمة الأساسية لتحرك الخصم ليست إلاّ عبارة عن استجابة منه للفرص والقيود التي توفرها البيئة الاستراتيجية المحيطة به، وكيفية رؤيته لها، إضافة إلى توفر عاملي التحفيز والقدرة لديه. وبالتالي، كرد على ذلك، فإن وظيفة السلوك الإسرائيلي الأمني والسياسي، هي في إبقاء القيود قائمة وتعزيزها منعاً لشن حرب أو أعمال عدائية ضدها، إضافة إلى إبعاد الفرص عن متناول أيدي أعدائها. وهذا المطلب يتحقق من خلال قدرة الردع التي تملكها إسرائيل وتظهرها لعدوها وتسقطها على وعيه، وهو ما يجسد للخصم عدم قدرته على إلحاق الضرر بإسرائيل فعلياً «الردع بالمنع»، أو أن ما سيقوم به لن يجلب له منفعة، وإنما عوائد تزيد في الضرر والخسائر التي ستلحق به.
من ناحية نظرية ثانية، يعاني الردع الإسرائيلي جراء حالة التآكل المتراكم قبل الحرب والمتعاظم بعدها. لكن مشكلة إسرائيل كدولة عدوانية في محيط معاد لها ويراها غريبة عنه، أنها تريد تفعيل مبدأ الردع تجاه خصوم مشبعين بالتحفيز أساساً، سواء أكانت لديهم قدرة أم لا، أي أنهم لا يحتاجون إلى قدرات خاصة كي توجد لديهم الدافعية، الأمر الذي يزيد العبء على مفهوم الردع في المفهوم الإسرائيلي ليتجاوز إمكاناته، أو يحمّل الردع الإسرائيلي مطالب غير عادية.
وإذا كان الردع مفهوماً قيمياً يخاطب الجيش والشعب ومتخذي القرارات في إسرائيل، إضافة إلى العدو بما يشمل، تحديداً، حزب الله وسورية وإيران والفلسطينيين، فإنه يشمل أيضاً الصورة التي تحتلها إسرائيل في الولايات المتحدة، كدولة عظمى راعية لها، باعتبار أن إسرائيل عنصر فاعل ومفعل للسياسات الأمنية الأميركية التي لا يمكن للولايات المتحدة أن تخوضها مباشرة.
المفهوم الاستراتيجي الإسرائيلي
لامتلاكها السلاح النووي
في العقد الأخير، تلاشى النقاش في المحافل الدولية والعربية في شأن امتلاك إسرائيل القنبلة الذرية، وخصوصاً بعد تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، التي أنهت حالة الضبابية عن امتلاك إسرائيل السلاح النووي. ولعل سنة 2006، هي المؤشر الحاسم إلى انتقال إسرائيل من اتباع «الضبابية» بشأن امتلاكها السلاح النووي إلى الردع النووي العلني، حين أقر رئيس الحكومة آنذاك، إيهود أولمرت، لأول مرة، بأن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية في خضم مقابلة لقناة سات1 الألمانية، إذ قال: «إن إسرائيل دولة ديمقراطية تملك سلاحاً نووياً ولا تهدد أي بلد بأي شيء ولم تفعل ذلك قط.... أمّا إيران فهي تهدد صراحة وعلناً بمحو إسرائيل عن الخريطة. هل يمكنكم أن تقولوا إن الأمرين متساويان عندما يتطلع الإيرانيون إلى امتلاك أسلحة نووية، مثل أميركا وفرنسا وإسرائيل وروسيا.»
ومما يؤكد الأمر هو إصرار إسرائيل على رفضها الالتزام بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة الذرية، وتهربها من توقيع اتفاق على عدم انتشار السلاح النووي في الشرق الأوسط. وفي المقابل، تجاهر إسرائيل برفضها القاطع لإمكان «توازن الردع النووي» في الشرق الأوسط المرافَق بتهديد علني لإيران وتهديد مبطن لكل محاولة عربية لتطوير قدرات نووية، مثل مصر والسعودية.
لم تتبدل الاستراتيجيا النووية الإسرائيلية، وما زال هناك إجماع عام إسرائيلي يُروجه المنظرون الاستراتيجيون في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية عن الفكرة الأساسية القائلة بأن الردع النووي يعزز أمن إسرائيل بواسطة ردع الدول العربية عن وضع تحديات استراتيجية قد تهدد كيان إسرائيل، ويفرض وجودها على العالم العربي كحقيقة قائمة في الشرق الأوسط. وما زالت الاستراتيجيا العسكرية تتذرع، بضرورة الحفاظ على امتلاك واحتكار السلاح النووي في الشرق الأوسط، بالحجج التالية: أولاً، إن موارد العرب وإيران الاقتصادية والبشرية تجعل قدرتهما على استيعاب الأسلحة التقليدية غير محدودة، بعكس إسرائيل ذات القدرة المحدودة في هذين المجالين. ثانياً، لا يمكن التنبؤ بموعد حدوث خلل في ميزان القوة. ثالثاً: اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة في التزود بالأسلحة التقليدية، يجعلها عرضة لضغوط سياسية قد تضطرها إلى التخلي عن أهداف حيوية في نظرها، والسلاح النووي يعطيها استقلالاً أكبر في اتخاذ القرارات وفي بلوغ تلك الأهداف.
لكن، هذه الاستراتيجيا فشلت في التعامل مع ما يسمى «الملف النووي الإيراني» وتفاعلاته على المستوى الدولي والإقليمي، وبيّنت مدى محدودية فاعلية الردع النووي الإسرائيلي وتأثيره في الموقف الإيراني والدولي. بل إن الردع النووي الإسرائيلي، الضبابي والعلني، لم يؤثر في الموقف الإيراني بما يتعلق بالاستمرار في مشروعها النووي، على الأقل في المرحلة الراهنة.
ثانياً: الاستراتيجيا العسكرية الإسرائيلية
تُعرّف الاستراتيجيا العسكرية بأنها فن استخدام القوات المسلحة ووسائط الدولة كلها في الحرب، وهي جملة معارف علمية عن قوانين الحرب كصراع مسلح من أجل مصالح وطنية أو قومية، وتنسق أعمالها وتوحّد جهودها لبلوغ الهدف السياسي العسكري الموحد. وترتبط الاستراتيجيا العسكرية ارتباطاً وثيقاً بفن العمليات والتكتيك العسكري. وتحدد العقيدة العسكرية للاستراتيجيا العسكرية الأسس والمبادئ العامة التي يجب أن تسير عليها، وخصوصاً الموضوعات التفصيلية المتعلقة بطبيعة الحرب المقبلة وتنظيم الوحدات العسكرية وطرق إدارة الحرب.
بنت إسرائيل استراتيجيتها العسكرية بالاعتماد على إدراك دقيق لإمكانات الدول العربية المواجهة لها، وأهمها: العامل البشري، والتفوق السكاني العددي، والقاعدة الاقتصادية للدول العربية، واتساع الرقعة الجغرافية والسياسية لهذه البلاد، الأمر الذي يحقق لها عمقاً استراتيجياً ومرونة واسعة في العمليات العسكرية، وهو ما يمدها بالقدرة على تحمل حرب طويلة الأمد، لا تستطيع إسرائيل تحمّلها بسبب إمكاناتها البشرية والاقتصادية والجغرافية المحدودة، في الوقت نفسه الذي تعتمد إسرائيل على التنسيق والتعاون العسكري مع الولايات المتحدة. ولذلك فإن إسرائيل، نظراً إلى وضعها الجغرافي – السياسي، وإلى كونها داخل رقعة إقليمية تهدد وجودها لتماسها الحدودي مع أعدائها المباشرين (الدول العربية)، صاغت استراتيجيتها العسكرية على أساس الحرص على الحسم في كل مواجهة مع الدول العربية، ونقل المعركة إلى عمق أرض العدو، لأن هزيمة إسرائيل في معركة أو حرب تعني تهديداً وجودياً وكيانياً.
إذاً، يقوم جوهر الاستراتيجيا العسكرية الإسرائيلية على المحافظة على القوة في أعلى درجاتها، وأن المسائل المتعلقة بمحيطها الإقليمي لا يمكن حلها إلاّ عن طريق التفوق النوعي، وعليها أن تتبنّى مبدأ «الهجوم الفعال» أو «الضربات الاستباقية».
الخطة الخمسية – «تيفن 2012»
ما زالت الخطة الخمسية المعروفة بخطة «تيفن 2012» تشكل أساس الاستراتيجيا العسكرية في العقد الأخير التي تتمحور حول أهمية وضرورة تطوير القوات المسلحة الإسرائيلية فيما يتعلق بقواتها البرية في إطار الدروس والعِبر التي أسفرت عنها الحرب على لبنان في تموز / يوليو 2006، وانعكست في تقرير لجنة فينوغراد عن أوجه التقصير التي كشفت عنها هذه الحرب، وخصوصاً في مجال عمل القوات البرية وأدائها، وأيضاً في ضوء الدروس والخبرات المكتسبة من الحروب الإقليمية الدائرة في العراق وأفغانستان ومع المقاومة الفلسطينية، وما حدث من تطويرات تقنية متسارعة في أنظمة التسليح والمعدات الحربية على الصعيد العالمي، ولا سيما في الولايات المتحدة وروسيا خلال السنوات القليلة الماضية.
أقر رئيس الأركان الجنرال السابق، غابي أشكنازي، خطة «تيفن 2012» ليؤكد بها إيلاء القيادة العسكرية القوات البرية أهمية قصوى من خلال تخصيص موازنات هائلة لمشترياتها، أعلى من تلك المخصصة لسلاح الجو الذي حظي في السنوات الأخيرة بحصة الأسد من الموازنة. كما أوصت الخطة بوقف تهميش القوات البرية ووجوب العودة إلى التركيز على أسلحتها من المشاة والمدرعات. كذلك اقتضت الخطة الخمسية زيادة القوات المدرعة بحجم فرقتين وتحسين نجاعة الدروع، إلاّ إنها لم تقلل من حق سلاحي الجو والبحر اللذين سيتزودان بمشتريات جديدة توفرت أموالها من ارتفاع الدعم العسكري الأميركي من 2,4 مليار دولار إلى أكثر من 3 مليارات دولار سنوياً. فقد بدأ من سنة 2014 تزويد سلاح الطيران بـ 50 مقاتلة أميركية جديدة من طراز F-35 تطورها شركة لوكهيد مارتن وثمن كل منها 50 مليون دولار، وهي قادرة على الإفلات من الرادارات، هذا إلى جانب تطوير الطائرات من دون طيار وتحسينها.
ووفق الخطة، بدأ تزويد الجيش الإسرائيلي بالمدرعات الثقيلة، أهمها تزويد التشكيلات المدرعة والميكانيكية بدبابات ميركافا 4 المتطورة، وكذلك بناقلات جند مدرعة من طراز نمر مزودة بأجهزة استشعار إلكترونية من طراز تروفي (Trophy) للحماية الفعالة ضد الصواريخ المضادة للدبابات والتشويش عليها وتجنبها، كما تعطي إنذاراً باقتراب الصاروخ المضاد للدبابات المعادية. هذا إلى جانب تزويد هذه المركبات القتالية بدروع تمت تقويتها وأُطلق عليها اسم «شوبهام» أو «ارتجاعية»، في إطار تحييد الصواريخ المضادة للدبابات المتطورة (وخصوصاً «كورينت At-14» الروسية)، وتأمين استمرار فاعلية قوة الصدمة التي تتمتع بها القوات المدرعة، إضافة إلى إدخال منظومات دفاعية ناجحة في اعتراض الصواريخ من الأنواع كافة، أي أرض / أرض، والصواريخ المضادة للدبابات.
من هنا، جاء تركيز الخطة الخمسية على الدور البارز الذي ستؤديه القوات البرية، وخصوصاً المدرعة والمشاة والقوات الخاصة، في الحرب المقبلة. وعلى الرغم من أنه لن يكون هناك دور للقوات البرية في العمليات العسكرية المتوقعة ضد إيران، بحيث ستقوم القوات الجوية الإسرائيلية بالدور الرئيسي فيها، فإن القوات البرية استفادت من دروس حرب لبنان الأخيرة، وستؤدي دوراً بارزاً ورئيسياً في أي عمليات عسكرية مقبلة ضد سورية وحزب الله في لبنان، وسيعتمد أساساً على نقل المعركة إلى أراضي الخصم من خلال العودة إلى أساليب الاختراق العميق وعمليات الالتفاف والتطويق، وإلى العمل الذي تقوم به أساساً القوات المدرعة بالاشتراك مع قوات الجو في إطار ما يسمى الحرب الجو برية والتي يتم فيها التعامل مع جميع أهداف الخصم في المواجهة أو العمق والجوانب في وقت واحد.
أمّا بالنسبة إلى القوات البحرية الإسرائيلية، فتم تعزيزها في السنوات الأخيرة بعدد من السفن الحربية من طراز «ساعر» مجهزة بأنظمة نيران هجومية ودفاعية متطورة، فضلاً عن غواصتي دولفين، الأمر الذي سيمنح القوات البحرية قدرة على العمل في المياه العميقة وتوجيه ضربات صاروخية بواسطة صواريخ كروز نووية تكتية ضد أهداف إيرانية من خليج عُمان، إضافة إلى إحكام الحصار على السواحل السورية ومنع وصول إمدادات بحرية إلى حزب الله في لبنان.
الوثيقة العسكرية في سنة 2018
في إطار المواكبة الدائمة التي يوليها الجيش الإسرائيلي للمتغيرات في البيئة الإقليمية والدولية، والتي تتطلب رؤيا متجددة وتجديداً مستمراً لاستراتيجيته العسكرية، فقد نشرت رئاسة هيئة الأركان الإسرائيلية وثيقة عسكرية جديدة عن استراتيجيا الجيش الإسرائيلي في سنة 2018. وهذه الوثيقة هي أقرب ما تكون إلى إعادة صوغ العقيدة الأمنية والعسكرية لدولة إسرائيل، وهي نسخة محدثة عن الوثيقة المنشورة سنة 2015 تحت عنوان «الخطة متعددة السنوات». وتتناول هذه الوثيقة قضايا حساسة، أبرزها مفهوم الأمن وغايات الجيش في الحرب، كما تتضمن ما يوصف بالأهداف القومية ومبادئ نظرية الأمن ووصف بيئة العمل الخاصة بالجيش، وكذلك كيفية استخدام القوة ونجاعة القيادة والسيطرة وتنظيم الجيش الإسرائيلي للمعركة من خلال تحديد مهمات القيادة العامة ومهمات القيادات الرئيسية وتحديد القدرات المطلوبة.
في الإطار الفكري العام للوثيقة، أكدت مجدداً أهم مبادئ نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، وهي:
أولاً: الاعتماد على استراتيجيا أمنية دفاعية، هدفها ضمان وجود إسرائيل وخلق ردع ناجح، وتقليص التهديدات عند الحاجة، وتأجيل المواجهات.
ثانياً: نظرية عسكرية هجومية من أجل فرض الإرادة على العدو.
ثالثاً: ضرورة نقل المعركة إلى مناطق الطرف الآخر في كل جوانبها (البرية والجوية والبحرية والمعلوماتية)، وإدارة المعركة هناك.
رابعاً: تعزيز استراتيجيا إسرائيل التي تسعى لتطوير الأوضاع الاستراتيجية للمعركة المستقبلية، والتشويش على الأوضاع الخاصة بالعدو، والتأثير في موازين القوى في المنطقة، والعمل على تحقيق الواقع الأمني المطلوب من خلال تفوقها العسكري.
التجديدات والتعديلات الأساسية
أشارت الوثيقة المحدثة بوضوح إلى أن أهداف الجيش من استخدام القوة العسكرية لا تقتصر على القضاء على التهديدات العسكرية المباشرة العينية، مثل «حماس» وحزب الله، بل تشمل أيضاً العمل على تقوية تأثير إسرائيل في الساحتين الدولية والإقليمية، وذلك في إشارة واضحة إلى عمليات الجيش في سورية ولبنان كمثال، والهادفة إلى محاولة امتلاك إسرائيل أوراقاً تمكنها من التأثير في أي مشهد إقليمي مستقبلي، ولا سيما عدم ترك الساحة للمحور الثلاثي الذي يضم روسيا وتركيا وإيران.
أمّا التعديل الجديد الثاني فيشمل التشديد على أهمية العمليات العسكرية في إطار استراتيجيا عسكرية هي «المعركة بين الحروب» التي تشمل توجيه ضربات محدودة إلى المنظمات والكيانات المعادية، كحزب الله و«حماس» وغيرهما، لمنع تعاظمها بين الفترة والأُخرى، والتشجيع على القيام بعمليات اقتحامية للجيش الإسرائيلي على غرار عملية عنتيبي. لذلك جرى إنشاء لواء الكومندو، اللواء رقم 89، والذي أجرى عدة تدريبات خارج البلد، ليحاكي أوضاعاً مناخية مشابهة لبلاد العدو – مثل اليونان وقبرص – والتدرب كذلك على إمداد القوات بالدعم اللوجستي الضروري في المناطق الغريبة والبعيدة.
كما تضمنت الوثيقة تحديثاً ثالثاً مهماً هو تأكيد أن صورة وشكل تفعيل القوة العسكرية يجب أن يتضمن الدمج بين نهج الحسم في المعركة ونهج المنع والإحباط والتأثير، أي منع وقوع المواجهة قدر الإمكان من خلال الردع. وكان من التعديلات على استراتيجيا الجيش، التوجه إلى التركيز على القوة العسكرية، والضرب بالعمق، من خلال الاعتماد على المعلومات الاستخباراتية الدقيقة، وحرب خاطفة وسريعة، وفترتها الزمنية أقل من فترة أي حرب سابقة مع انتصار ساحق وواضح على العدو، مع التركيز على الضربة المكثفة لقواعده، وأن يعمل الجيش على فرض شروط إنهاء القتال ضد العدو، من خلال قوة النيران وفي زمن قصير.
الفكر العسكري العملاني في الوثيقة العسكرية:
أزمة سلاح البر في الاستراتيجيا العسكرية
إن أزمة سلاح البر في الاستراتيجيا الجديدة، والناتجة من التحولات والتغييرات في نمط الحرب الجديدة، ولا سيما في ظل النقاش في شأن إعادة الاعتبار إلى القوات البرية، وفق العِبرة الأميركية التي تقول، بحسب تجربة أفغانستان، هي عدم إمكان حسم المواجهة أو الحرب من دون تدخل القوات البرية والتوغل في عمق ميدان العدو. وهذا الدور يتطلب تحسين أداء القوات البرية وتحديثها في المواجهات العسكرية، بعدما تغيرت ميادين القتال، وتمكّن العدو الحالي، حركة «حماس» وحزب الله من إبطال كثير من فاعلية الجيوش البرية الإسرائيلية بفعل توزيع نقاط الانتشار لقواتهما على مساحة واسعة من أرض لبنان وغزة، إذ لم تعد هذه الجيوش قادرة على توغل بري يستطيع شل قدرة العدو، أو إبطال قدرته الصاروخية، ومنع استمرار المواجهة وضرب العمق الإسرائيلي.
