العزل ليس واحداً بين لندن والمخيم
التاريخ: 
28/04/2020
المؤلف: 

لقاءات افتراضية

الغرفة ذاتها التي فرحت بها عند وصولي إلى هذه البلاد قبل أشهر مثل طفل حصل على لعبة جميلة، ها أنا أرى حجمها يتضاءل ويصغر، حتى أني بدأت أشعر بالهواء في رئتي مكرراً. تنتابني أفكار سيئة ومخيفة أحياناً، أفتح صنبور الماء، أضع رأسي تحته، أحاول أن أغسله من كل ما هو سيىء، أعود إلى زاوية جلوسي الصغيرة بحال أفضل.

إنه المساء، موعد الاتصال بعائلتي، أشكر التكنولوجيا على فرصة مخالطة اجتماعية افتراضية تتيحها لنا، أرى وجه أمي جميلاً كما هو، كلما ازدادت خطوطه ازدادت نضرته، والضجة هناك في منزلنا في مخيم برج البراجنة في بيروت على حالها. لم يمنع الكورونا نساء حارتنا من الاجتماع مساء حول أمي، على عادتهن يكلمنني جميعاً دفعة واحدة، وينهلن بنصائحهنَّ عليّ "تطلعش من البيت، تروحش ع الشغل، الأجانب ما نضاف، تقعدش معهم! بلاش توكل برا". أتقبل كل تلك النصائح إلى أن يصل الدور عند الخمسينية فادية  "دير بالك من كورونا هاد مش منيح" أفكر مليًّا بتلك النصيحة محاولاً فهمها دون جدوى. "هو أنا مفكر الكورونا منيح؟" يضحكن جميعاً بانتظار الإجابة، "ما هني حكو كل إشي بدك أضل ساكتة".

أقفل الهاتف بعد جدالات طويلة عن جدوى البقاء خارج لبنان، وكأن الحدود مفتوحة الآن وأستطيع إذا ما قررت العودة أن أعود. أحسدهم على ما هم فيه من بال صاف ووصال حتى في هذا الزمن. أذهب إلى النوم كي أختصر على نفسي ساعات الليل، أفكر كيف يمكن أن أقنعهم بالتباعد الاجتماعي. الجو في المخيم مختلف تماماً، الناس يعيشون كعائلة واحدة، ليس سهلاً أن يحققوا المسافة الاجتماعية. وحينما جربت الكلام مع ذات الثمانين عاماً، الحاجة مريم، ردت ضاحكة "تخافش إللي بتوضأ خمس مرات باليوم ما بصيبوا هيك مرض".

 

الحياة بيد واحدة

لم يمر وقت طويل على جلوسي في المنزل، خمسة أيام فقط، عطلتي عن العمل، وغداً سألاقي الدنيا خارج هذه الجدران. قبل أن أخلد إلى النوم، أتفقد أعداد الضحايا في العالم، ثم في لبنان وبعدها في بريطانيا حيث أعيش. أرى أنه ناهز الألف يومياً. أغمض عيني وأفكر في الضحايا، أراهم ممددين في الشارع الملاصق لغرفتي، غداً سأتعثر بهم في أثناء خروجي من السكن. أتذكر حرب تموز التي عايشتها في بيروت، وقتها كنا ننام على صوت الطائرات الإسرائيلية التي تُغير على الضاحية الجنوبية لبيروت، كان ثمة شعور ينتابني كل ليلة أنني لن أصحو، وأنه لن يكون لي غد في هذه الدنيا.. هل ستخطئ كل تلك الصواريخ مخيمنا. الآن أقول لنفسي هل سيخطئنا الفيروس! وتزداد حيرتي.

الأفكار السيئة تلك تصطدم بجدران الغرفة وتعود دائماً إلى رأسي. شق النافذة لا يتسع لكف يدي فكيف سيتسع لخروج كل تلك التهيؤات من الغرفة. أحتاج إلى أفكار إيجابية، أضع أنفي عند شق النافذة، آخذ ما تيسر لي من شهيق، وأحبس الهواء في رئتي، أشد عليه كي أحتفظ به أطول فترة ممكنة. وأصارع عيني على النوم.

