لا أذكر ظرفاً مرّ عليَّ خلال سنوات عملي في الإعلام منعني من ممارسة مهنتي يوماً، حتى في أصعب الأوقات التي فرض خلالها الاحتلال حظر التجول على المدن الفلسطينية، أو أصدر أوامر عسكرية تمنع دخول مدن وقرى اجتاحتها قواته، لا شيء كان يحول دون عملنا كصحافيين. بعد الانتفاضة الثانية شاركت في تغطية ثلاثة حروب شنتها إسرائيل على غزة، وواحدة على لبنان كنا على الحدود، لم يمنعنا الخوف من الصواريخ والطيران أن نكون في أقرب نقطة من الحدث، تحدينا أوامر جيش الاحتلال وبحثنا عن طرق ترابية بديلة للدخول إلى المدن التي أعلنها الاحتلال مناطق عسكرية مغلقة.
لكن الأوضاع في ظل تفشي الوباء كانت شيئاً مختلفاً، هذه المرة كان علينا أن نتوخى الحذر في المناطق التي نعمل فيها، لم تمنعنا حالة الطوارئ من الخروج من بيوتنا كما هي الحال مع المواطنين عموماً، باستثناء الجهات المختصة، بل على العكس مُنح الصحافيون بطاقات تسمح لهم بالتنقل، ومع ذلك فرض انتشار فيروس كورونا علينا محددات لم نكن لنخضع لها في أي وقت سابق.
فما أن أُعلنت مدينة بيت لحم ومحيطها منطقة مغلقة لم نعد نتجرأ على الاقتراب منها، علماً بأنها كبؤرة أولى لتفشي فيروس كورونا كانت لتكون أهم جاذب للصحافيين، لكننا اكتفينا بما يزودنا به أحد مصورينا من أبناء المدينة من صور من هناك، والتزم كل بالعمل في مدينته تجنباً للتنقل والاختلاط، وفرضت حالة الطوارئ تقليص عدد العاملين إلى الحد الأدنى.
هذا الوضع عموماً عاشه كثير من الزملاء الصحافيين، فمثلاً، أخبرني محمد غفري، وهو شاب صحافي يعمل في ألترا فلسطين، إنه يتابع عمله من بيته منذ نحو شهرين على الرغم من أن ذلك يتعارض مع توجهه كصحافي يحرص دوماً على أن يكون في موقع الحدث، أو قريباً منه لنقل مشاهداته الخاصة، فتحولت القصص التي يغطيها في زمن كورونا إلى قصة معلوماتية تقدم أرقاماً وحقائق لكنها تخلو من الجوانب الإنسانية.
وما من شك في أن تفشي فيروس كورونا جعل كثيراً من الصحافيين يفرضون نوعاً من الرقابة الذاتية على أنفسهم. أذكر أني تلقيت رسالة من سيدة تلومني لعدم إلقاء الضوء على المخاوف والأوضاع في قرية بدّو التي كانت من أوائل القرى شمالي غربي القدس التي انتقلت إليها العدوى وأُعلنت بؤرة وباء مُنع التنقل منها وإليها، وفيها سُجلت أول وفاة لسيدة ستينية تبين بعد ذلك إصابة عدد من أفراد أسرتها بالفيروس. سألتني لِمَ لا تذهبي إلى القرية وتتحدثي إلى العائلة التي تمر في وضع صعب، لكني لم أذهب.
كانت عشرات القصص تمر في ذهني كصحافية اعتدت أن أكون في مركز الحدث أو في أقرب نقطة، لكني صرت مجبرة على المرور على بعضها مروراً سريعاً لا يلبي شغفي كصحافية لا تكتفي بالمعلومة الخبرية فحسب، بل تسعى وراء تداعياتها على الإنسان أيضاً، لكن هامش التحرك بات محدوداً بما يضمن أمان الطاقم الصحافي.
وفي مقابل الخوف من مخالطة الناس، كان كثير من العائلات يخافنا ويعتذر عن استقبالنا في البيوت، فقد استغرقني أكثر من أسبوعين حتى وافقت أسرة في رام الله على أن ندخل بيتها لإعداد تقرير عن تعلم أبنائها عبر الإنترنت بعد أن أُغلقت مدارسهم.
كل ذلك لم يحل دون أن تكون القصة الصحافية الوحيدة تقريباً، أو الأهم في عيون العالم هي قصة الوباء.
قال لي صديقي وزميلي الصحافي محمد دراغمة الذي لزم بيته منذ تفشي الوباء، أن وكالة أنباء أسوشييتد برس التي يعمل فيها طلبت من صحافييها الاكتفاء بتغطية أخبار وتداعيات كورونا، وأي قصة ذات علاقة ولا شيء آخر.