أمّا فيما يتعلق بدور القوات الجوية، فتأخذ الوثيقة، بعين الاعتبار جميع التغييرات الاستراتيجية والإقليمية المتعلقة بقدرات وقوة مصادر التهديد، مثل غياب خطر الجيوش النظامية في مقابل صعود خطر المنظمات شبه الدولانية التي تملك تنظيمات تقترب من الجيوش النظامية، والتغييرات في طبيعة الحروب في الواقع الجديد. وبالتالي، فإن إسرائيل، بسبب جملة هذه التهديدات إلى جانب «ضيق مساحتها» تحتاج إلى قوة قادرة على القتال من ساحة إلى أُخرى، وهذا ما يميز سلاح الجو الإسرائيلي، فضلاً عن التفوق النسبي الواضح لهذا السلاح نتيجة امتلاكه أفضل التكنولوجيا والتقنيات الحربية الحديثة والمتطورة.
إلاّ إنه، إلى جانب تفوق سلاح الجو الإسرائيلي، وفي ظل تراجع وتآكل الجيوش التقليدية، فإن الخصوم اليوم، أي «حماس» وحزب الله، استثمروا بصورة خاصة في منظومات دفاعية ومنظومات هجومية، أي الترسانة الصاروخية، وهو ما أسفر في العقد الأخير عملياً عن ارتفاع ملموس وجدي في التهديدات التقليدية في مجال الحرب الصاروخية، الأمر الذي يجعل تفضيل القوة الجوية على المناورة البرية.
«الحرب على الوعي»:
استراتيجيا عسكرية جديدة
أهمية الحرب على الوعي، وهي ليست مسألة جديدة، إنما جزء من تاريخ حروب العصور القديمة، تعود إلى تعزيز الروح القتالية في قمع العدو من جهة، كما إلى تداخل المعركة العسكرية مع عمليات تهدف إلى التأثير في عقل العدو من جهة أُخرى.
تتيح التقنيات التكنولوجية المتطورة الموجهة إلى جماهير مستهدفة متعددة، خلق ساحة أُخرى للمعركة، فضلاً عن المعركة العسكرية التقليدية، إذ تجد الجيوش والدول نفسها، في مواجهة جهود العدو عبر استغلال الفضاء التكنولوجي والشبكات الاجتماعية لتحقيق الإنجازات. وهذا يسرع التأثير في الجمهور المستهدف من العدو، بمن فيهم صناع القرار والقادة والمقاتلون، وكذلك الرأي العام المحلي والدولي.
لذا، كثف الجيش الإسرائيلي في السنوات الأخيرة نشاطه على الجانب النفسي، فيما يسميه «الحرب على الوعي»، كجزء من السعي لـ «تطوير الوعي وبناء الإمكانات التنظيمية التي تدعم رؤية الجيش»، وفق تقرير نشره معهد أبحاث الأمن القومي. وأوضح التقرير أن خطة الجيش تشمل وضع مفهوم شن حملات على الوعي لدى الجانب غير الإسرائيلي، وتطوير الأدوات التكنولوجية، وتدريب الأفراد الملائمين، وبناء الأطر التنظيمية التي تدعم هذا المفهوم، بهدف توجيه رسالة مباشرة إلى المجتمعات المستهدفة في الدول المعادية، بما في ذلك الخطاب نحو ما سماه التقرير «العناصر الإرهابية في الشبكات الاجتماعية».
يمكن تقسيم الحرب على الوعي إلى ثلاث فئات: أولها، «عمليات سرية للوعي»، بحيث لا يكون الهدف على دراية بوجود جهد «حربي على الوعي» يجري ضده؛ ثانيها، «الدعاية الكاذبة»؛ ثالثها، «شن حملات ضد الوعي»، من خلال الإعلانات والرسائل. وعلى سبيل المثال، نلحظ أن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، والمسؤول عن الشبكات الاجتماعية في العالم العربي، يسعى للوصول إلى مختلف الفئات المستهدفة في الدول العربية، عن طريق طرح تساؤلات وأمور جدلية أمام الجمهور العربي، مثل، جدلية «شباب لبنان للموت في ساحة الحرب في سورية»، وجدلية الدور الإيراني الإقليمي، وعقيدة ولاية الفقيه.
ثالثاً: دور السلاح السيبراني في
حروب إسرائيل المستقبلية
أُسست سلطة الدفاع السيبراني القومي الإسرائيلي سنة 2016، تحت مسؤولية رئاسة الحكومة مباشرة، ووظيفتها الرئيسية هي إدارة جميع الجهود الدفاعية والعملانية في الفضاء السيبراني وتشغيلها وتنفيذها، كما تتطلب الحاجة على المستوى القومي، الأمر الذي يتيح الرد الدفاعي الكامل والدائم على الهجمات السيبرانية، بما في ذلك التعامل مع تهديدات الفضاء السيبراني والحوادث السيبرانية في وقت حقيقي، وصوغ تقدير للوضع الحالي، وجمع المعلومات الاستخباراتية والتدقيق فيها، والعمل مع المؤسسات ذات الاختصاص.
وبالتوازي مع ذلك، مرّ الجيش الإسرائيلي بتغيرات مفاهيمية وتنظيمية. ففي حزيران / يونيو 2015، قرر تأسيس فرع سيبراني مستقل يقود نشاطه الدفاعي والهجومي في الفضاء السيبراني، على أن يتولى الجيش الإسرائيلي المسؤولية عن قيادة الدفاع السيبراني للدولة في زمن الحرب. وكمرحلة أولية، أُسست شعبة سايبر كجزء من هيئة الأركان العامة، وأُنشئت فرقة دفاعية في قسم الاتصالات اللاسلكية، وأجريت تغييرات تنظيمية في سلاح الاستخبارات.
تطوير عقيدة للقتال السيبراني
في المعركة التقليدية
إن الهجمات السيبرانية يمكن أن تكون مفيدة كسلاح يُستخدم في الضربة الأولى، لأنها تتمتع بميزة المفاجأة، وهي مجهولة المصدر. وفي المقابل، في المواجهات التي تتدخل قوة عسكرية، فقد يجري استخدام الهجمات السيبرانية مرات معدودة من أجل تحقيق الهدف العسكري، سواء كعامل مساعد أو من أجل التمويه. وفي أغلبية الحالات تكون الهجمات المادية هي أسلوب العمل المفضل، كونها تشكل خياراً ذا صدقية وأكثر نجاعة.
وفي المقابل، يتمتع المهاجِم السيبراني اليوم، وفي المستقبل المنظور أيضاً، بأفضلية كبيرة على المُدافع، ذلك بأن على المدافع أن يدافع عن عدد كبير من المنشآت والثروات، ابتداء من الخطط القتالية ومنظومات الأسلحة، مروراً بمنظومات التحكم والمراقبة العسكرية، ومنظومات الاتصال العسكري، والبنى التحتية النظامية، والبنى التحتية الوطنية الحيوية، والمراكز التجارية ذات الأهمية الوطنية، مثل البنوك والبورصات، أي مجمل الجبهة الداخلية المدنية.
الدفاع الإسرائيلي في
عصر الحرب السيبرانية
شهدت الأعوام القليلة الأخيرة تحدياً تكنولوجياً جديداً، هو تحدي الحرب السيبرانية، الذي ازداد بحيث أصبح بين التهديدات الأكثر حساسية التي تواجه البنية التحتية الحيوية لإسرائيل في كلا القطاعين المدني والعسكري – الأمني. وتشير التقارير الأمنية إلى ضرورة النظر إلى شبكات الطاقة والمياه، والاتصالات والمواصلات، وكذلك إلى الاقتصاد الذي يعتمد اعتماداً كبيراً على أجهزة الكومبيوتر، على أنها جميعها عرضة للخطر. وعلى إسرائيل، كي تتمكّن من الرد على التهديدات الجديدة والمتطورة، أن تحسن عقيدتها الأمنية على أن تتضمن عنصراً جديداً هو تفوقها السيبراني بصفته جزءاً لا يتجزأ من قدراتها الدفاعية القومية، إذ تشكل القدرات السيبرانية المتقدمة وسيلة فعالة لردع أعداء إسرائيل. وكان من الأمثلة فيروس «ستكسنيت» (Stuxnet)، الذي يُعزى إلى عملية نفّذتها الولايات المتحدة وإسرائيل، جرى خلالها تعطيل أداء أجهزة الطرد المركزي التابعة للبرنامج النووي الإيراني.
في مقاربة إسرائيل التقليدية للأمن، فهي تستثمر كثيراً من الجهد في الاستخبارات والإنذار المبكر والردع بقصد تقليص الإنفاق على إبقاء حالة تأهب مستمرة. وفي هذا السياق، يجب التطرق إلى ثلاث مشكلات تكمن وراء أي هجوم سيبراني: الأولى هي مشكلة مصدر الهجوم، أي مَن أمر بالهجوم ومَن الذي شنه؟ والمشكلة الثانية هي في صعوبة تقرير نتائج الهجوم وتحديد مدى نجاحه. والمشكلة الثالثة هي الأدلة، إذ من الصعب في الغالب تحديد إذا الحادثة ناجمة عن خطأ تقني، أو هي نتيجة هجوم سيبراني.
في المرحلة الراهنة، تحتل الحكومة الإسرائيلية مركز الصدارة في استعمال التقنيات السيبرانية في مواجهة التهديدات التي تواجهها في جميع المجالات. وتستند الحرب السيبرانية إلى قدرات إسرائيلية مستقلة، تجمع بين الابتكار المحلي والتقنيات العالمية. كما أن المقاربات التي تتخذها إسرائيل تندمج في المتطلبات الثلاثة الأصلية الخاصة بمفهوم إسرائيل التقليدي بشأن الأمن القومي:
أولاً: الردع - يمكن للقدرات السيبرانية المتقدمة أن تكون وسيلة فعالة لردع أعداء إسرائيل. وكان أحد الأمثلة لذلك عملية ستكسنيت التي تنسب إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي تم فيها تعطيل أداء أجهزة الطرد المركزي التابعة لإيران.
ثانياً: الإنذار المبكر - إن التقنيات السيبرانية المتقدمة تجعل من الممكن جمع كميات كبيرة من المعلومات الدقيقة بشأن نيات الخصم وخططه المستقبلية. وتستطيع إسرائيل، باستعمال قدرات كهذه، أن تجمع معلومات كثيرة وعالية الجودة عن أعدائها، وأن تمنع من الوصول إلى قواعد البيانات الخاصة بها في الوقت نفسه. وهكذا، يمكن لأجهزة إسرائيل الأمنية أن تقدم للمؤسسة الدفاعية إنذارات فعالة بشأن نيات الخصم بغية اتخاذ التدابير الضرورية ضده في اللحظة الصحيحة.
ثالثاً: الانتصار العملاني الحاسم – يمكن للجيش الإسرائيلي، باستعمال أدواته السيبرانية المتقدمة، أن يكسب أفضلية في القتال تمكّنه من قلب الميزان لمصلحته. وعلى سبيل المثال، جرى تعطيل أجهزة الرادار السورية خلال الهجوم على المفاعل النووي السوري سنة 2007، والذي نُسب على نطاق واسع إلى إسرائيل، وذلك بواسطة رمز معادٍ يبدو أنه كان يبث إشارات عادية. وهذا ما مكّن سلاح الجو الإسرائيلي من اختراق المجال الجوي السوري من دون أن يُكتشف، واستهداف المجمّع النووي وتدميره بالكامل.
خلاصة القول، أن التهديدات السيبرانية اليوم هي النتيجة المباشرة للدور الحاسم الذي تقوم به الأنظمة المحوسبة في البنى التحتية القومية والحياة الحديثة. لقد تطورت أنظمة وقطاعات متعددة بصورة منفصلة وتجمعت في نهاية المطاف لتشكل شبكة سيبرانية في الغالب مدنية. وعندما اتضح أنه سيكون من الضروري التعامل مع النواحي الأمنية للمجال السيبراني، اضطر قادة إسرائيل إلى تخيل ما سيكون عليه ميدان القتال السيبراني في المستقبل ومتطلبات الانتصار فيه.
كما أن تطوير استراتيجيات الاشتباك والدفاع في الحرب السيبرانية ينسجم مع النواحي الأُخرى للوضع الإسرائيلي. فالحرب السيبرانية تمكن إسرائيل من شن عمليات ضد أهداف بعيدة من دون أن تجازف بأرواح مواطنيها وجنودها، ويشكل هذا هدفاً أساسياً لبلد صغير ذي موارد بشرية محدودة. كذلك إن عمليات من هذا النوع تمنح إسرائيل سمعة دولية، يمكن أن تساهم في اقتصاد البلد، إذ تتطلع الدول الأُخرى إلى إسرائيل من أجل الخبرة والتقنيات المتقدمة وتطبيقاتها.
رابعاً: الصناعات العسكرية الإسرائيلية
تُعتبر الصناعة العسكرية من أقدم فروع الصناعة في إسرائيل، وتطورت باستمرار حتى أصبحت الآن تضم أكثر من 50% من مجمل العاملين في الصناعة الإسرائيلية، وغدت إسرائيل من أهم الدول في العالم في مجال إنتاج الأسلحة وتصديرها، وتصل قدرتها في هذا المجال إلى مستويات تفوق الكثير من الدول الغربية.
بعد حرب 1973، حدث تغيير نوعي في صناعة الأسلحة، فبعد أن كانت هذه الصناعة تهتم بشكل أولي بتوفير الأسلحة للجيش الإسرائيلي، أصبحت بعد الحرب صناعة رئيسية تساهم مساهمة أساسية في حجم الصادرات الإسرائيلية، وتمكنت من تحقيق القفزة النوعية بواسطة المساعدات الأميركية الهائلة التي مكنتها من تخصيص موارد اقتصادية كبيرة للإنتاج الحربي، ومن الحصول على آخر تطورات التكنولوجيا الأميركية، كما أن سماح الولايات المتحدة الأميركية للصناعة العسكرية الإسرائيلية ببيع السلاح للجيش الأميركي، فتح أمامها أبواب التصدير إلى السوق الأميركية في البداية، وإلى أسواق دول حلف الناتو، وإلى أكثر من 60 دولة في العالم بعد ذلك. ومن اللافت، أن إسرائيل تُفضل إبرام صفقات بيع السلاح لدول كثيرة في أفريقيا وأميركا اللاتينية بشكل غير مباشر وبواسطة شركات خاصة تبلغ نحو 220 شركة في محاولة لإعفاء ذاتها من مسؤولية استخدام هذا السلاح في جرائم ضد البشرية في حال وقوعها.
ومنذ نهاية التسعينيات، بدأت صناعة الأسلحة تحتل مركزاً رئيسياً في تركيبة الاقتصاد الإسرائيلي، وتؤدي دوراً محورياً في رسم السياسات الإسرائيلية، سواء على صعيد التوجهات العسكرية، أو التوجهات الاقتصادية والعلاقات الدولية.
إن تحليل المراحل التي مرت بها الصادرات التسليحية الإسرائيلية حتى المرحلة الراهنة، اعتماداً على المراحل التي مرت بها الصناعة الحربية الإسرائيلية، يبيّن أن ثمة ثلاثة عوامل رئيسية وجهت السياسة الإسرائيلية في هذا المجال:
أولاً: العوامل العسكرية – الأمنية: تستخدم إسرائيل الصادرات التسليحية لتزويد كثير من الحركات الانقلابية والانفصالية بالسلاح في المناطق التي تكتنفها الأزمات والصراعات المسلحة، مثل: الثوار الأكراد في العراق ونزاعاتهم مع تركيا وسورية والعراق؛ داعش وجبهة النصرة وغيرها.
ثانياً: العوامل السياسية: تعقد إسرائيل صفقات تسليحية تشكل جزءاً من الجهود التي تبذلها لتوسيع نفوذها في دول دائرة مجالها الحيوي تمتد من باكستان وإيران شرقاً إلى الساحل المغربي على المحيط الأطلسي غرباً، ومن دول آسيا الوسطى شمالاً إلى وسط أفريقيا وجنوبها، ومن باب المندب على البحر الأحمر جنوباً.
ثالثاً: العوامل الاقتصادية: تشمل صفقات الأسلحة دعائم وركائز قوية لاقتصادها، ولا سيما في مجال التصدير. وقد ازداد حجم الصادرات العسكرية 50% في السنوات الخمس الأخيرة، وخصوصاً إلى دول الهند، وأذربيجان، وفيتنام.
أبرز الخطوط العامة التي تحكم
النشاط الإسرائيلي في مجال التسليح
أولاً: من المعروف أن إسرائيل ترتبط بالولايات المتحدة الأميركية باتفاقية للتعاون الاستراتيجي في مجال الدفاع منذ سنة 1979، وبتجديد هذه الاتفاقية مدة عشر سنوات أُخرى. وتعطي هذه الاتفاقية إسرائيل ومؤسساتها البحثية والصناعية وضعاً موازياً وشبيهاً بالوضع الذي تتمتع به دول حلف شمال الأطلسي في نقل التكنولوجيا الحديثة والمشاركة في برامج الأبحاث والدراسات ذات الطابع العسكري. ولقد استفادت إسرائيل كثيراً من هذه الاتفاقية في مجالات الحرب الإلكترونية، والذخيرة المتطورة، والصواريخ المضادة للدبابات بعيدة المدى، والرؤوس الباحثة عن الأهداف بالأشعة تحت الحمراء للصواريخ، وقنابل جو / أرض المتطورة (نظام أوفر للقنابل الموجهة بالأشعة تحت الحمراء).
ثانياً: التفوق الإسرائيلي على المستوى العالمي في تطوير وإنتاج أنواع كثيرة من: طائرة من دون طيار؛ القبة الحديدية.
ثالثاً: الاهتمام الإسرائيلي المكثف بالأشكال المتطورة والمتقدمة للرؤوس الحربية التقليدية، بدءاً بالرؤوس الحاملة للقنابل والمتفجرات والألغام، إلى رؤوس المفرقعات الارتجاجية عالية التدمير التي استُخدمت في الحروب الإسرائيلية على لبنان (2006)، وعلى غزة (2009، 2014)، وكان لها تأثير فعال في الأهداف الحصينة.
رابعاً: نجاح إسرائيل في تطوير صاروخها البالستي بعيد المدى «أريحا 2» الذي قد يصل مداه إلى 1450 كلم. ومن المؤكد أن إسرائيل تُعطي أولوية عالية لتطوير هذا النوع من الصواريخ لأداء مهمات الردع في العمق العربي.
خامساً: تحصل إسرائيل على الأجيال الحديثة من الذخيرة المتطورة لطائراتها المقاتلة، ويشمل ذلك الصواريخ الموجهة جو / جو، وجو / أرض، والقنابل الموجهة بالليزر والرادار والأشعة تحت الحمراء.
وإذا تناولنا ما يسمى منظومة الأسلحة الإسرائيلية فوق التقليدية، والمقصود بها الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، نجد أن إسرائيل بدأت بالاهتمام بهذه المنظومة منذ قيامها. وتشمل المنشآت الكيميائية الإسرائيلية عدة مصانع من أهمها: مصنع إنتاج الغازات الحربية في شرقي الناصرة؛ مصنع آسيا للكيميائيات في بيتح تكفا؛ مصنع مختئيم للكيميائيات والمبيدات الحشرية في تل أبيب؛ مصنع هايل للكيميائيات في حيفا.