في الصباح، أستعد لأنزل إلى عملي. عليّ أن ألاقي العالم المجنون في الخارج، أجهز زجاجة معقم من صنع منزلي، أحمل بعض المناديل، أختار المعطف ذا الأكمام الطويلة التي تغطي كف يدي، أفتح باب السكن مستخدماً قدمي، وها أنا في الشارع. في الخارج هناك شمس! لم أكن أعرف أن هذه المدينة تخفي فوق غيمها وغبارها الدائم سماء صافية كهذه! شيء من الدفء يسري في الجو. لكني لن أخلع معطفي. أنا لا أثق بشمس هذه المدينة. الشوارع التي ذهلت بها يوم وصولي إلى لندن فرغت الآن إلاّ من بعض الراكضين على الأطراف هنا وهناك، وآخرين ممن ليس لهم مأوى، وهم كثر في هذه الدولة العظمى.

ليس ذاك موضوعنا، يقولون إن الفيروس ينتقل باللمس، لذا سأخاطر بيد واحدة وليس باثنتين. خبأت يسراي داخل جيبي وأطلقت يمناي أفعل بها ما أريده بحذر. الآن أجرب العيش بيد واحدة. عليّ أن أنسى وجود يدي الأُخرى تماماً. إنها اليد التي تتأرجح بحذر في أثناء المشي، وأتعلق بها في سقف الباص، وأشتري بها حاجتي، حتى إذا ما نسيت بطاقة في جيبي اليسرى سأحاول الحصول عليها بيمناي أيضاً، وكلما لمست شيئاً بيدي عقمتها، أو غسلتها عند أقرب فرصة. أنظر حولي، الناس أيضاً هنا يعيشون بيد واحدة. يبدو أن هذه الفكرة التي فرحت بها لم تكن فذة. أغلبيتهم يطلقون يداً واحدة إلى الدنيا ويحفرون في معاطفهم لليد الأُخرى. ثم ينسونها مثلي تماماً.

تكتمل بذلك سينمائية المشهد. مدينة كاملة أناسها لا يملكون إلاّ يداً واحدة. أصل إلى حيث أعمل، اجتماعات التحرير الصباحية باتت تقتصر على ملف كورونا، ثم علينا أن نعد الموتى في كل أنحاء العالم، ونقارن بين المدن التي تتنافس مع بعضها بعدد ضحاياها، اليوم تتغلب روما، وغداً تسبقها مدريد ونيويورك، والحصيلة اليومية في إنكلترا تقفز، تلك هي وظيفتنا الحقيقية في هذه الأيام داخل غرف الأخبار. نعد الضحايا.

في العزلة

بعد انتهاء الدوام، التقى بآمنة "حبيبتي". أفكر بأني قد أنقل إليها فيروس قد أكون التقطه خلال نهاري الطويل في الخارج، أخشى عليها دائماً، كي لا يذوي جمالها الذي تعلقت به بسبب فيروس تاجي، هي يليق بها نوع آخر من التيجان. أنهي حديثي معها وأرجع إلى غرفتي، وهناك أعود طفلاً أتذكر حياتي في العزل محطة محطة، أذكر طعم الأشياء على لساني، وأشتاق إلى ناسي في المخيم، إنهم يعيشون كل أقدارهم بفرح، أخشى عليهم، لكن أمي هناك معهم ستعطيهم وصفة دوائية تقتل الكورونا وتحطم تاجه، أمي لا يستعصي عليها علاج أو مرض، دائماً تحل الأشياء بحفنة زعتر بري وبقليل من الميرامية التي تعيد رائحتها الحياة إلى طبيعتها.

أفكر باقتراب شهر رمضان، أقول هل يمكن أن يمر الشهر دون أن أجلس معهم، أو دون أن أسمع صوت المؤذن قادماً من فوق ركن على سطح مسجد فلسطين، ومئذنته المعلقة فيه بالكاد مثل معجزة. حينما يسري صوت أذان المغرب في المخيم عذباً، يمس شغاف القلوب، مبشراً ببداية ليل رمضان وسهراته الجميلة بين الأهل والأصحاب. ثم آمل أن ينتهي هذا الفيلم الذي نحياه قبل أن يمر الشهر. أفكر بكل ذلك وأحمل عودي لأتدرب على العزف دون أن أفعل، أسرح بأشياء أُخرى وبتبدل الأحوال.

عن المؤلف: 

طه يونس: صحافي فلسطيني مقيم ببريطانيا. من المشاركين في ورشة الكتابة الابداعية التي نظمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية مؤخرا في بيروت.