تجارب استيقظت في كيس طحين
التاريخ: 
07/05/2020

كنت أتوقع أن يحدث أي شيء في مشوار حياتي هذه، هذا المشوار المتقلب المجنون منذ يوم ولادتي؛ أن تحدث حرب عالمية ثالثة مثلاً، حرب ساخنة أو فاترة بعد الحرب الباردة. لكنني لم أتوقع أبداً أن ينتشر "وباء". لا أنا ولا أحد في لندن ولا في فلسطين كان يتوقع هذا قط.

ولدت وكبرت في فلسطين. عائلتي لاجئة من قرية "المسمية الصغيرة" المهجرة. وأعيش حالياً في لندن التي أصبحت بيتي وعملي وأسرتي، والحق يقال أنني لا أشعر بالاغتراب فيها، والحقيقة أنني مغرم بها كمدينة، ربما يعود ذلك إلى طول الفترة التي عشتها فيها والألفة بيننا، وتنوعها الغني غير المصطنع.

 وعلى الرغم من ذلك، فربما لا يمر يوم واحد دون أن أفكر في فلسطين بطريقة ما، عبر الموسيقى والخيال أو حتى عبر البهارات. لا أعرف كيف أسمي هذا الشعور! ربما أنا مغترب دون أن أعلم! أعيش انفصاماً يومياً دائماً بين بلدين وثقافتين، وكأنني أحمل في صدري قلبين معاً، أو "دولتين": فلسطين ولندن. فلسطين بلد محتل مجزء بالحواجز التي يحرسها جنود الاحتلال! ولندن مدينة هادئة، بثبات مطمئن، لا شيء يزحزح هذه الطمأنينة حتى في أقصى لحظات جنون العالم. وهذا ما يجعل المدينة جذابة جداً، إلى جانب أمور أُخرى. وقد جذب ذلك الهدوء والطمأنينة اللاجئين منذ زمن بعيد؛ لاجئون كنا نقرأ عنهم في رواية "قصة مدينتين" لتشارلز ديكنز، أمّا كارل ماركس فقد كان لاجئاً فيها أيضاً وكذلك فرويد، والكثير غيرهم، ويقال إنهم جاؤوا لقسط الثبات والأمان هذا.

 سنين طويلة مرت وأنا أعيش في لندن وهي تسير على الإيقاع نفسه، الإيقاع ذاته لا يتغير!  الباص أحمر كما هو، يسير برتابة وبموعد دقيق، الشتاء الكريم وبعض الربيع. الناس تذهب إلى العمل في الصباح وتعود ساعة الغروب. الأصوات تخرج من شباك البار، والناس تتبادل أطراف الحديث في الداخل، والبعض يشاهد لعبة كرة قدم.

لا شيء يتغير أو يحدث بشكل مفاجئ في هذه المدينة، كل شيء على حاله في الغالب. على سبيل المثال، قلّ أن تجد  "شاحنة معطلة في الشارع تسبب ازدحاماً" أو "عموداً كهربائياً سقط على الأرض"، هذه أمور من الصعب أن تحدث في لندن بشكل  "مفاجئ".

 وإذا حاولت المقارنة بين المفاجئ الذي قد يحدث في لندن والمفاجئ الذي قد يحدث في فلسطين، فإن هناك اختلافاً شاسعاً بين هنا وهناك. وفي كل الأحوال، حتى التوقع يبدو وكأنه خيال من كوكب آخر! فمفاجآت فلسطين شيء مختلف؛ ففي رمشة عين مثلاً قد يحدث في فلسطين إغلاق، أو منع تجول، أو قد يسقط صاروخ ذكي على البيت، أو تُقام مستوطنة إسرائيلية على جبال الفلسطينيين وأراضيهم.. المفاجىء في فلسطين، هو أمر متوقع.

لكن في بداية هذا العام، كان الوقع المفاجئ نفسه في كل بقاع الأرض، وعندها بدأنا نسمع عن الفيروس الخطر والغامض شديد العدوى وسريع الانتشار والذي يسبب الاختناق.  