التصدير العسكري الإسرائيلي
تُعتبر الصناعات الحربية الإسرائيلية إحدى دعائم الاقتصاد الإسرائيلي، إذ تشكل صادرات الأسلحة الإسرائيلية نسبة عالية منها تصل إلى أكثر من 25% من مجموع صادراتها، البالغ قيمتها نحو 85 مليار دولار. وطبقاً لبيانات معهد سيبري لأبحاث السلام في السويد، فإن إسرائيل تحتل المرتبة الثامنة بين الدول المصدرة للسلاح في العالم، إذ تأتى بعد الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا والصين والبرازيل.
تشكل الشركات الإسرائيلية نحو 3,1% من مجمل مبيعات الأسلحة في العالم في السنوات 2014 – 2018. وتشير البيانات إلى أن معظم صادرات إسرائيل من الأسلحة في سنة 2018 إلى آسيا والمحيط الهادئ، وهي منطقة يشار إليها، يقدر بنحو 46% من مبيعات المنتوجات الأمنية الإسرائيلية، و26% إلى أوروبا، و20% إلى أميركا الشمالية، و6% إلى أميركا اللاتينية، و1 – 2% إلى دول أفريقية.
وفي سنة 2018 وصل حجم الصادرات العسكرية إلى 7,5 مليارات دولار. ووفقاً لبيانات الصادرات الأمنية للسنة نفسها، لا تزال الصادرات الأمنية تُعتبر مرتفعة جداً مقارنة بالسنوات السابقة 2013 – 2017، وتعادل تقريباً حجم الصادرات الأمنية في سنة 2012، والذي بلغ آنذاك نحو 7,5 مليارات دولار.
قدر مسؤولو وزارة الأمن أن الصفقة الضخمة في السنوات الأخيرة هي قيام قطاع الصناعات الجوية الإسرائيلية بتصدير صواريخ دفاعية من نوع براك إلى الهند في سنة 2017، وصلت قيمتها إلى 2,5 مليار دولار.
في السنوات الخمس الأخيرة، تُعتبر الهند من أكبر المستوردين للصناعات العسكرية الإسرائيلية، ولا سيما الصناعات الجوية، كالصواريخ والمقاتلات والطائرات من دون طيار، والمنظومات التكنولوجية المتطورة التي تصنعها شركتا ألفيت ورفائيل. وقد أبرمت إسرائيل في سنة 2018 أكبر صفقة لبيع الأسلحة للهند بقيمة مليارَي دولار. ومن اللافت، أن الصادرات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية ليست مقصورة على بيع أسلحة قتالية للجيش ووزارة الدفاع في الهند، بل إلى جهاز الشرطة وسلطات الإنقاذ الهندية اللذين يُعتبران من أكبر زبائن الصناعات الإسرائيلية أيضاً، وخصوصاً حرس الحدود وخفر السواحل.
يشير التقرير إلى أن المعطيات الرسمية لوزارة الأمن الإسرائيلية تؤكد أن الهند وإسرائيل عقدتا، خلال سنة 2016، صفقات بلغت قيمتها الإجمالية 6,5 مليارات دولار، أي أن هذه الصادرات سجلت ارتفاعاً بنسبة 14% مقارنة بسنة 2015.
اتجاهات التصدير العسكري الإسرائيلي
تعمل إسرائيل بوضوح على تصدير المعدات التكنولوجية المتقدمة، وأغلبيتها ذات أصل أميركي، وتركز على مناطق النزاع والتوتر التي تخدم مصالحها، وهكذا كان رادار فالكون للإنذار المبكر والمحمول جواً أحد أهم صادراتها إلى الهند والصين على السواء، هذا بالإضافة إلى تصدير طائرات من دون طيار، من طراز شماوت وهانتر وماستيف، إلى عدة دول في العالم، وأنظمة صواريخ آرو أو حيتس المضادة للصواريخ، والتي تعاقدت على اقتنائها دول كالهند وتركيا، كما تعمل على تصدير تكنولوجيا الأقمار الصناعية التجسسية أوفيك، والذخائر الذكية وزوارق الصواريخ ريشيف، وتقوم بتطوير المقاتلات الهندية ذات الأصل الروسي ميغ – 21 وتُحدّثها بأنظمة توجيه رادارات وأنظمة اتصالات إسرائيلية، وتُحدّث أيضاً المقاتلات التركية ف – 4، والدبابات التركية م – 60أ أميركية الأصل.
وفق معطيات قسم التصدير الأمني في وزارة الأمن الإسرائيلية، فإن أغلبية الصادرات الحربية من الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي تبلغ 31%، والصادرات الحربية، أي طائرات من دون طيار 15%، وأنظمة رادارية وتقنيات إلكترونية 17%، وإلكترونيات للمركبات المسيرة وإلكترونيات فضائية 14%، وذخيرة وأسلحة 9%، وأنظمة اتصالات 9%، وأنظمة مراقبة 8%، وأنظمة استخباراتية ومعلومات وسيبرانية 5%، وغيرها.
وطبقاً للاتفاق الاستراتيجي المعقود بين إسرائيل والولايات المتحدة، فإن إسرائيل تقوم بصنع قطع غيار لأنواع معينة من المقاتلات الأميركية، بالإضافة إلى أنظمة دروع من طراز بلايزر، وألغام مضادة للدروع والأفراد، وأجهزة لكسح الألغام، ومعدات اتصال وإشارة ميدانية، ورشاشات، وطائرات من دون طيار من طراز سكوت وماستيف، وتطوير الصواريخ المضادة للصواريخ، والصواريخ المضادة للطائرات بالتعاون مع شركات أميركية. كذلك تزود إسرائيل الولايات المتحدة الأميركية بنظم رادار وطائرات استطلاع من نوع هارون يمكن استخدامها في جميع الأحوال الجوية.
القسم الثاني
البيئة الاستراتيجية الإسرائيلية
أولاً: ملامح عامة
للبيئة الاستراتيجية الإسرائيلية
في العقد الأخير، تُجري المؤسسة العسكرية الإسرائيلية مراجعات وقراءات تقييمية للبيئة الاستراتيجية المحيطة بإسرائيل من منظور أمنها القومي، وفقاً للتحولات والتغييرات التي حلت بالعالم العربي نتيجة الأزمات المتتالية، كمشهد سيؤدي إلى تحول استراتيجي إقليمي وتاريخي. وما زالت الاستخبارات العسكرية والتقديرات الاستراتيجية الإسرائيلية تشير إلى حتمية مرحلة انتقالية في اتجاه إعادة إنتاج بيئة استراتيجية مغايرة مملوءة بالتهديدات للأمن القومي الإسرائيلي لها تأثيرات وتداعيات متنوعة، لكن هذه التقديرات، مع مرور الوقت، أصبحت أكثر واقعية وانضباطاً وأقل استشرافاً وتكهناً. هذا الانضباط اللافت يدل على عمق إدراك حجم التطورات، وضرورة تغيير أو تعديل الاستراتيجيا العسكرية.
يمكن القول، إن أبرز ما في الرؤية الاستخباراتية الإسرائيلية الراهنة هو عدم قدرة الاستخبارات العسكرية على ادعاء الوضوح في استشراف ماجريات الأمور، والسبب في ذلك التغييرات المتسارعة في خريطة التهديدات في المنطقة التي من شأنها أن تؤدي إلى أخطاء في التقديرات الاستخباراتية، فلا رؤيا بعيدة المدى والحسابات رهن التطورات. ولعل أبرز مستجدات التقديرات الاستراتيجية، عدم التكهن وعرض الفرص المحتملة في الساحات الإقليمية والدولية، اعتباراً من أن الاستخبارات تتمحور بصورة عامة حول التهديدات ووضعها أمام صناع القرار كأساس لوضع استراتيجيا مضادة على مختلف المستويات، منها الأمنية والسياسية والاقتصادية. بل نلحظ أن الاستخبارات العسكرية تعتبر أنه في هذه المرحلة، من غير الممكن بل ومن المبالغ فيه، عرض تقديرات لمدى بعيد.
إن تراجع التقديرات الاستراتيجية الإسرائيلية، فيما يتعلق بالرؤيا الاستراتيجية في المنظور البعيد، مرتبط بكون إسرائيل دولة لا تملك رؤيا سياسية مستقبلية. لذا، تبقى الذهنية العسكرية – الأمنية مسيطرة، وهي بطبيعتها تتعامل مع الاستراتيجيا العسكرية لمدى محدود. فنلحظ أن التقديرات الاستخباراتية لا تفصل بين تهديد استراتيجي وتهديد تكتي، وبين دائم وموقت، وبين مؤثر وأقل تأثيراً، وبين تهديد يمكن احتواؤه، وآخر لا.
تتعامل التقديرات الاستراتيجية مع البيئة الاستراتيجية المحيطة بإسرائيل وفقاً لمعيار رئيسي هو «منسوب التهديد الفعلي» الذي يمثله كل منها على الأمن القومي الإسرائيلي، بمعنى التهديد على الحدود من جانب جيوش نظامية. إن التغيير الذي طرأ مع اندلاع الأزمات في المحيط العربي، والمتمثل في انهيار الدول العربية وتفكك الجيوش التقليدية، هو ما أدى إلى تحسن جذري بوضعية إسرائيل في ميزان القوى الاستراتيجي. فقد تراجع التهديد العسكري للجيوش النظامية العربية في ظل تقهقر الجيشين السوري والعراقي، وانكفاء الجيش المصري على ذاته واهتمامه بالشأن الداخلي. وأعطى هذا التغيير إسرائيل فرصة زمنية ذهبية مكنتها من إعادة بناء جيشها بشكل يقلص الاستثمار المادي التقني في مجال تطوير القدرات التقليدية التي كانت تصلح لمواجهة الجيوش التقليدية، مع كل ما يعنيه الأمر من تقليص النفقات الأمنية.
يُقدَّر الوضع الاستراتيجي لإسرائيل في المرحلة الراهنة بأنه أكثر وضوحاً وتكيفاً وتحديداً، في ظل تصاعد القدرة العسكرية والتفوق النوعي اللذين يجعلانها دولة قوية ومستقرة وحدودها هادئة إلى حد مقبول، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الهامش الأمني ضيق وأرجحية التدحرج نحو مواجهة قائمة، ولا يوجد لدى إسرائيل إمكان تحرك ومرونة واسعة، وخصوصاً في حال طرأ تحول على الجبهتين الشمالية أو الفلسطينية.
ولعل أحد الأسباب في وصف الوضع الاستراتيجي لإسرائيل بأنه أفضل، هو انتقال الموقف الإسرائيلي من مرحلة بداية الأزمات التي سميت الربيع العربي إلى مرحلة جديدة هي مرحلة التحولات الجذرية المحيطة بإسرائيل. فالموقف الإسرائيلي انتقل من مرحلة الصدمة، وهي المرحلة التي فاجأ بها الربيع العربي إسرائيل، وكان هنالك تخوف إسرائيلي جدي من التغيرات في مصر تحديداً. أمّا مرحلة الخروج من الصدمة، فهي المرحلة التي بدأت عقب الثورة السورية بصورة خاصة، وفيها استوعبت إسرائيل الصدمة وخرجت منها ونظرت من جديد إلى واقعها الاستراتيجي في المنطقة. وأمّا مرحلة التكيف، فهي المرحلة الحالية التي تحاول إسرائيل فيها الاستفادة قدر المستطاع من انشغال العالم العربي بشؤونه الداخلية، وتعثر الربيع العربي من أجل تحقيق مصالح سياسية واستراتيجية تفيدها مع مرور هذه المرحلة الضبابية في العالم العربي.
بمفهوم آخر: إن وصف الوضع الاستراتيجي بأنه بات أفضل، وفق التقديرات الإسرائيلية، مرتبط بمراهنات إسرائيل على عنصر الزمن، لضمان اتساع الفجوة بصورة كبيرة على صعيد ميزان القوى العسكري (والاقتصادي والعلمي)، بين إسرائيل والدول العربية. فالذهنية العسكرية تسعى لتفوق عسكري نوعي يمنع أي إمكان مستقبلي لتهديد الكيان الإسرائيلي، وهي تراهن على عامل الزمن في استمرار حالة الاضطراب والتناحر والتراجع على الصعد العسكرية والاقتصادية والتراص الوطني في العالم العربي. وهنا، الموقف الهستيري من النووي الإيراني، ربما يُفهم في سياق إمكان وجود سلاح نووي إيراني قد يكسر حالة اللاعودة من التفوق العسكري الإسرائيلي.
لهذا، في السنوات الأخيرة، تمسكت المؤسسة الأمنية باستراتيجيا «المعركة بين حربين»، كوضعية قابلة للتعامل معها في الأوضاع الإقليمية المستجدة والمتغيرة، أي وضعية التكيف وفق مخاطر البيئة الاستراتيجية المتغيرة منذ اندلاع الأزمات في العالم العربي.
وفي السياق ذاته، هناك عناوين أساسية تهدد الأمن القومي الإسرائيلي في المرحلة الراهنة، منها تصاعد مخاطر التغير السريع والمفاجآت الاستراتيجية، وزيادة النشاط المسلح المعادي، وانخفاض الردع الأمني، والتهديد النووي الإيراني. لذا، تسعى إسرائيل لإبداء استجابتها لهذه المخاوف، بما في ذلك توسيع إمكانات الجيش، وزيادة الاستثمار في البحث والتطوير، وإقامة حدود يمكن الدفاع عنها، وتشكيل تحالفات إقليمية جديدة تساهم في تراجع عزلتها الإقليمية، والحفاظ على علاقتها الاستراتيجية المميزة مع الولايات المتحدة.
البيئة الاستراتيجية لإسرائيل في
المنظور القريب: فرضيات ومؤشرات
أولاً: تُجمع التقديرات الاستخباراتية والقراءات الأمنية الإسرائيلية على أن الوضع الاستراتيجي لإسرائيل بات أفضل وازداد توطداً، انطلاقاً من تدهور الأوضاع الداخلية للأعداء الفعليين والمحتملين لإسرائيل، وتراجع عناصر قوتهم تبعاً لذلك.
ثانياً: تراجع منسوب الأخطار الناتجة من فشل الثورات وانتشار الفوضى وعدم الاستقرار، والفلتان الأمني في دول الجوار، وهو ما وُصف كأمر محتمل وبالغ الخطورة على إسرائيل.
ثالثاً: في ظل تفكك الدول التقليدية وظهور التنظيمات المسلحة، لم يعد هناك عناوين واضحة، الأمر الذي يتطلب جهداً استخباراتياً مكثفاً وقراءة عميقة للتعرف على كل تنظيم قد يشكل مصدر قلق لإسرائيل، ومعرفة طبيعة العلاقات ومدى الانسجام بين هذه التنظيمات.
رابعاً: تلحظ الاستخبارات الإسرائيلية فهماً عربياً وإقليمياً، بشأن تراخي النفوذ الأميركي في المنطقة. وفي الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب، يتعزز في المنطقة العربية دور الروس والأتراك والإيرانيين والأوروبيين والصينيين.
خامساً: وفق التقديرات الاستراتيجية الإسرائيلية، لا توجد اليوم دولة في العالم قادرة على أداء دور الشرطي في المنطقة، وبالتالي لا توجد قوة عالمية قادرة على تثبيت الأمن والاستقرار فيها، ولا يوجد راع دولي قادر على إجراء توازنات وتعاون دولي يحقق تهدئة إقليمية، ولا سيما الولايات المتحدة التي لا تتحرك من دون تحالفات.
سادساً: تحييد الجبهة الجنوبية المصرية – تُجمع التقديرات الاستراتيجية الإسرائيلية على أنه لم يعد هناك خطر استراتيجي يتهدد إسرائيل من الجبهة الجنوبية، علماً بأنها ظلت مصدر التهديد الرئيسي حتى مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد سنة 1979.
سابعاً: تقتصر التقديرات الاستراتيجية بشأن المشهد الأمني العسكري في سورية على مؤشر أساسي هو مواجهة الوجود العسكري الإيراني وتداعياته من دون محاولات الاستشراف السابقة عن مصير النظام السوري. وعلى إسرائيل أن تعمل ضمن الافتراض أن نظام الأسد باق في صيغته الحالية في المرحلة الراهنة، مع انكماش دور الجيش السوري من معادلة القوة في الشرق الأوسط. وفي المقابل، أدى الوضع السوري إلى اختلال ميزان القوى الإقليمي لمصلحة إيران وحلفائها وعزز من الحضور الاستراتيجي الفعلي لروسيا لأمد بعيد.
ثامناً: هناك إجماع إسرائيلي على أن إيران هي العدو الاستراتيجي رقم واحد بما تمتلكه من قدرات عسكرية تقرب تحولها إلى دولة نووية، وبما تتبناه من مواقف عدائية تجاه إسرائيل. كذلك، إن معقولية الخيار العسكري ما زالت قائمة في ظل الانسحاب الأميركي من اتفاقية جنيف، وعدم الاقتناع بجدوى فرض الحرب النفطية والعقوبات الاقتصادية مجدداً على إيران في إسقاط النظام الإيراني (الجمهورية الإسلامية).
تاسعاً: يشكل حزب الله تهديداً استراتيجياً عند حصوله على أنظمة صواريخ دقيقة، وبالتالي ارتفاع منسوب الردع المتبادل. لهذا، إن سلاح حزب الله حاضر ومؤثر بوضوح في صناع القرار السياسي والقرار العسكري في إسرائيل.
عاشراً: تُعتبر القضية الفلسطينية «قابلة للإدارة» فقط، وليست «قابلة للحل». فإحلال السلام غير ممكن حالياً، والتدهور الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية هو خيار واقعي مضبوط نتيجة التنسيق الأمني بين الطرفين. وفي المقابل، تُجمع التقديرات الاستراتيجية على أن حركة «حماس» ستبقى القوة الحاكمة والضابطة في قطاع غزة، وأنه لا توجد نية لدى إسرائيل لمحاولة تفكيكها واستبدالها بقيادة أُخرى، أو السيطرة العسكرية على القطاع، ما دامت «حماس» مردوعة، ويساهم بقاؤها في ترسخ الانقسام الفلسطيني. ولعل المعيار الأساسي هو كون حالة الردع مستمرة في المنظور القريب، وأن عملية الردع تحتمل عدة مفاهيم، منها أن الردع يكمن في سرعة عودة الهدوء إلى قطاع غزة، بواسطة «الهجمات الوقائية» أو «الاستباقية» وفق البيئة الاستراتيجية الممكنة. من هنا، يوصف الوضع الأمني في قطاع غزة بأنه ما بين المواجهة المضبوطة والتهدئة الضعيفة.