فبات الإعلام يبحث عن أي قصة ذات علاقة، وتصدرت أرقام الإصابات والوفيات اهتمام الإعلام، وصرنا نبحث عن أي قصة ذات صلة، من قصص العمال في ظل تفشي الوباء، إلى الطلبة وحتى الأسرى، مروراً بمبادرات الشباب الفنية والثقافية والرياضية التي صارت بديلاً من التجمعات الممنوعة والاحتفالات ذات الصبغة الجماهيرية، وصارت وسائل التواصل الاجتماعي رافداً لهذه القصص.
واتكل الإعلام كثيراً على وسائل التواصل عبر الإنترنت كوسيلة آمنة لنقل صوت المصابين بالفيروس ومعاناتهم إلى العالم. وغضَّ النظر كثيراً عن جودة الصورة والصوت لمصلحة القدرة على التواصل الآمن ولو بجودة أقل.
لكن ذلك لم يكن الثمن الأكبر الذي دفعه الإعلام، فقد غاب كثير من القضايا التي كانت تشغل حيزاً مهماً في الإعلام وفي اهتمام الفلسطينيين قبل انتشار الوباء أو تراجعت، فلو جاء الاتفاق بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وزعيم حزب أزرق أبيض بيني غانتس الذي أُعلن في العشرين من شهر نيسان/أبريل الماضي في غير هذه الأوضاع، لكان احتل اهتماماً أوسع لدى الإعلام المحلي والعربي والعالمي في ظل تصاعد المخاوف من أن الاتفاق قد سهَّل الطريق في إسرائيل نحو تنفيذ خطة ضم المستوطنات وأجزاء من الضفة الغربية. كذلك، لم تحظَ اعتداءات المستوطنين المستمرة على القرى الفلسطينية في محيط رام الله ونابلس بتغطية تذكر، وغابت انتهاكات الاحتلال في الأغوار بما تضمنته من هدم لبيوت وخطوط ماء عن اهتمامات الإعلام الذي تمسك بما بات شاغلاً واحداً للمواطنين، كورونا.
في فلسطين بات الإيجاز اليومي أهم مصدر رسمي للأخبار، يتلقف منه الأرقام والمعلومات جاهزة، فحمل ذلك إيجابياته دون أن يخلو من السلبيات، فكان الصحافي همزة الوصل الذي يرفع صوت المواطن غير القادر على مغادرة بيته، ويوصل استفساراته إلى الجهات الرسمية. لكن الإيجاز الذي يستضيف المسؤولين الرسميين بات قادراً على تحديد أجندة الأخبار التي يتم إلقاء الضوء عليها بما في ذلك اللفتات الإنسانية، فساهم الواقع الجديد بفعل تفشي المرض في إبراز وجوه جديدة تحولت مع الأيام إلى نجوم، وغيّب وجوهاً أُخرى.
وفي هذا الإطار، أخبرني الصحافي محمد دراغمة أن شخصية مثل المتحدث باسم الحكومة إبراهيم ملحم الذي يمتلك مهارات مخاطبة المواطن العادي، دخل قلوب الناس لأنه خاطبهم بلغتهم وببساطة، وتوقع لو رشحت شخصيات محددة نفسها اليوم للانتخابات فما من شك في أنها ستفوز.
لكن من يتحكم في الكلمة يحاول فرض أجندته، وبعد تسويق نجاحات الحكومة في مواجهة تفشي المرض وهو أمر اتفق كثيرون عليه، لكنه تلقائياً يجعل مهمة الصحافي أكثر صعوبة باعتبار أن مهمته لا تنحصر في نقل ما يقوله المسؤول بل في البحث عما يحاول إخفاءه.
والحقيقة الراسخة في رأيي أن الإعلام يظل قادراً على توجيه وإعادة النظر في بعض سياسات وقرارات الحكومات، وأذكر حادثتين باعتقادي أن الفضل الأول يعود فيهما إلى وسائل التواصل الاجتماعي لكن دور الإعلام لا يمكن إغفاله؛ الأولى، تراجع الرئيس محمود عباس بعد أيام فقط عن تعديل قانوني التقاعد وتعديل رواتب أعضاء الحكومة والتشريعي والمحافظين بعد سلسلة من الانتقادات.
والثانية إسراع رئيس الحكومة الفلسطيني والمتحدث باسم الحكومة إلى الظهور معاً أمام الإعلام خلال الإيجاز الصحافي بأجواء دافئة بعد يوم واحد من سيل الانتقادات التي أعقبت طلب رئيس الحكومة من المتحدث باسم الحكومة رفع يديه من جيبه.
والمؤكد أنه أياً كانت الأوضاع، يبقى الإعلام سلطة رقابية لا يمكن تجاهلها، ووسيلة لا يمكن الاستغناء عنها.