وفي أقل من أسبوع تغير كل شيء! اختبأ الناس في البيوت خوفاً من المجهول، حل صمت في شوارع العالم كله دفعة واحدة، صمت مريع. في لندن بدأنا بشراء حاجيات محددة أكثر من غيرها، بدأنا بمعقم الأيادي، ومن ثم الكمامات، ومن ثم الطعام.

في اليوم الثالث لإعلان إغلاق المدينة رسمياً، توجهت وأنا أحمل حقيبة على ظهري، لكي أشترى للبيت بعض الحاجيات. في الطريق كان المارة يبدو على وجوههم بعض القلق، وإن كانت الابتسامة المؤدبة ذاتها لا تزال موجودة لدى أهل البلد، لكن شيئاً ما لم يكن على ما يرام. لم يكن لديّ كمامة ولم يكن لي تجربة سابقة بلبس واحدة! حين وصلت السوبرماركت كان هناك زبائن أكثر من المعتاد. وفي داخل السوبرماركت، فكرت بأهلي في فلسطين! قلقت على أمي بالتحديد، وتذكرت أمراً مهماً يتعلق بوجودي بين رفوف السوبرماركت الآن في لندن. كيف سأتصرف بخبرتي المكتسبة في فلسطين عند توقع حدوث كارثة، كالحرب مثلاً، أو منع تجول طويل؟! إلى جانب خبرة الفلسطيني العريقة بالتعامل مع القيود وتطويعها، وخبرته المتراكمة الطويلة في تخزين المؤن«المواد الغذائية»، هناك مهارات مكتسبة قد يحرز فيها الفلسطيني "كأس العالم" لو كان هناك مونديال لمهارات التكيّف مع الأوضاع و"تخزين المؤن للطوارئ".

ومن باب الحكمة، قلت في نفسي، لقد مررت في حياتي بمنع التجول، ولا بد أن تجربة الحجر المنزلي وحالة الطوارئ ستكون مشابهة!! فمنع التجول الذي كان يفرضه الاحتلال الإسرائيلي علينا بمكبرات الصوت، كان يمتد أحياناً إلى أكثر من شهر كامل. ولذا فكرت في استخدام تجاربي السابقة في شراء المؤن، وكانت قائمة المشتريات:  

شوال طحين، ونصف كيلو خميرة، تنكة زيت زيتون، كيس بطاطا، شوال بصل، فاصوليا عريضة ناشفة، عدس حب/ تنكة جبنة إن أمكن! سريعاً اكتشفت أنه في كل المملكة المتحدة لا أحد يشتري شوال طحين سوى المخابز الكبيرة. فغيرت في القائمة و"بدل شوال" كتبت: خمسة كيلو طحين مفرق.

وأنا في الطابور أنتظر دوري لأدفع ثمن الحاجيات، لمحت بعض الناس وفكرت أن أسترق النظر لأعرف ما هي المؤن التي يشتريها الناس في حالة طوارئ كهذه في المدينة؟ ولفت انتباهي رجل يقف أمامي في طابور الدفع، ولاحظت أنه اشترى كمية كبيرة من رقائق البطاطا "شيبس"، أربعة علب سجائر/ علب بيرة، كيس صغير من المعكرونة، وبعض الكعك الحلو، وأربع حبات بندورة.

 قلت في نفسي: "مسكين هذا الرجل! لا يعرف ما هي المؤن الضرورية للتخزين، سوف يتضور جوعاً إذا استمر الإغلاق وطال، فيبدو أن ليس لديه أي تجربة في حالات الطوارئ. ومن ثم نظرت إلى نفسي، أنا ومشترياتي! حاملا ًمعي نص شوال بصل وكيس خميرة، وخمسة كيلو طحين مفرق، وبطاطا. فتساءلت وأنا على وشك الضحك، من هو المسكين فينا يا ترى؟ أهو الذي لا يمتلك مهارات شراء المؤن في الطوارئ؟ أم أنا، خريج الكوارث وحالات منع التجول؟ احترت هل علّي أن أكون فخوراً بتجربتي "المكتسبة للطوارئ"، أم أن أكون حزيناً بشأنها؟

عن المؤلف: 

محمود حوراني: كاتب قصة وفنان مسرحي، يعمل مدير للمؤسسة العربية لمسرح الدمى والعرائس في لندن وبيروت.