حادي عشر: توازياً مع قدرات إسرائيل العسكرية، يتعزز وضعها الاستراتيجي على المستوى الإقليمي، استناداً إلى قوتها الاقتصادية، وعلاقاتها الوثيقة بالولايات المتحدة، وتناغم مصالحها مع مصالح الدول الخليجية، الأمر الذي يساهم في رفع جاهزيتها لمواجهة المدّ الإيراني، وخصوصاً في سورية ولبنان. لذا، تطمح إسرائيل إلى دفع مستوى التطبيع في كل من المجال الاقتصادي والرياضي والثقافي، انسجاماً مع تقاطع مصالحها مع دول عربية تخوفاً من التهديد الإيراني، وقلقاً إزاء الدور التركي الإقليمي.
ثاني عشر: يمكننا القول إن العلاقات التركية – الإسرائيلية هي اليوم في أسوء حالاتها، إلاّ إن كلا الطرفين ليس معنياً برفع سقف التوتر إلى حد القطيعة. فتركيا ليست في وارد مواجهة علنية مع إسرائيل، وفي المقابل، فإن إسرائيل ليست أيضاً في وارد التنازل عن مصالحها مع تركيا. لذلك تبقى الخطوط الخلفية للتواصل التجاري والعسكري هي الضامن لعدم تجاوز هذه النقطة الحرجة التي لن تفيد تركيا ولن تحقق مصالحها، إذ إنها براغماتية سياسياً. وفضلاً عن ذلك، هناك حاجة إسرائيلية إلى ترميم وتمكين العلاقات التركية بإسرائيل لتخفيف حدة الاضطراب في البيئة الاستراتيجية المحيطة بها.
وأخيراً: هناك قراءة إسرائيلية حذرة من تحول الحضور الاستراتيجي الصيني المتدني في الشرق الأوسط إلى تصاعد بالتدريج لمدى تأثير الصين الأمني في البيئة الاستراتيجية المحيطة بإسرائيل. إذ لا يوجد تأثير لإسرائيل في المرحلة الراهنة في مواقف الصين السياسية والأمنية من القضايا المتعلقة بخياراتها الاستراتيجية، بل هي قلقة إزاء التنسيق والتوافق الصيني الروسي فيما يتعلق بالأزمة السورية. وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن الشرق الأوسط بصورة عامة والساحة السورية بصورة خاصة لن يكونا خارج الاهتمامات الاستراتيجية للصين، التي في إمكانها أن تشكل قوة مؤثرة في السياسة الأميركية من أجل الحصول على تنازلات فيما يتعلق بالمصالح الاستراتيجية لكلتا الدولتين في مواقع متعددة.
المآزق الاستراتيجية
يقدَّر الوضع الاستراتيجي لإسرائيل في المرحلة الراهنة بأنه أكثر وضوحاً وتكيفاً وتحديداً في ظل تصاعد القدرة العسكرية والتفوق النوعي، إلاّ إنه يواجه مآزق إقليمية استراتيجية، في صلبها عدم قدرة إسرائيل على مواجهة جميع الجبهات والتهديدات المحيطة بها في وقت واحد، ما قد يدفع صناع القرار السياسي والقرار العسكري إلى وضع سلم أولويات، ومحاولة الفصل بين جبهات المواجهة، وخصوصاً بين الجبهة الفلسطينية والجبهة الشمالية. ومن هنا، تتخبط القيادات السياسية والأمنية وهيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي في اتخاد قرار بشأن عملية «استباقية» أو «وقائية» على غرار نظرية بيغن أمام خطر استراتيجي حقيقي، أو عدم القيام بعملية عسكرية وتحمل النتائج المستقبلية في ظل وجود خطر كياني يهدد إسرائيل، وفق التقديرات الاستخباراتية.
إن المأزق الاستراتيجي المعلن هو كيفية التعامل مع البرنامج النووي الإيراني بعد انسحاب إيران من اتفاقية جنيف، ولا سيما بعد تصميمها على تجديد نشاطها النووي الكامل في ظل إعادة فرض العقوبات عليها. ووفق التقديرات الإسرائيلية، عاد النقاش الفعال داخل أروقة صناع القرار في إسرائيل في شأن إمكان أو جدوى القيام بمغامرة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية، ضمن خطة عسكرية عملانية منسقة مع الولايات المتحدة.
أمّا المأزق الاستراتيجي العيني لإسرائيل في المرحلة الراهنة فهو حصول حزب الله على أنظمة الصواريخ الدقيقة، وما مدى قدراتها الدفاعية العسكرية (حيتس، القبة الحديدية، مقلاع داود) والمدنية في مواجهتها. ويستدعي هذا المأزق تساؤلاً عن مدى صدقية القيام بعملية «استباقية» واسعة داخل الأراضي اللبنانية بهدف ضرب البنية التحتية لحزب الله وتعطيل إمكان حصوله على أنظمة الصواريخ الدقيقة، أو الاكتفاء بتعميق التنسيق والتفاهم مع روسيا بشأن منع الجيش السوري من تزويد حزب الله بالصواريخ الدقيقة وإعطاء غطاء كامل لكل عملية عسكرية ضد القوات الإيرانية في سورية بهدف تعطيل مرور الصواريخ الدقيقة لحزب الله.
في ظل التحديات الأمنية متعددة الاتجاهات، هذه المآزق الاستراتيجية تحتم المحافظة على العلاقة الأمنية المتينة بالولايات المتحدة كونها أحد أبرز مكونات أمن إسرائيل القومي.
التغيير في الخطاب الاستراتيجي
مع احتدام المآزق الاستراتيجية خلال السنتين الأخيرتين، نلاحِظ تغييراً في الخطاب الاستراتيجي للقيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيليتين، لجهة إعادة تعريف طبيعة التحديات المتعددة الاتجاهات، وخصوصاً على الجبهة الشمالية لإسرائيل. إذ أصبح هناك اتجاه نحو المزج بين الجبهتين السورية واللبنانية، واعتبارهما مسرح عمليات واحداً، الأمر الذي يفرض منطقاً عملانياً عسكرياً جديداً، ويحتم قراءة جديدة لقواعد الاشتباك التي رُسمت بشكل منفصل فيما يتعلق بلبنان وسورية. إن القيادة العسكرية في إسرائيل لم تعد تتحدث عن الساحة اللبنانية، أو الحدود مع سورية، بشكل يفصل أحدهما عن الآخر. بل أصبحت تتعامل مع «جبهة شمالية موحدة» تتألف من جيش النظام السوري بجانب الوجود العسكري الإيراني، وقوات حزب الله، والقواعد العسكرية الروسية في سورية.
هذا التغيير في الخطاب الاستراتيجي مهم للغاية، وله أهميته في سياق محاولة التعرف على اتجاهات التصعيد المستقبلي المفترض. إذ وفقاً للمنطق العملاني الجديد الذي حدده المستوى العسكري في إسرائيل، ونظراً إلى مستجدات أجندة المحور الإيراني، وكيفية تعامله مع طبيعة وأهداف أي تصعيد في هذه المرحلة، فإن انتشار المواجهة المباشرة من سورية إلى لبنان، أو العكس، هو سيناريو مرجح للغاية؛ أي أن المواجهة المقبلة إذا بدأت من الحدود الإسرائيلية مع لبنان، فسوف تمتد – في الغالب – إلى الجبهة السورية.
ثانياً: مشهد العلاقات الإسرائيلية - الإيرانية:
الملف النووي الإيراني من منظور
الأمن القومي الإسرائيلي
الموقف الإسرائيلي
تُجمع كل المستويات، السياسية والنخبوية العسكرية الإسرائيلية، فضلاً عن المؤسسات البحثية، ووسائل الإعلام، عما يسمونه «مخاطر البرنامج النووي الإيراني»، على أن السلاح النووي، في حال امتلاك إيران له، سيكون خطراً استراتيجياً ووجودياً على إسرائيل. وبناءً على هذه النظرية، يقوم أنصارها بتقييم المخاطر الناجمة عن ذلك، والنتائج المحتملة على القرارين السياسي والعسكري في إسرائيل، وسبل معالجة الوضع الجديد وفق مفاهيمها الأمنية والاستراتيجية، المعنية بالتفوق العسكري، والردع النووي، والحرب الخاطفة، والتفرد والاحتكار النووي. كذلك تسوق إسرائيل فكرة أن السلاح النووي الإيراني في حال وجوده لن يكون موجهاً ضد الدول العربية وتركيا فحسب، بل إنه موجه ضد المجتمع الدولي، فالمشروع النووي الإيراني ليس مشكلة لإسرائيل فقط، بل مشكلة عالمية أيضاً.
ما زال الإجماع الإسرائيلي متماسكاً بشأن مخاطر البرنامج النووي الإيراني، وأن إيران هي العدو الاستراتيجي الأول لإسرائيل، وأن القضاء على التهديد النووي الإيراني هو من أخطر وأهم القضايا الأمنية التي تواجه القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيليتين منذ قيام الدولة، وهو ما ينعكس بشكل جلي على تمحور الذهنية والاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية حوله، كما يظهر في المؤتمرات السنوية للقيادة العسكرية، وفي قراءات أو ندوات وتصريحات تتعلق بوضع إسرائيل الاستراتيجي.
إن إسرائيل لا تتخوف، في المرحلة الحالية، من إنجازات إيران النووية، بل من قدرتها على الإنجاز. وأي اعتراف من المجتمع الدولي بحقها في تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية، يمكّنها من اكتساب الخبرات الحيوية لصناعة القنبلة النووية، لأن توجهها نحو برنامج نووي عسكري، وفق التقديرات الإسرائيلية، بحاجة إلى خطوتين: الأولى، سياسية مبنية على الإرادة واتخاذ القرار، والثانية تقنية مرتبطة بزيادة عدد الطرود ورفع بالتدريج لمستوى التخصيب. ووفق هذه المقاربة، فإن إسرائيل تعتمد في تفوقها الإقليمي على القوة العسكرية النووية والتقليدية. فهي تتخوف من فقدان تفوقها النووي من خلال قدرة إيران على التحول إلى قوة نووية عسكرية، وخصوصاً أن إسرائيل لم تحقق ردعها الكامل من خلال تفوقها التقليدي.
ومن هنا، عارضت إسرائيل الاتفاق النووي – اتفاقية جنيف في سنة 2015 – وتسعى لبلورة إجماع سياسي وأمني يؤكد عدم حدوث أي تغيير في «الرؤية النووية» لإيران التي لا تزال تحاول الوصول إلى مكانة دولة نووية، ولن تتخلى عن برنامجها النووي. وأيضاً، وفق التقديرات الإسرائيلية، تسعى إيران لتعوض عن تنازلاتها في الملف النووي باعتراف دولي بدورها كدولة إقليمية، إذ إن الاتفاق ليس محصوراً في شقه النووي، بل تعمل إيران جاهدة منذ عقود لتكريس نفسها كقوة بشرية وعسكرية واقتصادية وتكنولوجية وازنة، وهو ما يعزز أوراقها إقليمياً، وخصوصاً في العراق وسورية ولبنان.
الموقف الإيراني
أثبت الإيرانيون إدراكاً سياسياً وفهماً واقعياً لحدود القوة، الأمر الذي زاد في الإرباك والقلق الإسرائيلي. فمن جهة، وقّعت إيران اتفاقية جنيف، المبنية على معادلة ربح – ربح، المعادلة الأنجح في علم الوساطة، وهي المعادلة التي تكرس حقيقة أن إيران لم تتراجع، في هذا الاتفاق، عن أي من ثوابتها ومطالبها وحقوقها. ومن جهة أُخرى، تخلت الدول الغربية عن مطلب لطالما تمسكت به، وهو منع الإيرانيين، بالمبدأ، من تخصيب اليورانيوم حتى لو كان بنسبة متدنية، واستعاضت عن ذلك بقبول ضمانات وإجراءات تكفل عدم امتلاك طهران القنبلة النووية.
إيران التي أنهكتها العقوبات الاقتصادية، وإن لم تؤثر في تصميمها، أثبتت من خلال توقيع الاتفاق أنها لن تنشط لحيازة قنبلة نووية. وفي المقابل، أتاح لها الاتفاق شرعية استخدام كل حقوقها في مجال حيازة الطاقة النووية لأغراض سلمية، بموجب البنود المتعلقة بمعاهدة حظر الانتشار، وبما ينسجم مع التزاماتها وفق تلك المعاهدة.
تعمل إيران بشكل دؤوب على تعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية والردعية، إذ نلحظ منذ سنة 2010 تحديداً، ارتفاعاً ملحوظاً بوتيرة التدريبات والمناورات الإيرانية، وإبراز قدراتها العسكرية وامتلاكها ترسانة قادرة على مواجهة أي عدوان خارجي، وهو ما يندرج في سياسة الردع المتبادل ضد إسرائيل والولايات المتحدة.
الانسحاب الأميركي من
اتفاقية جنيف وتبعاته
يتناغم الموقف الرسمي الإسرائيلي مع سياسة الرئيس الأميركي ترامب بشأن إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، ولا سيما أن المخاوف الإسرائيلية لا تتعلق فقط بالقدرات العسكرية الحالية لإيران، بل بما يمكن أن تقوم به الأخيرة في المدى المنظور، والتداعيات العسكرية والاستراتيجية للمجهود الإيراني المستمر على المستوى العسكري، وخصوصاً تطوير منظوماتها الصاروخية الباليستية التي باتت تمثل تهديداً للأمن القومي لإسرائيل، وتمس مرتكزات ومنطلقات التفوق النوعي للقدرات الإسرائيلية أمنياً واستراتيجياً. لهذا، استمرت المعارضة الإسرائيلية الرسمية للاتفاق النووي الإيراني منذ توقيعه. وظلت القيادة الإسرائيلية متمسكة بالجوانب والتداعيات السلبية للاتفاق، على الأقل من وجهة نظر الحسابات والطموحات الإسرائيلية الإقليمية.
في المجمل، يمكن تحديد الموقف الإسرائيلي من إلغاء الاتفاق، كما عبّرت عنه التقديرات الاستراتيجية في إسرائيل، في النقاط التالية:
أولاً: لم تتردد إيران في دأبها المتواصل للحصول على المواد اللازمة لبناء قدراتها النووية، والعمل على تطوير الأجهزة الكافية لذلك، والسعي لامتلاك السلاح النووي، فضلاً عن تطوير قدراتها الصاروخية كجزء من تطوير منظومة السلاح النووي، فقد أصبحت التجارب الصاروخية الأخيرة، ومنها الصاروخ «خورمشهر» الذي يمكنه الوصول إلى 2000 كلم، تغطي مساحة إسرائيل بأكملها وأجزاء كبرى من أوروبا والشرق الأوسط.
ثانياً: ثبات الموقف الإسرائيلي المتمسك بمعارضة فعالة للاتفاق النووي، من خلال إبراز قلقه إزاء تمسك إيران بخياراتها الإقليمية والنووية، في ظل تشديده على عدم ضبط قدرات إيران الصاروخية، وكذلك على سياساتها الإقليمية ودعمها لحلفائها. كما أن الاتفاق النووي يسمح لإيران بتدعيم قدراتها وبنيتها الاقتصادية، وهو ما يهبها الفرصة للعودة إلى تكثيف محاولاتها لإنتاج القنبلة النووية، الأمر الذي سيؤدي إلى تقليص فرص الهجوم الإسرائيلي على مواقعها النووية.
ثالثاً: تمسّك إسرائيل بالخيار العسكري المعلن على أنه احتفاظ لحقها في الدفاع عن نفسها بمفردها، وبالتنسيق مع الولايات المتحدة. وتتعامل إسرائيل مع التلويح بمغامرة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية كجزء من نشاطها الدبلوماسي الضاغط على الدول الأوروبية والمجتمع الدولي أكثر منه محاولة لردع إيران عن الاستمرار في خياراتها النووية. وهناك إجماع لدى المؤسستين السياسية والعسكرية الإسرائيليتين على إصرار الجمهورية الإسلامية على السعي قدماً في نهجها السياسي والعسكري.
تترقب إسرائيل كيف ستتعامل إيران مع خياراتها في مواجهة القرار الأميركي بإلغاء الاتفاق المبرم معها، وتفعيل الضغوط السياسية والاقتصادية تجاهها. وتلحظ التحليلات الإسرائيلية إرباك حسابات إيران نتيجة الضغوط الحثيثة التي تفرضها السياسة الأميركية، ووضعها أمام خيارات محدودة، بحيث ينتج كل منها تداعيات مباشرة على مصالحها.
على الرغم من التهديدات المستمرة وأحياناً المتضاربة التي يوجهها بعض المسؤولين الإيرانيين، فإن إيران فضلت التمهل قبل اتخاذ قرارات نهائية بالتعامل مع السياسة الأميركية الجديدة، وحرصت على كسب مزيد من الوقت، ولا سيما في محادثاتها مع الدول الأوروبية وكل من روسيا والصين، والتي تسعى من خلالها إلى إيجاد موقف دولي داعم قد يساعدها في تقليص حدة تلك الضغوط وتوسيع حرية حركتها وهامش المناورة المتاح أمامها.
مما لا شك فيه أن إيران تواجه موقفاً إقليمياً ودولياً مناهضاً لدورها الإقليمي الفاعل في الشرق الأوسط، وهو ما يزيد في قوة الضغوط الأميركية عليها، ويعزز من فرص تعرضها لعزلة دولية على غرار ما كان مع توقيع الاتفاق النووي سنة 2015. وقد انعكس ذلك في ضغط القادة الأوروبيين على إيران بضرورة تقليص تدخلاتها الإقليمية بالتوازي مع وقف النشاطات الخاصة بتطوير برنامج الصواريخ الباليستية. بل هناك اقتراحات فرنسية، تشير إلى إمكان تقديم مساعدات مالية لإيران في مقابل التراجع عن هذه التدخلات.
أمّا الموقف الإيراني المعلن، فيؤكد التزام إيران عدم تراجعها عن سياستها، وإعلان جاهزيتها لتفعيل نشاطاتها النووية، مدركة أن مقابل صلابتها هناك ضغوط أميركية وإسرائيلية على الشركات والحكومات الأوروبية، والتي تنعكس باتساع نطاق الاهتمام الدولي بالتداعيات التي يفرضها استمرارها في تطوير برنامجها الصاروخي على الصعيدين النووي والإقليمي.
من الصعب على إيران، على الأقل في المرحلة الحالية، القبول بطروحات تحدّ من دورها الاستراتيجي الإقليمي الذي استُنزف بسببه الاقتصاد الإيراني لسنوات عديدة، وذلك لعدم ثقتها بمدى جديّة الطروحات ونجاعتها بالكامل، وخصوصاً في ظل الضغوط التي تمارسها الإدارة الأميركية على الدول الأوروبية لتغيير سياستها إزاء إيران.
وعلى الرغم من العلاقات الاستراتيجية المتينة التي أسستها إيران مع كل من روسيا والصين، فإن القيادة الإيرانية لا تعّول بصورة كبيرة على إمكان تحول الدولتين، أو أي منهما، في مرحلة لاحقة، إلى داعم دولي حقيقي يستطيع مساعدتها على مواجهة الضغوط التي تفرضها السياسة الأميركية، فضلاً عن مصالح موسكو وبكين وحساباتهما الخاصة، فإن الولايات المتحدة تعي أهمية الوصول إلى تفاهمات مع الطرفين فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الطموحات الإيرانية النووية والإقليمية، وخصوصاً بعد إعلان الاستراتيجيا الأميركية الجديدة بإلغاء الاتفاق النووي ومحاصرة إيران نفطياً واقتصادياً.
وفي سياق متصل، تتناغم التحديات التي تتعرّض لها إيران على الساحتين الإقليمية والدولية مع استمرار الضغوط الداخلية، ولا سيما في ظل الاهتمام المستمر الذي تبديه الولايات المتحدة وإسرائيل بقضايا الداخل الإيراني، والذي ينعكس في التصريحات الأميركية المتتالية الداعمة لحركات الاحتجاج التي شهدتها الساحة الإيرانية سنة 2018. وهنا، فإن إيران تبدو واعية بأن أي خيار تصعيدي مع الولايات المتحدة ستكون له ارتدادات مباشرة على الداخل، ولا سيما بعد التهديدات التي وجهها وزير الخارجية الأميركي بومبييو بفرض «العقوبات الأشد في التاريخ» في حالة رجوع إيران إلى تنشيط البرنامج النووي ورفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى عشرين في المئة.
بمعنى آخر، فإن مغامرة التعرّض لعزلة دولية جديدة، والدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، قد تؤدي إلى تأجيج الأزمات الداخلية، باعتبار أن تلك العقوبات الجديدة ربما تؤثر في الاقتصاد الإيراني، وتقيد قدرة الحكومة على التعامل مع تلك الأزمات.
خيارات إسرائيل في مواجهة النووي الإيراني
تدرك الحكومة في إسرائيل أن الخيارات الإسرائيلية محدودة من دون الدعم الأميركي في هذه المرحلة. والنقاش قائم في شأن كيفية الرد الإسرائيلي في الأوساط السياسية والعسكرية، ويرتكز على احتمالين للرد:
الأول: دفاع فعال، أي بناء منظومة دفاعية قادرة على استيعاب «ضربة استباقية أولية».
الثاني: الهجوم، أي القيام بعملية عسكرية ضد المنشآت النووية، بتوجيه ضربة بأسلحة نووية تكتية في حال فشل ضربة بالسلاح التقليدي. وهذا الهجوم مشروط بدعم أميركي سياسياً ولوجستياً وعسكرياً.
كما يبدو، فإن خيار «دفاع فعال»، أي الاعتماد على بناء منظومة دفاعية وتعزيزها، سقط من الخيارات الاستراتيجية لمواجهة إيران، وهو ما تمسكت به إسرائيل حتى سنة 2008، وشكل الصدقية الأساسية في استمرار برنامج تطوير صاروخ «حيتس» كوسيلة دفاعية أمام إمكان هجوم نووي إيراني على إسرائيل. وهناك قناعة تامة لدى المستويين العسكري والسياسي، بأن إسرائيل لن تملك منظومة دفاعية لصد أي هجوم صاروخي مكثف عليها من إيران في المنظور القريب. أمّا اللافت في السنوات الأخيرة، فهو عدم تداول الأوساط الإسرائيلية خيار الردع النووي الذي لوحت به حكومة أولمرت خلال الفترة 2006 – 2009، كون إسرائيل غير قادرة على تحمل ولو ضربة نووية واحدة في عمقها الاستراتيجي، ولا توجد منظومة صواريخ دفاعية قادرة على تأمين دفاع كامل محكم.
السجال الداخلي في شأن
الضربة العسكرية لإيران
في هذا الشأن، من الممكن رصد توجهين أساسيين داخل القيادتين السياسية والأمنية في إسرائيل:
التوجه الأول: يرى أصحاب هذا التوجه أن نجاعة الضربة العسكرية محدودة، وفي الوقت نفسه، تعرّض إسرائيل لمخاطر حقيقية، لأنه من المتوقع رد صاروخي إيراني من جبهات متعددة، مثل سورية ولبنان، وقد يكون من قطاع غزة. ويضم هذا التوجه بالذات المنتمين إلى الأجهزة الأمنية في إسرائيل، الذين يرفضون توجيه ضربة عسكرية إلى إيران في هذه الفترة، بمن يشمل رئيس هيئة الأركان أفيف كوخافي، ورئيس الموساد يوسي كوهين، ورئيس جهاز الأمن العام يورام كوهين، المنسجم مع موقف أسلافهم في قيادة الأجهزة الأمنية، مثل غابي أشكنازي، ومئير دغان، وتامير باردو، وعاموس يدلين، ويوفال ديسكين وآخرين.
التوجه الثاني: يؤمن أصحاب هذا التوجه بمعقولية توجيه ضربة عسكرية إلى المنشآت النووية قادرة على تعطيلها فترة طويلة شرط التنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة. ويتبنّى هذا التوجه رئيس الحكومة الحالي نتنياهو وجميع أحزاب اليمين الأيديولوجي.
التلويح بالخيار العسكري
في المنظور الإسرائيلي العام، إسرائيل تواجه مسألة الحفاظ على صدقيتها. وعدم التلويح بالخيار العسكري ضد إيران سيكون أمراً من شأنه أن يعرّض صدقيتها للخطر، وسيظهرها على أنها غير قادرة على انتهاج خطوات جادة في تطبيقها نظرية الردع التي تتبناها منذ قيامها.
في الواقع، خيارات إسرائيل المتاحة عملياً، أساساً هي إعلامية وافتراضية تهدف إلى بناء ردع إسرائيلي أكثر من بناء خيار عسكري عملي ساري المفعول. لهذا، تطور إسرائيل ترسانتها العسكرية بأدوات جديدة، أهمها مثلاً، سلسلة غواصات من طراز دولفين تسلمتها من ألمانيا، أعلنت إسرائيل أنها قادرة على البقاء في العمق الاستراتيجي لأعدائها (في إشارة واضحة إلى الخليج العربي)، وإطلاق صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية وموجّهة. إلاّ إن ذلك كله ليس كافياً حالياً، للقيام بضربة قادرة على إصابة ثمانية أهداف رئيسية حددتها المصادر الإسرائيلية، باعتبارها ذات أولوية، والتي يشكل ضربها انتكاسة للمشروع النووي الإيراني، وأهمها المنشآت في أراك وبادرود وقم ونتانز.
لكن هذا لا يلغي في الوقت ذاته، أهمية النشاط العسكري، أي القيام بتدريبات لسلاح الجو تحاكي عملية ضرب المنشآت النووية الإيرانية، منها تدريبات لسلاح الجو إلى مسافات طويلة، إذ إنه يحلق حتى مضيق جبل طارق، ومناورات مشتركة مع دول، مثل رومانيا واليونان، ومحاولة إقامة قواعد عسكرية جوية في دول قريبة من إيران، مثل جورجيا وأذربيجان، إضافة إلى تصعيد النشاط الاستخباراتي وتحديداً في مجال «السايبر»، التجسس وجمع المعلومات.
لعل جديد الموقف الإسرائيلي بشأن التلويح بالخيار العسكري، هو إدراك إسرائيل أن قرار السلم والحرب يؤخذ على مستوى الأمن القومي الأميركي، بعيداً عن أي اعتبارات أو تأثير للوبي اليهودي الأميركي. وعليه، بدلت الحكومة الإسرائيلية لهجتها ومواقفها، وأخذت تتعامل بواقعية وتفهم أكثر لحدود دورها إلى حد الانسجام مع الموقف الأميركي، في ظل الضغط والتلويح بالخيار العسكري لمنع إيران من إمكان إنتاج قنبلة نووية.
خلاصة القول، ووفقاً للقراءات والتحليلات الإسرائيلية، فإنه من المرجح أن تمتنع إسرائيل من القيام بهجوم على المنشآت النووية الإيرانية في المدى المنظور، إلاّ إذا حدثت تغييرات مفاجئة، إذ من المستبعد أن تقوم إسرائيل بعملية عسكرية ضد إيران ما دامت الولايات المتحدة تعول على نفعية المسار الدبلوماسي والحرب النفطية وفرض العقوبات الاقتصادية.
ثالثاً: مشهد العلاقات الإسرائيلية - الفلسطينية:
الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي في انتظار
تبعات المشهد الإقليمي
يواجه الفلسطينيون منذ التحولات الإقليمية بعد سنة 2011 وحدهم تبعات السياسة الإسرائيلية إقليمياً ودولياً، ولا سيما بعد تعثر الشارع العربي من استعادة دوره السياسي في دعم قضية فلسطين، والذي لا يزال خارج القرار الفاعل، ولا يوجد أفق واضح أن التحولات العربية وما يتمخض عنها ستكون قادرة، ولو نظرياً، على دعم القضية الفلسطينية بعد اكتمال التحولات السياسية التي بدأت من مصر، بحيث تكون القضية الفلسطينية مدخلاً لتجديد المشروع العربي الوطني أو القومي.
وازداد الموقف الفلسطيني ضعفاً بفعل انشغال الدول العربية بهمومها الداخلية في ظل تداعيات ما سمي الربيع العربي، بل توتر بعض العلاقات العربية مع أطراف فلسطينية («حماس» مع كل من السعودية وأحياناً مصر)، الأمر الذي زاد الوضع الفلسطيني تعقيداً، ووفر لإسرائيل أفضل الفرص لاستثمار الانكفاء العربي على الهموم الداخلية.
ومن هنا، لم تفوت حكومة إسرائيل أي فرصة لإجهاض أي محاولة أو مبادرة إلى التسوية مع الفلسطينيين، متمسكة بسياسة الانتظار وعدم الحسم وعدم المبادرة والسعي للتأثير في محيطها الاستراتيجي.
يمكن لإسرائيل الاستبداد بالفلسطينيين فيما يتعلق بتنفيذ سياستها التوسعية وأهدافها في مناطق السلطة الفلسطينية، وهكذا تفعل. وتستغل المناخ الإقليمي، واعتادت أن تنفرد بمفاوضات شكلية برعاية أميركية لم تفضِ إلى شيء حقيقي. والحقيقة الكامنة خلف وجوب التفاوض تكمن في أن الطرفين لهما مصلحة في العودة إلى المفاوضات، فالسلطة الفلسطينية قامت على أساس اتفاق أوسلو ومبرر وجودها مرتبط بهذا الاتفاق وتداعياته المتنوعة. وفي المقابل، تشترط إسرائيل العودة إلى المفاوضات من دون شروط مسبقة، أهمها: تجميد الاستيطان؛ العودة إلى حدود سنة 1967؛ البناء في القدس.
وفي السياق ذاته، تنجح الحكومة الإسرائيلية في تكييف الولايات المتحدة وفقاً للسياسات الاستيطانية الإسرائيلية، والوساطة الأميركية تقترب إلى حد كبير من الطلبات الإسرائيلية. ولهذا، يرتفع احتمال فشل أي مساعٍ قد تبذلها الولايات المتحدة، للتوصل بين الطرفين، وجسْر الصعوبات التي يواجهانها على خلفية الهوة التي تفصل بين مواقفهما.
وتدعي إسرائيل تبنّي فكرة «حل الدولتين لشعبين» وهي الاستراتيجيا التي تقودها خلال المفاوضات، في حين أن السياسة الاستيطانية تؤكد أنها تسعى لنقطة اللاعودة التي لا يمكن بعدها تحقيق هذا الحل على الأرض، لأن أغلبية القضايا الجوهرية في الصراع، تتركز في الضفة الغربية، والقضايا الأكثر تعقيداً هي تسوية الأراضي وحق العودة وحل قضية القدس والحدود الشرقية، أي الأغوار.
وعلى الأرجح، ستشترط إسرائيل وجود خطوات مرحلية على أي محاولة لوضع اتفاق إطار لتسوية نهائية ضمن الطروحات الأميركية المسماة صفقة القرن، معتمدة على التفاهمات الضمنية مع وزير الخارجية السابق، هنري كيسنجر، أن أي طرح جديد لمسار تسوية مع الفلسطينيين يجب عرضه على الجانب الإسرائيلي قبل وضعه على طاولة التفاوض. ولا تتخوف إسرائيل من أي وساطة أو مشروع أميركي، كون الولايات المتحدة ملتزمة عدم محاولة فرض أي اقتراح أو مشروع أميركي على الأطراف، فضلاً عن عمق العلاقة الاستراتيجية بين الدولتين.
ومن وجهة نظر السلطة الفلسطينية، إن الواقع الفلسطيني والعربي والإقليمي والدولي كان أقوى من أن يسمح لها برفض الذهاب إلى التفاوض واستمراره، على الرغم من أن الواقع ذاته يقول إن الذهاب إلى التفاوض واستمراره في ظل عدم وجود أي توازن بين السلطة وإسرائيل هو نوع من المغامرة غير المحسوبة. إن الطرف الفلسطيني إذا ذهب إلى مفاوضات، إلاّ إنه لا يمكنه المراهنة على تحولها إلى مفاوضات حقيقية ومتوازنة، بل إلى مفاوضات لمنع تحمل مسؤولية إفشال المحاولات الأميركية في إعادة إطلاقها ليس أكثر. ومن المفترض أن السلطة الفلسطينية توقعت بقاء الأمور على ما هي عليه من دون تغييرات جوهرية، أي استمرار المراوحة داخل دائرة مأزق الاستعصاء.
خلاصة القول، لم يعد مقبولاً استدراج السلطة الفلسطينية إلى مفاوضات في شأن اتفاق إطار مرحلي جديد، يتضمن اتفاق إقامة دولة فلسطينية بحدود موقتة، وعدم البحث في القضايا النهائية كافة.
التنسيق الأمني بين السلطة
الفلسطينية وإسرائيل
على الرغم من تصاعد وتيرة توتر العلاقات إلى حد القطيعة الرسمية بين السلطة الوطنية والحكومة الإسرائيلية، فإن المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل يتمسكان بضرورة استمرار تفعيل التنسيق الأمني بين الجانبين، وقد ثبّتت الاتفاقات الفلسطينية – الإسرائيلية الوظيفة الأمنية كمقياس لمدى كفاءة السلطة، الأمر الذي تراه إسرائيل ضرورة أمنية حيوية يتطلب منها تقديم «تنازلات» في مواجهة أي تصعيد فلسطيني غير منظم، وتمتنع من القيام بعقوبات جماعية قد تؤدي إلى انفجار الضفة الغربية وتشكيل أجواء تشكل تربة خصبة لحركة «حماس» التي تسعى لجر الضفة إلى مواجهات مستمرة مع إسرائيل. لكن مع مضي الوقت والتعثر المستمر في المفاوضات، تبيّن أن سقف هذه «التنازلات» لا يقارب الحد الأدنى الذي يمكن لقيادة السلطة القبول به، وقد يدفعها أكثر إلى التفكير في جدوى استمرار التنسيق الأمني من دون مقابل، وخصوصاً في ضوء الرفض الشعبي والفصائلي لهذا التنسيق أصلاً.
وفقاً للتقديرات الأمنية الإسرائيلية، لن تقدم قيادة السلطة فعلاً على وقف هذا التنسيق بصورة تامة. لكن هذا لا يمنع من إمكان خفض مستوى التنسيق الأمني بالتدريج، أو تراكم أوضاع تتسبب بوقفه بغير إرادة السلطة أو إسرائيل. وهنا، ما زال الرهان الأساسي على السلطة الفلسطينية في لجم إمكان وقوع انتفاضة ثالثة. لكن في حال اندلاعها ، لن تنجح قوات الأمن الفلسطينية التابعة للسلطة الفلسطينية في وقفها هي والعمليات ولا حتى في خفض وتيرتها وتخفيف حدتها.
إن وقف التنسيق الأمني يستدعي تحقق وجود أكثر استمراراً في تعثر المفاوضات ومواصلة الانتهاكات الإسرائيلية، بل هناك ضرورة لتراكم الضغط الشعبي ونجاحه في توليد هبّة أو انتفاضة جماهيرية، يصعب على القيادة الفلسطينية أو إسرائيل استيعابها، إلى درجة من الغليان يصعب منع تحولها إلى مواجهة غير متوقعة أو مخطط لها. وكذلك، إقامة المصالحة الفلسطينية وصولاً إلى إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية بحسب أسس متفق عليها فلسطينياً.
المقاومة الشعبية الفلسطينية
تميز المشهد الفلسطيني على مر سنوات النضال والمقاومة للاحتلال الإسرائيلي بأشكال عديدة للمقاومة، منها الشعبية والمسلحة والعنيفة وغير العنيفة من إضرابات وحراك مدني، إضافة إلى الجهود الدبلوماسية، الأمر الذي يعكس مخزوناً هائلاً من التجربة والثقافة الوطنية والنضالية والمجتمعية. وتنوعت أشكال المقاومة والمواجهة بسبب أوضاع فلسطينية داخلية، وظروف إقليمية ودولية أحياناً، وهو ما يربك التقديرات الاستخباراتية والسياسية الإسرائيلية، بأن قوة المقاومة الكامنة لدى الشعب الفلسطيني ومخزونها لا يزولان، بل يتبدلان من حالة إلى أُخرى، لينفجرا ويتجددا ويستعيدا دوريهما، فضلاً عن شكل الانفجار. وقوة المقاومة هذه ومخزونها هما تعبير عن العنفوان الفردي بوعي طبيعي وعفوي وثوري لأشكال القهر والاحتلال كافة.
إسرائيل و«الهبة الفلسطينية» سنة 2015
تسمي إسرائيل بصورة عامة العمليات التي تُنفّذ على يد فلسطينيين من دون أن يكون لها بعد تنظيمي «انتفاضة الأفراد»، وتقصد بها بصورة خاصة عمليات الطعن والدهس وغيرهما من العمليات التي يقوم بها أفراد غير منظمين ضد أهداف إسرائيلية. وقد ازدادت هذه العمليات مع الهبة الفلسطينية التي انطلقت في تشرين الأول / أكتوبر 2015، ثم تحولت لتصبح شكلها الأبرز.
لم يعد في وسع صانع القرار السياسي والقرار الأمني في إسرائيل تجاهل حقيقة وجود موقف شعبي فلسطيني فعال، لأن أي تحرك شعبي ربما يتحول إلى مشهد أمنى متدحرج، الأمر الذي ينطوي على إمكان حدوث مفاجآت على خط المواجهة. وما يرفع درجة خطورة الوضع في إسرائيل، أن القيادتين السياسية والأمنية باتتا تدركان أن «هيبة الأجهزة الأمنية» الإسرائيلية لم تردع الفلسطينيين، وهو ما يفرض عليهما أن يأخذا ذلك في الحسبان في جميع خطواتهما.
تتبنّى إسرائيل سياسة التكيف، كخيار إسرائيلي أولي، تبلورت، بالتدريج، في مواجهة المقاومة الشعبية. ويسود الرهان على أن تكون العمليات أو الهبات الشعبية ليست سوى حدثٍ عابر أو ردة فعل انفعالية، لا تلبث أن تخمد لاحقاً. لكن استمرارها وحفاظها على قدر من الزخم الكمي، كانا كافيَّين لإثارة أجواء الرعب في الرأي العام الإسرائيلي، وفرض على القيادة الإسرائيلية تحديات أمنية وسياسية. لذلك، تعاملت حكومة نتنياهو مع الهبة الفلسطينية سنة 2015 في عدة خطوط، متوازية ومتكاملة، تتضمن إجراءات وقائية، وأُخرى قمعية وردعية، أو خطاباً سياسياً مدروساً وموجّهاً إلى الجمهور اليهودي الإسرائيلي، وآخر إلى الجمهور الفلسطيني.
مع ذلك، لا يعني خيار التكيف البقاء في موقع ردة الفعل، بل يأتي كجزء من استراتيجيا أشمل تحوي إجراءات قمعية متنوعة، تردع الشارع الفلسطيني، أو تدفّعه أثمان تبنّيه خيار الانتفاضة واعتمادها، من دون أن تصل الإجراءات إلى انفجار فلسطيني واسع.
في غضون ذلك، يأتي رفض القيادة الإسرائيلية تقديم ما تسميه تنازلات سياسية لمصلحة الطرف الفلسطيني، كجزء من سياسة الردع بالمنع، وإشعار الشارع الفلسطيني بأن مواصلة الضغوط على الجانب الإسرائيلي، لن تؤدي إلى أي تراجع في مواقف الأخير، ولن تغير من سياسة الاستيطان.
في المجمل، ما زالت القيادة الإسرائيلية تتعامل مع الهبات الشعبية بحسب سياسة التكيف وفقاً للواقع الأمني باعتباره البديل الممكن بين الخيارات الأُخرى، بالتوازي مع التأكيد أن الأجهزة الإسرائيلية تعمل على إجراءات إضافية تهدف إلى محاولة تقليص الخسائر البشرية الإسرائيلية. وفي المقابل، فإن أي تراجع في زخم الانتفاضة سيشكل انتصاراً مدوياً للطرف الإسرائيلي، ويؤكد رهانه على إمكان الجمع بين الاحتلال والاستقرار الأمني.
مسيرات العودة الكبرى (سنة 2018)
لعل أبرز مظاهر المقاومة الشعبية الفلسطينية في السنوات الأخيرة، هو استحداث النضال الشعبي الفلسطيني على شكل مسيرات شعبية عرفت بـ «مسيرات العودة الكبرى» والطائرات الورقية والبالونات الحارقة في سنة 2018، إذ انطلقت مسيرات العودة وكسر الحصار قرب السياج الأمني الفاصل بين شرق قطاع غزة والاحتلال الإسرائيلي.
إن مسيرات العودة حققت إنجازات على المستوى المحلي، تتمثل في نجاحها في ترسيخ ثقافة المقاومة الشعبية لدى الفلسطينيين، وتحقيق بعض التسهيلات المعيشية للقطاع على مستوى إعادة تفكيك الحصار ضمن تفاهمات التهدئة. فضلاً عن ذلك، أدرج الفلسطينيون المقاومة السلمية في جدول أعمالهم، كشكل جديد للمقاومة في قطاع غزة، بعد أن كانت المقاومة قد أخذت فيها طابعاً مسلحاً.
كذلك نجح الفلسطينيون خلال مسيرات العودة في الاصطفاف ضمن قرار واحد، إذ شارك جميع الفصائل، بما فيها حركة «فتح» (انسحبت لاحقاً بسبب تداعيات الانقسام) في فعاليات هذه المسيرة، الأمر الذي أعطى هذه المقاومة زخماً شعبياً وجماهيرياً كبيراً في صفوف الفلسطينيين.
أفق التصعيد الفلسطيني في الضفة الغربية
إن معقولية استمرار التصعيد على الساحة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي شهدناها في الأعوام الأخيرة، ربما ترتفع، بعد فترة لا يستهان بها من الهدوء النسبي، إذ إن حالة الغليان وتصعيد المواجهة يرتبطان بعدة متغيرات ومستجدات، أبرزها ما يلي: انعدام أفق عملية سياسية أدى إلى فقدان الأمل بالتغيير لدى الفلسطينيين؛ القطيعة المعلنة والتصعيد العلني والاستثنائي اللذان تقوم بهما القيادة الفلسطينية تجاه الإدارة الأميركية؛ الشعور المرير بالعزلة لدى الفلسطينيين في ظل غياب دعم الدول العربية؛ الوضع الاقتصادي المتردي في قطاع غزة؛ محاولة تنظيم عمليات في الضفة وحدود غزة؛ مسيرات العودة المستمرة في قطاع غزة وغيرها.
هذه المعقولية تنسجم مع تقارير شعبة الاستخبارات العسكرية أمان، التي تتوقع قرب نهاية ما سمته «عقد الهدوء النسبي» في الضفة الغربية، وخصوصاً في ظل غياب أي أفق سياسي للحل، وفي ضوء قرار الرئيس ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها.
على الرغم من تراجع العمليات الفردية فإن حالة المزاج الشعبي العام تنذر بتفجر الغضب الفلسطيني في مرحلة ما، إذ إن العوامل المثيرة للغضب لن تتلاشى، بل تتصاعد في ظل سياسة حكومة اليمين الأيديولوجي في إسرائيل التي أجهضت أي محاولة وإمكان لطرح سيناريوهات إعادة التفاوض بين الطرفين، بل هناك رفض سياسي وأيديولوجي لوجود شريك فلسطيني قابل للتفاوض. لهذا، لا تستبعد تقديرات الأجهزة الأمنية بأن الجبهة الأكثر احتمالاً للاشتعال هي الضفة الغربية، أي الجبهة غير المتوقعة. وتشير بيانات جهاز الشاباك إلى ارتفاع بنحو 15% في عدد العمليات والأحداث في الضفة الغربية سنة 2018.
قطاع غزة بين المواجهة
المضبوطة والتهدئة الضعيفة
يراوح المشهد الأمني بين التصعيد المنضبط والتهدئة الموقتة، وبقاء الأمور على ما هي عليه في قطاع غزة منذ الحرب على غزة سنة 2014. وتؤسس القيادة الإسرائيلية استراتيجيتها العسكرية تجاه القطاع بناء على استخلاص أهم العبر لحروبها المتتالية على غزة، وهي «توافق» آليات الإنهاء والترتيب مع حركة «حماس» من أجل تحقق الغاية الاستراتيجية للطرفين. بمعنى أن إسرائيل اختارت تحديد «حماس» كالعنوان المسؤول في القطاع، إلى جانب ممارسة الجهد المستمر في إضعافها، لكنها لم تضع لنفسها هدف تدمير الحركة في القطاع. وفي المقابل، كانت غاية الحركة بعد أي عدوان إعادة مكانتها بصفتها اللاعب المركزي ذا القوة وقدرة التحكم في القطاع، لإحداث أي تغيير في موقف إسرائيل (ومصر) منها. إلى جانب ذلك، تسعى «حماس» لكسر الحصار على القطاع بتوسيع الحركة في المعابر الإسرائيلية، وفتح متواصل لمعبر رفح إلى مصر، وتحويل الأموال إلى القطاع، وتسهيلات في مجال كل من الصيد والتجارة والزراعة وغيرها.
تقبل إسرائيل بحالة التهدئة الضعيفة كحد أدنى، وتسعى لهدنة طويلة الأمد كحد أقصى، لعلاقاتها بحركة «حماس» ما دام مستوى الردع ضدها قائماً ولم يتغير، وهو ينعكس بعدم وجود تأييد جارف في قطاع غزة نحو الحرب، وأن «حماس» ليست معنية في المرحلة الراهنة بخوض مواجهة ضد إسرائيل، ولا يوجد تغيير ملموس بقدراتها القتالية والردعية منذ الحرب على غزة سنة 2014، على الرغم من سعيها لتعزيز قدراتها القتالية والصاروخية.
نلحظ قراءات لجهات غير رسمية أو حكومية، وخصوصاً لجنرالات متقاعدين، تتخوف من أن استمرار الضغط والحصار على غزة، ربما يؤديان إلى فقدان الفلسطينيين أي خيار آخر إلاّ التدحرج نحو الحرب. وستجد «حماس» وإسرائيل نفسيهما في نقطة تحول، بحيث تشهد غزة مزيداً من فقدان الضوابط، ورغبة في الدخول في مخاطرات، وتقف إسرائيل أمام تبلور وضع غير محتمل بانعدام رسم «خطوط حمراء»، يُفترض تجاوزها من جانب كتائب القسام، سيؤدي إلى شن «ضربة استباقية» أو «حرب وقائية» قصيرة وقوية.
بمفهوم آخر: ستتمسك «حماس» باستخدام الحراك الشعبي من جهة، وتكثيف محاولات كتائب القسام القيام بعمليات عسكرية تهدف إلى تصعيد محدود على الخط الحدودي بهدف الضغط على إسرائيل من أجل تخفيف الحصار من جهة أُخرى. وفي المقابل، لن تقدم إسرائيل تنازلات من دون ثمن مقبول، الأمر الذي ربما يهدد استمرارية الوضع القائم، إذ إن ديناميكيات التصعيد لا يمكن التحكم فيها دائماً، وأن عدم الرغبة في الحرب لا يضمن عدم الانزلاق إليها.
إن احتمالات تصعيد المواجهة القائمة على حدود قطاع غزة إلى حرب فعلية يبدو ضعيفاً من دون أفق واضح لما بعد هذه المواجهة، من الجانب الإسرائيلي، وخصوصاً أن التقديرات العسكرية تشير إلى أن «حماس» ما زالت مردوعة. ولعل المعيار الأساسي لعملية الردع مقابل «حماس» يكمن في سرعة عودة الهدوء إلى قطاع غزة، بواسطة «الهجمات الوقائية» أو «الاستباقية» وفقاً للبيئة الاستراتيجية الممكنة، والمبادرة من فترة إلى أُخرى إلى استهداف كوادر من صفوف فصائل المقاومة الفلسطينية، بهدف ردعها وإبقائها في حالة الدفاع.
فضلاً عن ذلك، في خلفية صنع القرار في إسرائيل والاضطرار إلى مراعاة سقوف محددة من التصعيد تجاه «حماس»، يحضر الوضع السياسي الإقليمي بعدم إرباك وعرقلة الانفراج في العلاقات ببعض الدول العربية والإسلامية.
خلاصة القول، فيما يتعلق بالمشهد الأمني الإسرائيلي – الفلسطيني، فإن هناك تحولاً في المعادلة الاستراتيجية السائدة في السنوات الأخيرة أن القضية الإسرائيلية – الفلسطينية كانت «قابلة للإدارة» وليست «قابلة للحل»، وقد تصبح «غير قابلة للإدارة» في المرحلة المقبلة كونها «غير قابلة للحل».
رابعاً: مشهد العلاقات الإسرائيلية - السورية:
الجبهة السورية تهديد استراتيجي
جديد لإسرائيل
قضت الحرب الأهلية في سورية على الهدوء الأمني الضبابي الذي كان قائماً بين إسرائيل وسورية لأكثر من أربعة عقود. فعلى الرغم من حالة «الحرب الرسمية» المستمرة بين البلدين، والدور السوري النشيط كممر إمداد أساسي بين إيران وحزب الله، بقيت الحدود بين البلدين هادئة منذ انتهاء حرب أكتوبر 1973، على الرغم من التطورات السياسية والعسكرية المتغيرة. كذلك، كان نظام الأسد ما قبل الحرب الأهلية بمثابة قوة استقرار على مستوى العلاقات بين البلدين، نتيجة رغبته في الحفاظ على حالة من الهدوء على الحدود بين البلدين.
وقد ارتكزت هذه الرؤية من جانب إسرائيل على ركيزتين: أولاً، إن الأسد حاكم مستقر يمارس سيطرة كاملة على قواته المسلحة. ثانياً، تمكّن إسرائيل من ردع النظام السوري عن الدخول في مواجهة عسكرية معها في هضبة الجولان.
من نافل القول، إن اندلاع الحرب الأهلية في سورية غيرت المعادلة الاستراتيجية وجعلتها غير واضحة بالمعايير والحسابات الإسرائيلية، بل أربكت التقديرات الاستراتيجية الإسرائيلية والغربية. وتخبطت وتنوعت التقديرات الاستخباراتية بشأن مصير سورية. فمن جهة، هناك إجماع إسرائيلي على جزئية السيناريو المفضل، وهو الغرق العميق والمستمر لسورية في حالة الفوضى المستمرة، لأنه يتيح إمكان شطبها من معادلة القوة التي ربما تواجهها إسرائيل في الشرق الأوسط. كما يعني مباشرة اختلال ميزان القوى الإقليمي لغير مصلحة إيران، وهو ما يعني إمكان إضعافها في معادلة التوازن الإقليمي في الشرق الأوسط. ومن جهة أُخرى، تباينت التقديرات بحتمية بقاء أو سقوط نظام الأسد، ولا سيما أيهما الأفضل بالنسبة إلى إسرائيل.
منذ سنة 2014، طرأ تحول في ميزان القوة لمصلحة نظام الأسد وحلفائه، وبدأت مرحلة جديدة من إدارة الصراع. وينظر صناع القرار في إسرائيل إلى هذا التحول في مجرى «الحرب الأهلية السورية» بصفته مرحلة مهمة وخطرة، إذ تتشكل بنود الانخراط وقواعده الرئيسية لجميع القوى المعنية بالشأن السوري. ويكمن مصدر القلق عند إسرائيل في أن الفشل في تحدي الوجود الإيراني في سورية ربما يسفر عن تطورات دائمة سيصبح من الصعب فيما بعد تغييرها. كذلك، كان النظام السوري قادراً خلال الحرب على التحكم في موقف حزب الله وسياسته العملانية بالتنسيق مع إيران، وبما يتفق مع المصالح السورية. لكن، في المرحلة الراهنة، ونظراً إلى دور إيران وحزب الله المحوري في ضمان بقاء نظام الأسد، يمكن القول إن حالة الاعتماد المتزايد من جانب النظام السوري على كل من إيران وحزب الله، قيدت بشكل حاد رغبة سورية وقدرتها على تقييد حرية التحرك في أراضيها.
بمعنى آخر: إن محدودية سورية في اتخاذ القرار، إلى جانب اختلال سيطرتها على منطقة الحدود، غيرت من معادلة الردع القديمة لإسرائيل في مواجهة نظام الأسد. وفرضت على صانع القرار في إسرائيل ضرورة تغيير المقاربة إزاء المخاطر على الجبهة الشمالية.
وفي المقابل، تبددت نهائياً التوقعات الإسرائيلية السابقة بشأن الانهيار السريع لنظام الرئيس بشار الأسد، مع تعزيز لوضع جيش النظام ميدانياً وإعادة سيطرته على معظم الأراضي السورية. بل تشير التقديرات الاستخباراتية الإسرائيلية إلى عدم وجود تغيير في سلوك النظام السوري، وسيبقى نظام الأسد على نهجه التقليدي، من جهة استعمال جميع إمكاناته وتكتيكاته تجاه المناطق غير الخاضعة لسيطرته، أو من جهة التشدد تجاه عملية التسوية السياسية، واتهام القوى السورية المعارضة، وتضييق نطاق العملية السياسية. كما أن النظام السوري يستغل الأزمات الإقليمية والدولية، وخصوصاً، من الناحية العسكرية، ويعزز موقفه الدفاعي عندما يتسلم 3 وحدات من منظومة «إس – 300»، تستطيع كل منها القيام بالرصد والتصدي للعديد من الأهداف على مدى يتراوح ما بين 250 إلى 300 كلم، إضافة إلى منظومة «إس – 200» التي يمتلكها النظام السوري حالياً، والقادرة على مواجهة الصواريخ الباليستية وبعض الطائرات المتطورة.
بالمعنى العسكري، تعزز سورية باستمرار قدراتها على «الردع بالعقاب» الذي يقصد منه تعزيز قدرتها الردعية من خلال الاعتماد على علاقاتها بقوى تشكل مصدر قلق وخوف لإسرائيل، كدعم حزب الله عسكرياً ودعم إيران على الأقل سياسياً ومعنوياً.
في سياق الرؤيا الاستراتيجية تجاه الوضع السوري، يرتكز الموقف الإسرائيلي على حالة التموضع العسكري الإيراني في سورية، ودعم إيران لحلفائها الفاعلين على الأرض السورية، الأمر الذي ينعكس في رفع سقف التحديات والخطر الإيراني إلى اعتبار أن إيران انتقلت إلى حدودها، وأنها باتت تشكل خطراً وجودياً عليها. وتتمسك الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بمطالبتها روسيا – باعتبارها الجهة الضابطة للصراع الإسرائيلي – الإيراني في سورية من وجهة النظر الإسرائيلية – بإبعاد الإيرانيين وحزب الله 80 كيلومتراً، على الأقل، من الحدود الإسرائيلية، وذلك كخطوة موقتة إلى حين التجاوب مع المطلب الإسرائيلي بالانسحاب الكامل للقوات الإيرانية من سورية، وهو مطلب ترفضه موسكو في الوقت الحالي.
وفي سياق الاستراتيجيا العسكرية الإسرائيلية، لم تتراجع إسرائيل منذ أربع سنوات متتالية عن توجيه ضربات جوية لمواقع متعددة على الساحة السورية، في حين تؤكد تمسكها بقواعد الاشتباك، وأن حدوده ما زالت ترسمها أربعة «خطوط حمراء» لن تسمح إسرائيل بتجاوزها في سورية، تتمثل في: انتقال أسلحة وصواريخ متطورة من إيران إلى سورية ولبنان؛ اختراق السيادة الإسرائيلية؛ بناء قواعد عسكرية إيرانية في سورية؛ بناء مصنع لتصنيع الصواريخ في لبنان.
من هنا، تتمحور التقديرات الاستراتيجية منذ سنة 2018، حول المشهد الأمني العسكري في سورية تحت مؤشر أساسي هو مواجهة الوجود العسكري الإيراني وتداعياته من دون محاولات الاستشراف السابقة عن مصير النظام السوري وبشار الأسد. وبحسب التقديرات الاستراتيجية، على إسرائيل العمل ضمن الافتراض أن نظام الأسد باقٍ في صيغته الحالية في المرحلة الراهنة، مع إمكان شطب سورية من معادلة القوة التي تواجهها في الشرق الأوسط. وفي المقابل، أدى الوضع السوري إلى اختلال موازين القوى الإقليمية لمصلحة إيران وحلفائها، وعزز الحضور الاستراتيجي الفعلي لروسيا لأمد بعيد. هذا التقدير ينسجم مع تصريحات نتنياهو بأنه «لا مشكلة لإسرائيل مع نظام عائلة الأسد، وأن إسرائيل لن تتدخل في سورية في حال تم الحفاظ على اتفاقيات وقف إطلاق النار في هضبة الجولان.»
العمليات العسكرية الإسرائيلية منذ
سنة 2018: مؤشرات وتقديرات
تُعتبر سنة 2017 من أكثر السنوات التي شهدت عمليات عسكرية إسرائيلية في سورية، إلاّ إن سنة 2018 شهدت تصعيداً على مستوى وشكل وخطورة المواجهة بين الأطراف. لقد شهدت الجبهتان السورية والإسرائيلية تبادلاً للقصف الصاروخي على شكل جولات متقطعة منذ كانون الأول / ديسمبر 2017 حتى أيار / مايو 2018، والأهم أنه تبعها رد إسرائيلي بقصف مكثف من عشرات الصواريخ التي استهدفت خمسة مواقع إيرانية في سورية، ادعى الجيش الإسرائيلي أنها شلّت البنية التحتية العسكرية الإيرانية فيها.
يمكن الافتراض أن الضربات العسكرية الإسرائيلية بقيت في سياق الضربات الاستباقية التي تستهدف عرقلة النفوذ الإيراني في سورية وضرب حزب الله هناك. إلاّ إنها استدرجت ضربات متبادلة بين سورية وإسرائيل، فرضت متغيراً جديداً على قواعد الاشتباك بين الجانبين، يتمثّل في دفع الجهات الفاعلة الأُخرى إلى إمكان المواجهة المباشرة.
وفي سياق متصل، تعترف إسرائيل بأنه لا يمكنها تجاهل القيود الروسية على نشاطها الجوي في سورية، بحيث لا بد لها من اتباع معايير واضحة ودقيقة يجري اتباعها وفقاً للاتفاق الروسي – الإسرائيلي غير المعلن. ومن هذه المعايير ضرورة توفر معلومات استخباراتية دقيقة ومؤكدة عن المواقع التي تنوي إسرائيل استهدافها في سورية.
تدرك إسرائيل أن تعاظم التهديد الإيراني في سورية على أمنها، يستحق منها المجازفة، وإن أدت إلى استفزاز نسبي للجانب الروسي. هذه السياسات تسير على حبل دقيق جداً، ومن الممكن أن تؤدي إلى الانفجار، وهو ما يفسر الحذر الذي أبدته إسرائيل خلال اعتدائها. إذ إنها عمدت إلى اختبار الحد الأدنى الذي يلبي أدنى مستوى من «الخطوط الحمراء» ومن دون تعريض الروس للخطر، في حين أن الهدف ومستواه لا يجران بذاتهما غضباً روسياً.
لعل الضربات الجوية للقواعد الإيرانية في السابع من كانون الأول / ديسمبر 2018 تضع عنواناً للمرحلة المقبلة، وهو أن التهديد الأكبر لإسرائيل في الجبهة الشمالية هو التموضع العسكري الإيراني في سورية، باعتبار أن إيران تسعى لبناء قوة تُقدّر بـ 100,000 جندي مع قدرات قتالية بحرية وبرية واستخباراتية. إن إيران تخطط لبقاء قوات عسكرية في سورية فترة طويلة، من أجل الحفاظ على النظام السوري وتهديد إسرائيل. وفي مرحلة تضطر إيران إلى سحب قواتها، تعتمد على حزب الله ووحدات شيعية عراقية تحت قيادة الحرس الجمهوري الإيراني. لهذا، إن احتمالات المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل في سورية قائمة، بل يشير معظم التصريحات الرسمية والتقديرات العسكرية الإسرائيلية إلى أن المواجهة المقبلة باتت مجرد «مسألة وقت»، على الرغم من أن المواقف الرسمية الإسرائيلية تؤكد عدم تغير قواعد الاشتباك.
خلاصة القول، أن التغير في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل على الجبهة السورية حيث تواجه إسرائيل ما تسميه «تهديداً إيرانياً استراتيجياً» في ظل تثبيت تموضعها العسكري والسياسي في سورية، ينعكس في شكل العمليات العسكرية الإسرائيلية، وقد يضع إسرائيل أمام مأزق استراتيجي هو مدى فعالية الاستمرار في استراتيجيا «المعركة بين الحربين»، والمحافظة على «الخطوط الحمراء»، وعدم الإخلال بقواعد الاشتباك.
الانسحاب الأميركي من سورية
في نيسان / أبريل 2018، أعلن الرئيس ترامب قراره بسحب القوات الأميركية من سورية تحت شعار أن «المعركة مع تنظيم الدولة انتهت، وأن التنظيم لم يعد يشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي.»
يُشار إلى وجود 2200 جندي أميركي في شرق وشمال شرق سورية، أغلبيتهم من القوات الخاصة والخبراء العسكريين، في عدة مواقع قرب القامشلي والحسكة، بما في ذلك أربع قواعد جوية، وكذلك في عدد من المواقع على الجانب السوري الحدودي مع الأردن وفي المناطق الصحراوية جنوب شرق سورية. وتحتفظ هذه القوات بسلاح ثقيل، ويدعمها غطاء جوي قوي وكثيف، وتعمل بالتعاون مع آلاف المسلحين الأكراد في شمال شرق سورية، أو مجموعات من المسلحين السوريين المعارضين للنظام.
إن الانسحاب الأميركي البري من سورية يزيل عن إسرائيل مظلة كبيرة جداً كانت مؤثرة في مجرد وجودها، ضد أعدائها المباشرين: إيران وحزب الله، إذ يترك فجوة هائلة في استراتيجية محاصرة إيران. فمن الواضح، أن الانسحاب من سورية يوفر منفذاً استراتيجياً لإيران ولنفوذها المتسع في العراق وسورية ولبنان من جهة. ومن جهة أُخرى، ربما يقلص هامش مناورتها العسكرية في سورية، ويحدّ من إمكاناتها العملانية فيها ضد أعدائها.
كذلك، تدرك إسرائيل أن الوجود العسكري الأميركي يعزز نجاعة التنسيق الاستخباراتي وفعاليته بين الدول المعنية فيما يتعلق بنقل السلاح والمعدات القتالية عبر ممرات برية تبدأ في إيران وتنتهي في لبنان، مروراً بالأراضي العراقية والسورية.
ولعل القلق الأساسي هو تخوف إسرائيل من أن الانسحاب سيعني «تراجع صورة الردع الإسرائيلي العسكري»، لأن صورة هذا الردع لا تكتمل إلاّ بعمق التحالف مع الولايات المتحدة، ولا سيما أن إسرائيل تنظر إلى الوجود العسكري الأميركي وفعاليته في سورية كداعم أساسي لمصالحها العسكرية والأمنية.
التصعيد العسكري:
احتمالاته واتجاهاته
تشير مضامين الخطاب الاستراتيجي الصادر عن المستوى السياسي – العسكري في إسرائيل، إلى سيناريوهين محتملين:
السيناريو الأول: تدخل إسرائيلي مرافق بخطر تصعيد غير مقصود.
من المتوقع أن يؤدي تصاعد النفوذ الإيراني في سورية، في ظل امتناع روسيا والولايات المتحدة من اتخاذ أي إجراءات واضحة لتقييد هذا النفوذ، إلى تدخل استباقي ومتفرد لصناع القرار الإسرائيليين لهذا النفوذ. ومن المرجح، أن تجهد إسرائيل لفرض «خطوط حمراء» جديدة، تماشياً مع دور إيران في الساحة السورية، وجهودها لزيادة القدرات الاستراتيجية لحلفائها. وربما تتضمن مثل هذه الخطوط نشر أنظمة أسلحة متقدمة على الأراضي السورية، وإعادة بناء إمكانات سورية وحزب الله لإنتاج أسلحة متطورة، ونشر قوات عسكرية لإيران وحلفائها في قواعد بحرية وجوية.
السيناريو الثاني: قبول إسرائيل بوجود إيران وفقاً لشروط محددة.
بحسب هذا السيناريو، تقبل إسرائيل بشكل غير علني بوجود عسكري محدود للقوات المدعومة إيرانياً في سورية، لكن وفقاً لقيود خاصة مُتفق عليها مع روسيا والمجتمع الدولي. وفي هذا السيناريو، يتم الاتفاق، بجهود روسية، على تقبل إسرائيل بموجبه الوجود المستمر للقوات المدعومة إيرانياً في سورية، وفي الوقت ذاته توضع ضمانات لتهدئة مخاوف إسرائيل من أن تتحول سورية إلى منصة للعدوان الإيراني.
يتضمن المشهد الحالي دوافع متناقضة، جزءاً منها يدفع نحو التهدئة، والتقليل من احتمالات مواجهة شاملة بين الأطراف، وجزءاً آخر يدفع نحو استعجال المواجهة، بغض النظر عن ماهيتها والسيناريوهات المرتبطة بها. فمن جهة، هناك قراءة عن أن وجود روسيا كوسيط فعال في المنطقة، يقلل بشكل ملحوظ إمكان التصعيد المفتعل من جانب إسرائيل أو المحور المدعوم من إيران. إذ إن اندلاع مواجهة في سورية ستكون معرقلة لجهود روسيا في إعادة ترميم قدرات النظام وفعالية الجيش السوري.
وفي المقابل، فإن تبنّي إسرائيل استراتيجيا «الضربة الاستباقية»، يرفع من احتمالات حدوث تصعيد غير مقصود. إذ من المحتمل حدوث مثل هذا التصعيد إذا ما استمرت إسرائيل في توجيه ضربات جوية ضد بنى تحتية استراتيجية. بمعنى أنه في حال تحول تلك الهجمات إلى نهج وسياسة عملانية إسرائيلية جديدة، فمن المفترض أن تستدعي ردة فعل من إيران وسورية، وفى الوقت ذاته ستقل رغبة روسيا في منع هذه الاستجابات.
إن محاولة إسرائيل معارضة ازدياد النفوذ الإيراني في سورية، تزيد في احتمال اندلاع حريق بين إسرائيل والمعسكر المدعوم من إيران. بمعنى أن إسرائيل وإيران تظهران في الساحة السورية كلاعبين إقليميين لديهما مصالح متضاربة. وتعملان في ظل غياب أي منظومة أمنية واضحة تحدد توقعاتهما المتبادلة وتنظم تحركاتهما. وبالتالي، في ظرف كهذا، فإن عدم التقدير أو الفهم الصحيح قد يتسبب بتحريك الأوضاع في اتجاه التصعيد ولو غير المقصود أيضاً.
التوظيف الإسرائيلي لتهديدات
داعش وجبهة النصرة
في سياق الأزمة السورية، سرعان ما بدأت التنظيمات الإسلامية بالتدمير المنهجي لأنظمة الدفاع الجوي ومراكز الرصد والاستطلاع المبكر للجيش السوري، واستهداف الألوية المستقلة في خطوط الدفاع السورية الأولى، كاللواءين 61 و90، الأمر الذي تم بالتنسيق والإدارة بين قيادات التنظيمات المسلحة، ولا سيما جبهة النصرة وإسرائيل. ونشرت الصحافة الإسرائيلية في شباط / فبراير 2015، عن سعي شعبة الاستخبارات العسكرية أمان، بالتكافل والتضامن مع الاستخبارات الأردنية، لتوحيد المسلحين في الجنوب السوري، عن طريق الدعم بالسلاح والمال وأجهزة الاتصال وبعض حالات الدعم الميداني المباشر خلال المعارك، بعد أن كان الدعم يقتصر في الإعلام على علاج الجرحى وتقديم المساعدات الإغاثية. ويأتي هذا الوضوح مع تقارير الأمم المتحدة عن التعاون بين إسرائيل والمسلحين. هذا الدعم والتنسيق العلني، وخصوصاً مع جبهة النصرة استمرا حتى سنة 2018، إلى أن حُسم مصير الجبهة الجنوبية لمصلحة الجيش السوري.
في المجمل، لم تخشَ إسرائيل من تحول المخاطر «الهامشية» الناجمة عن التنظيمات الإسلامية المتطرفة، مثل جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية، ضدها إلى تهديد مباشر، من دون إخفاء مكاسب توظيفها كورقة سياسية معتبرة في خدمة مشروعها في الأراضي المحتلة، بعيداً عن ضغط المساءلة العربية والدولية.
خامساً: مشهد العلاقات بين إسرائيل وحزب الله:
سلاح حزب الله حاضر ومؤثر
لدى صناع القرار في إسرائيل
إن سلاح حزب الله حاضر ومؤثر لدى صناع القرار السياسي والعسكري في إسرائيل، وتصنفه المؤسسة العسكرية كتهديد استراتيجي حقيقي على إسرائيل بسبب سعي الحزب الدؤوب لزيادة قدرته النارية البعيدة المدى، ومواصلة تنمية قدراته العسكرية الهجومية للحصول على أسلحة هجومية متقدمة، تزيد في قدرته على استهداف إسرائيل في صراعات مستقبلية، الأمر الذي ينسجم مع الترويج الدائم لسيناريوهات حرب محتملة، وينعكس في الاستعدادات العلنية لها. ونفّذ الجيش الإسرائيلي على مدار السنوات الماضية مناورات عسكرية كثيرة تشكل واقعاً افتراضياً لحرب مستقبلية ضد حزب الله، وأعلن الجيش الإسرائيلي سنة 2018 تخصيص ميزانية تصل إلى ثلاثين مليار شيكل عنوانها الأساسي تسليح الجيش الإسرائيلي لحماية الجبهة الداخلية من الهجمات الصاروخية، سواء من الجبهة الشمالية، وخصوصاً صواريخ حزب الله، أو من الجبهة الجنوبية.
منذ حرب لبنان الثانية سنة 2006، تتبنّى المؤسسة العسكرية تجاه حزب الله استراتيجيا «المعركة بين حربين» نتيجة واقع «الردع المتبادل» وفرض «التهدئة القسرية» بين الطرفين. واستمرت الاستراتيجيا العسكرية بسبب وجود عدة عوامل: الأول، قدرات حزب الله زادت وتطورت كثيراً، وباعترافات استخبارات الجيش الإسرائيلي وجنرالاته، إذ ازداد عدد الصواريخ والقدرة التدميرية، فضلاً عن تطوير التكتيكات والتقنيات العسكرية. الثاني، عدم التأكد من جاهزية الجبهة الداخلية الإسرائيلية لخوض الحرب، وخصوصاً أنها ستتعرض في الحرب المقبلة لضغط أشد كثيراً من الحرب السابقة. الثالث، إسرائيل لا تملك منظومات دفاعية قادرة على التعامل مع تهديد صواريخ حزب الله.
لا ريب أن بناء حزب الله قدرات مرتبطة بالصواريخ الدقيقة يمثل مستوى جديداً من التهديد الاستراتيجي العالي، بسبب قدرة تلك الأسلحة على إصابة عمق إسرائيل الاستراتيجي، إلى حد تعطيله أو شله فترة زمنية، وإلحاق أضرار مادية جسيمة بالجبهة الداخلية والمنشآت الحيوية. هذه المنظومات الصاروخية الدقيقة تمثل مستوى غير مقبول من التهديد الاستراتيجي لإسرائيل، ولا سيما أن الخبراء العسكريين لا ينفون حقيقة عدم قدرة أنظمة الدفاع الصاروخي المتقدمة، مثل القبة الحديدية، ومقلاع داود، وباتريوت، وغيرها، على توفير حماية وتغطية شاملة ومثالية. من هنا، كما ذكرنا سابقاً، فإن إسرائيل أمام معضلة استراتيجية في مواجهة الصواريخ الدقيقة.
أحد الأمثلة الرئيسية للتهديد الصاروخي هو إمكان امتلاك حزب الله صاروخ «رعد»، الإيراني الصنع، وصاروخ «ياخنت» وهو صاروخ بر – بحر فوق صوتي من إنتاج روسيا، وهو من الأكثر تقدماً في العالم. إذ سيطور الحصول على هذه الأنظمة الصاروخية، على نحو خطر، من قدرة حزب الله على استهداف مواقع مدنية وعسكرية استراتيجية حيوية في إسرائيل، ثم رفع الثمن الذي ستدفعه إسرائيل في صراعات مستقبلية.
وبحسب «العداد الإسرائيلي» لترسانة حزب الله من الصواريخ، ارتفع إلى 150,000 مع قدرة على إطلاق تبلغ 1000 صاروخ يومياً. ويُنشر منها نحو 80,000 صاروخ في البقاع والجنوب موجهة نحو إسرائيل، فضلاً عن محاولات إيران الدائمة لإمداد حزب الله بقدرات مستقلة لإنتاج أسلحة متقدمة وذخيرة، ومثل هذه القدرات سيزيد في الصمود العملاني للتنظيم ومرونته في المواجهات المستقبلية.
الجديد في التقديرات الاستراتيجية منذ سنة 2017، ليس محاولة اختبار قدرات حزب الله القتالية، ومدى جاهزيته العسكرية في لعبة «قواعد الاشتباك»، بل قراءة فصل جديد في وضعية الحزب في ظل الأزمة السورية. إذ إن إسرائيل باتت مقتنعة بأنه لا يمكنها وقف تعاظم قوة الحزب، بينما ينصب الاهتمام على النوعية، وعلى مراقبة الخبرات المتراكمة جراء الحرب في سورية، وعلى التحول الجوهري في العقيدة القتالية.
لقد تبدلت التقديرات العسكرية فيما يتعلق بالعلاقة بين «منسوب الردع الإسرائيلي» تجاه حزب الله وبين تورطه في الأزمة السورية والخلل في البيئة الشعبية الداخلية الحاضنة له. هناك إجماع على قراءة جديدة تفترض أن الحرب في سورية أوجدت واقعاً جديداً بالنسبة إلى تعامل إسرائيل مع الحزب. فالأزمة السورية وتهريب السلاح إلى لبنان زادا في إمكان وجود سلاح متطور لديه يحوله من منظمة «إرهابية» إلى جيش متطور وناجع، ويودع في أيديه أدوات مهمة في الصراع ضد إسرائيل.
وترى إسرائيل أن حزب الله يشعر اليوم، وأكثر من أي وقت مضى منذ السنوات الأربع الصعبة من الحرب السورية، بأنه بات أكثر قدرة على التحرك إقليمياً ودولياً ومحلياً، وتموضعه في سورية جعله رقماً صعباً في المعادلة المقبلة. ولا شك أيضاً في أن تحسين وضع الجبهة السورية لمصلحة النظام السوري، يساعد في توفير بيئة أفضل لعمليات الحزب. ووفقاً للتقديرات الإسرائيلية، يسعى حزب الله لتوظيف وجوده العسكري على الأراضي السورية لمصلحته في حال دخوله في أي مواجهة عسكرية مع إسرائيل، حيث سيسعى للاستفادة من ذلك لتوسيع حدود الجبهة البرية مع إسرائيل. أضف إلى ذلك، أن القيادة العسكرية في إسرائيل لم تخفِ قلقها إزاء النضج العسكري الذي اكتسبه الحزب في سورية.
وفي سياق متصل، يمكن القول إن ازدياد النفوذ الإيراني في سورية، ودعمها حزب الله، يشكلان معضلة خطرة لصناع القرار السياسي والقرار العسكري في إسرائيل، ويحفزهم على العمل والتحرك الفوري، في ظرف تتبلور التسوية المستقبلية في سورية، لكي تتجنب إسرائيل القبول بأمر واقع غير مرغوب فيه، تصبح معه الحدود الشمالية لإسرائيل معقلاً للتنظيمات المسلحة الموالية لإيران. وقد تعززت هذه الفكرة مؤخراً بسبب ما تراه إسرائيل من عدم وجود أي التزام فعلي من جانب الدول الفاعلة في سورية، روسيا والولايات المتحدة، بمقتضيات الأمن القومي الإسرائيلي.
ومن هذا المنطلق، فإن إسرائيل تطمح إلى تقليل الدعم الإيراني والسوري لحزب الله، وإيقاف عمليات نقل أسلحة كاسرة للتوازن له، وخصوصاً صواريخ أرض – جو، وصواريخ كروز المضادة للسفن.
أفق التصعيد والمواجهة العسكرية
تقتصر المواجهة العسكرية مع حزب الله على الضربات الجوية في العمق السوري لمنع وصول قوافل الصواريخ إليه عبر الأراضي السورية، أو لتدمير مخازن السلاح الإيرانية القريبة من الحدود اللبنانية. ولدى إسرائيل العديد من التفاهمات مع الحكومة السورية لمنع اقتراب الحزب من الحدود الشمالية لإسرائيل مع سورية. ويمكن القول إن العلاقة بينه وبين إسرائيل تدور في إطار هذه المعادلة والتفاهمات، وقد تؤدي أي محاولة لكسر التوازن القائم إلى حدوث توترات ربما تقود إلى تصعيد عسكري.
لا تستبعد شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية إمكان نشوب حرب، لكن هذا لا يعني بالضرورة ترجيحاً لها؛ أي من الضروري التمييز بين حصول «مواجهة محدودة» والانزلاق نحو حرب شاملة بعد اعتداء إسرائيلي عيني. بكلمات أُخرى: إن وجود إمكان أن تؤدي ديناميكية التطورات على الجبهة الشمالية إلى نشوب حرب، لا يعني أننا أمام سيناريو حتمي، بل ولا حتى ترجيح بالضرورة، في حال أن الطرفين غير معنيين بالحرب.
كذلك، إن منسوب احتمال الحرب ما زال ضعيفاً، لكنها واردة بسبب عدم تقدير ردة فعل الطرف الآخر نتيجة عملية موضعية. من جهة، هناك إجماع دولي على ضرورة استقرار لبنان في المرحلة الراهنة، لأن حالة الردع المتبادل ما زالت مهيمنة، وعلى الأرجح أن تكون هذه الحرب أكثر عنفاً ودماراً من الحروب السابقة، بسبب تحسينات قام بها كلا الطرفين في القدرات العسكرية في هذا الوقت. ومن جهة أُخرى، إن تزويد ترسانة حزب الله بأنظمة صواريخ دقيقة تشكل أزمة استراتيجية لإسرائيل، قد تفتح المجال أمام المغامرة بضربة استباقية ربما لا تدفع الحزب إلى الرد والمواجهة، وفقاً للتقديرات الإسرائيلية؛ أي أن هامش التروي والانضباط بدأ ينفد مع مرور الوقت، وخصوصاً من جانب الطرف الإسرائيلي.
سادساً: مشهد العلاقات الإسرائيلية - المصرية:
العصر الذهبي للعلاقات الأمنية
الإسرائيلية - المصرية
منذ الثورة وسقوط حكم الرئيس مبارك سنة 2011، تُؤسس إسرائيل موقفها الرسمي من العلاقات الثنائية بين البلدين على الاعتقاد أن العلاقات مع مصر مرتبطة بميراث تاريخي طويل من الحروب تكلل بسلام حققته معاهدة كامب ديفيد التي أسست لعلاقات معقولة بين الدولتين، بالحد الأدنى، لا يبقي مجالاً للحديث عن عدم شرعية دولة إسرائيل، وأنها أصبحت بحكم القانون المصري دولة جارة.
إن تطورات الأحداث في مصر في الأعوام الأخيرة، بما انطوت عليها من تحولات جسيمة، شكلت فرصة لصناع القرار السياسي والقرار الأمني في إسرائيل لاختبار النيات وإعادة دراسة معطيات الواقع على أسس جديدة. وعلى الرغم من القلق والمخاوف من التوجهات الجديدة بعد الثورة، المستندة بأشكال متعددة إلى زخم جماهيري، أو إلى انتخابات ديمقراطية، فإن عدداً من أصحاب القرار في إسرائيل توصل إلى القناعة بأن تغيير وجهة السياسة المصرية ليس قريباً. فهذه السفينة الثقيلة والكبيرة تحتاج إلى مسافة أطول من غيرها لتشهد تغييراً يغدو ملموساً على الصعيدين الإقليمي والدولي.
تصف إسرائيل مرحلة ما بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين سنة 2013، بأنها عودة الدولة المصرية إلى شكلها التقليدي، دولة تقودها المؤسسة العسكرية. وتعبّر الأوساط الإسرائيلية المتعددة عن ارتياحها، إذ لطالما ارتبطت موازين القوى السياسية في هذه الدولة بالجيش، وارتبط الجيش بالقرار السياسي، سواء العسكري أو غير العسكري. وكون الجيش هو العمود الفقري للدولة لا يعني بالضرورة أن الدولة محكومة عسكرياً، بل الجيش هو العمود الفقري للدولة المصرية في أوقات الأزمات.
إن مَن يدير منظومة العلاقات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية مع إسرائيل، هو المؤسسة العسكرية المصرية، وليس أي جهاز آخر. وفي حال استمرار الأوضاع على ما هي عليه، وعدم تحقيق مسار العملية السياسية، فإن الجيش المصري نفسه هو الذي سيستمر في إدارة العلاقات الثنائية تحت مظلة الرئيس السيسي، وبالتالي لا توجد مخاوف على إدارة مشهد العلاقات الأمنية أو الاستخباراتية بين البلدين. ولعل تدخّل الجيش المصري في السياسة على هذا النحو سيضمن استمرار تفوق إسرائيل النوعي على المحيط العربي لسنين طويلة. فمصلحة إسرائيل الاستراتيجية تقتضي نجاح تحالف العسكر والقوى العلمانية.
في السنوات الأخيرة، لم تشهد العلاقات المصرية – الإسرائيلية أحداثاً تسبّب توتراً حقيقياً وتضع العلاقات الثنائية بين البلدين على المحك، بل تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن العلاقة في السنتين الأخيرتين تتحول بالتدريج من تعاون أمني – عسكري وراء أبواب مغلقة إلى وضع غير مسبوق بالتنسيق الأمني إلى حدّ أن بعض الاستشرافات «المغامرة» يرجّح إمكان إقامة مساهمة مصر في إقامة حلف عسكري عربي إسرائيلي في الشرق الأوسط، ولا سيما بعد تحسّن ملحوظ وعلني في علاقات إسرائيل ببعض الدول العربية، وخصوصاً الخليجية.
وتنسجم هذه التقديرات مع تصريحات الرئيس السيسي العلنية بوجود «تعاون عسكري وثيق غير مسبوق» مع إسرائيل، تقدم به الأخيرة مساعدات إلى الجيش المصري في حربه ضد التنظيمات المسلحة في سيناء على نطاق لم يسبق له مثيل في تاريخ العلاقات بين الطرفين.
لم يعد الطرفان يخفيان الدور التي تؤديه إسرائيل في سيناء، بل تبرز كلا الدولتين، إسرائيل ومصر، تعاونهما بشكل وثيق في محاربة التنظيمات المسلحة في سيناء، وعلى حدود قطاع غزة وبالذات، بما يتعلق باكتشاف الأنفاق وتدميرها، تلك التي تم حفرها من شبه جزيرة سيناء إلى غزة، والتي تستخدمها «حماس» لتهريب الأسلحة والقوات. حتى إنه وفقاً لبعض التقارير، سمحت مصر لإسرائيل بنشر طائرات من دون طيار فوق سيناء.
وفي المقابل، إن توجّه الرئيس السيسي إلى التقارب العلني غير المسبوق مع إسرائيل ليس نابعاً فقط من إيمانه ببرغماتية العلاقة مع الإسرائيليين، بل أيضاً لأوضاع داخلية منها: المناخ السياسي المتوتر مع الإخوان المسلمين والتيارات العلمانية، وتصاعد وتيرة العنف والإرهاب في سيناء، وتباطؤ الاقتصاد المحلي. لذلك، لم تعد تُختصر العلاقات المصرية – الإسرائيلية في إطارها الأمني والاستراتيجي، بل تمتد إلى إطار أوسع يشمل العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية، إلى مستوى ما يشبه قبول الدخول في مشاريع من التطبيع مع إسرائيل. ولا تزال مسألة التطبيع تحكمها الحالة الضبابية، على الرغم من ازدياد الاتفاقيات مع إسرائيل في مجالات إنمائية واقتصادية عديدة. ومن أبرز أشكال توثيق العلاقات الثنائية مع إسرائيل، اتفاقية الغاز بين البلدين التي وصفها بعض الجهات المصرية المستقلة بأنها أعلى مستويات التطبيع منذ معاهدة كامب ديفيد سنة 1979.
وهناك جانب مهم يعزز العلاقة الثنائية، هو دور إسرائيل في تمتين العلاقات الأميركية – المصرية، ومعروف أن أميركا وعلاقاتها بالمنطقة تُعتبر أحد مكونات الأمن القومي الإسرائيلي، الأمر الذي يجعـل أي تراجـع للدور الأميركي مساساً بالمصالح
الحيوية الإسرائيلية. ففي نظر إسرائيل، إن العلاقات الأميركية – المصرية ليست مجرد علاقة ، ذلك بأن أميركا هي الضامن لمعاهدة السلام بين الدولتين. وتشكل المساعدة العسكرية الأميركية لمصر نوعاً من الصيانة الدورية المنتظمة لهذه المعاهدة، وهو ما يعني أن أي إضرار بها قد يعود بالضرر لاحقاً على معاهدة السلام ذاتها. لذا، حرصت إسرائيل على إبداء ارتياحها من تناول البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) مراجعة العلاقات المصرية – الأميركية واستئنافها في إثر تحفظها من إطاحة نظام الإخوان المسلمين، إذ اعتبرته انقلاباً وعملاً غير ديمقراطي يستحق معاقبة الحكم الجديد بسببه.
في المجمل، يتأثر مستقبل العلاقة بين مصر وإسرائيل بعاملين أساسيين هما قدرة الرئيس السيسي على البقاء، ومستقبل العلاقة مع واشنطن، نظراً إلى أن قدرة السيسي على البقاء لا تتأثر أساساً بالاعتبارات المتعلقة بإسرائيل، بل في الأساس بالواقع الداخلي المصري.
على الرغم من الوصف السوريالي لعلاقات ثنائية في عصرها الذهبي، في عمق التقديرات الإسرائيلية، فقد يتم وصف العلاقات المصرية – الإسرائيلية في إطار التعاون الأمني المتين المحكوم بتنافس منضبط لا يصل إلى درجة الصراع، وأن مظاهر الإرباك والتوتر بين الطرفين، تحددها مظاهر التهديد والمواقف السياسية من أي تحول سياسي داخلي في مصر، وتباين الرؤيا فيما يتعلق بعدد من القضايا، منها:
أولاً: حرص إسرائيل على التزام مصر باتفاقية كامب ديفيد، لضمان التفوق العسكري الإسرائيلي، وعدم الدخول في حرب مع مصر، وتأكيدها ممارستها الضغوط على الإدارة الأميركية بهدف عدم وقف المساعدات إلى مصر من أجل ضمانة اتفاقية السلام.
ثانياً: تصاعد الحضور الإسرائيلي في أفريقيا الذي يثير القلق المصري، وتعتبره أوساط مصرية عديدة تهديداً على الأمن القومي المصري، وخصوصاً فيما يتعلق بعلاقة مصر بدول حوض النيل.
ثالثاً: تمسّك مصر بضرورة توقيع إسرائيل معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، وإخضاع منشآتها النووية لإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في حين ترفض إسرائيل ذلك وبشدة، وتؤيدها في ذلك الولايات المتحدة.
رابعاً: تنظر مصر إلي إيران كمنافس قوي لها على الساحة العربية والإقليمية، وأن تنامي دورها في المنطقة يشكل خطراً على السياسة المصرية، وينعكس في أحد جوانبه على العلاقات بإسرائيل، حيث تطرح إيران نفسها كقوة إقليمية ذات تطلعات نووية تحرص على تحقيقها، وهو ما قد يدفع مصر إلى الحصول على سلاح نووي حال امتلاك إيران له، وهو ما سيعكر العلاقات المصرية – الإسرائيلية.
ما زالت إسرائيل تعتقد أن مصر تركز على مخاطر أمنها القومي خلال تعاملها معها في المجالات كافة، وأن العلاقات الثنائية ستبقى في المنظور القريب مقصورة على المستوى الرسمي وبعيدة عن المستوى الشعبي، ولا يزال الحاجز النفسي قائماً. وفي المقابل، تحرص الدولتان على عدم توتير علاقاتهما الثنائية العلنية، ولا سيما مع سعي مصر لمحاربة المنظمات المسلحة في سيناء وتثبيت وجودها فيها، وهذا يتطلب استمرار التنسيق العسكري والاستخباراتي على أعلى درجاته ومستوياته. وتبقى مصلحة إسرائيل في تعزيز العلاقات وتطويرها مع مصر التي تعدّ عنصراً أساسياً من عناصر التوازن في المنطقة.
الملحق العسكري السري في معاهدة السلام
على الرغم من التوافق الحالي بين الطرفين في ضرورة الحفاظ على بنود اتفاقية السلام بصيغتها الأساسية وضمنها الملحق العسكري، في ظل التهديد الأمني في سيناء وضرورة التنسيق والتعاون الاستخباراتي والعملاني، فإن هناك أصواتاً رسمية ونخبوية في مصر ما زالت تطالب بكشف الملحق العسكري معتبرة أنه يمس بالسيادة المصرية، لكنه لم يبلور إلى مقترحات أو إجراءات أمنية عينية. وعلى العكس، سعت القيادات الأمنية والسياسية الإسرائيلية منذ الإطاحة بالرئيس مبارك، لتغيير جذري بالمنظومة الأمنية الإسرائيلية، لضرورة مواجهة الفراغ الأمني في سيناء، والتي تتجسد في طرح رزمة من المتطلبات الأمنية والاستراتيجية، منها:
أولاً: وضع قوات دولية جديدة متعددة المهمات والمسؤوليات في سيناء، بديلاً من القوات الراهنة.
ثانياً: المحافظة على المعاهدة الأم بين مصر وإسرائيل، وإضافة نصوص بروتوكول جديد يحدد ملامح التغير من جانب الطرفين.
ثالثاً: دخول الولايات المتحدة وربما دول أوروبية على خط التفاوض، لإقرار شكل البروتوكول الجديد مع ضمانات أمنية كاملة.
رابعاً: إدخال سيناء ضمن منظومة التهديدات الاستراتيجية لإسرائيل، على أن «الإرهاب في سيناء هو خطر حقيقي على أمن إسرائيل.»
أمّا على مستوى الاستراتيجيا العسكرية، فقام الجيش الإسرائيلي بمبادرات وإجراءات عسكرية وأمنية، أهمها:
أ – تحديد مهمات المناطق الحدودية (أ ب ج) في الزيادة المباشرة لعدد القوات وسلاحها.
ب – تشكيل وحدات للعمق الاستراتيجي، واستدعاءات متتالية لكتائب الاحتياط.
ج – نصب بطاريات من مشروع «القبة الحديدية» على طول الحدود المصرية – الإسرائيلية.
د – رفعت إسرائيل مستوى التأهب على الحدود الجنوبية، والدفع بمزيد من الوسائل القتالية الحديثة، فضلاً عن التقنيات الاستخباراتية، تحسباً لأي خطر قد يواجه إسرائيل من مصر.
هـ – استكمال بناء مدينة المتسللين بالقرب من الحدود المصرية.
و – تطوير ونشر أنظمة التحكم الراداري الرقمي الأرضي المسمى «المنارة 600»، والذي يستطيع مسح مساحة كبيرة من الأرض، ونصبه على الحدود المصرية، ليكشف جميع التحركات في سيناء.
ز – إقامة منظومة تجسس تكنولوجية حديثة في المنطقة الواقعة بين مدينة بئر السبع وقريتي اللقية وأم بطين القريبتين من الحدود المصرية، والتي تستهدف تجميع المعلومات الاستخباراتية عن التطورات في سيناء.
ح – نشر كتيبة الصواريخ «الرمح السحري».
خامساً: إنشاء فيلق مدفعية أرضية تكون قادرة على إطلاق صواريخ على بعد 40 كيلومتراً داخل سيناء.
ط – نشر كتيبة جديدة في مدينة إيلات على ساحل البحر الأحمر، مقابل شبه جزيرة سيناء، وتأسيس هذه الكتيبة الإقليمية لتعزيز الأمن حول إيلات، والتي تساعد كتيبتي «ساغوي وعربة»، وتشكل معهما وحدة أُطلق عليها اسم «أدوم»، تعمل على طول الحدود مع مصر.
ي – قيام إسرائيل بإجراءات دفاعية جديدة على طول طرفها الحدودي، أهمها عملية «الساعة الرملية» التي تتضمن بناء سياج مزدوج، يبلغ طوله 240 كيلومتراً وارتفاعه 5,5 أمتار ويمتد 1,5 متر تحت الأرض، ليكون حاجزاً مادياً بين البلدين.
خاتمة
لعل المعضلة الاستراتيجية العينية لإسرائيل في المرحلة الراهنة هي حصول حركة «حماس»، وخصوصاً حزب الله، على أنظمة الصواريخ الدقيقة، وما مدى قدراتها الدفاعية العسكرية (حيتس، القبة الحديدية، مقلاع داود) وقدراتها المدنية، أي الجبهة الداخلية، على استيعاب القذائف الصاروخية طويلة المدى والدقيقة، ولا سيما في إطار مواجهة واسعة.
وتشير التحليلات والدراسات الإسرائيلية، إلى أنه على الرغم من استثمار إسرائيل مبالغ كبيرة في تحصين المباني وبناء الملاجئ، ولا سيما في منطقة «غلاف غزة»، والسعي لزيادة مناطق الإنذار من الصواريخ من 250 منطقة إلى 1800 في المستقبل، بهدف تحسين حماية الجمهور والأفراد في مناطق أُخرى في إسرائيل، وعلى الرغم من نجاح «القبة الحديدية» النسبي في اعتراض الصواريخ القصيرة المدى في حماية «غلاف غزة» وتحسن حيز مناورة صناع القرار في إسرائيل، فإنه لا يمكن توفير رد كاف للتهديد، حتى لو كان ذلك إطلاق قذائف متقطعاً في اتجاه عمق إسرائيل. وفي أوضاع مواجهة كاملة، تستوجب أن تغطي «القبة الحديدية» منشآت عسكرية وبنية تحتية وطنية حيوية، فإن حماية السكان المدنيين لن تكون كافية. والعبرة الأساسية، أنه لا يوجد إمكان عسكري لمواجهة هجوم مكثف على العمق الاستراتيجي لإسرائيل نتيجة عدم قدرة الدفاعات الجوية على استيعاب ضربات حاسمة للعمق الاستراتيجي من الناحية التقنية، وبسبب التكلفة غير المحتملة لمواجهة الأمر، وهو ما يساهم في استمرار حالة «الردع المتبادل»، واستمرار إسرائيل في تبنّي وضعية «المعركة بين المعركتين»، الأمر الذي يشكل إطلالة على مستقبل الصراع في المنطقة.