أدخل فيروس كورنا المتفشي بشكل غير مسبوق، العالم بأسره في حالة من التخبط والإرباك الشديدين، وفي حالة غير مسبوقة من الخوف والقلق على المستويات كافة. حالة من الهلع غير المعتاد على هذا النطاق الواسع تجتاح العالم دون استثناء أو استئذان، ملحقة شللاً كاملاً في نواحي الحياة كافة، ناقلة أكثر من 7 مليارات من البشر إلى حافة الخطر الحقيقي، ليس فقط على حياتهم فحسب، بل تعدى ذلك إلى ما هو أبعد. وقد ذهب البعض بالتنبؤ إلى أن هذه الأزمة المتأتية جرّاء انتشار هذا الوباء المستجد ستترك آثاراً كارثيه على مستقبل دول وشعوب كثيرة حول العالم لسنوات قد تصل إلى ربع قرن قادم وربما أكثر.
شُلت الحياة وعجلة الإنتاج بشكل كامل، وتوقفت مؤشرات الاقتصاد العالمي، وانهارت أسواق الأسهم والمال وتصدعت أقوى اقتصاديات العالم الرأسمالية، ومع ارتفاع أعداد المصابين بالفيروس التي تخطت حاجز المليونين، ومع تسارع وتيرة الارتفاع في أعداد الضحايا التي تخطت حاجز المئة وعشرين ألفاً، يكون العالم بكل دوله الكبيرة، المصنفة عظمى، والصغيرة المصنفة فقيرة ومتخلفة، وتلك غير المصنفة أصلاً، قد أثبت حتى الآن بشكل جلي حالة فشل غير مسبوق في كبح جماح هذا الفيروس ووضع حد لانتشاره السريع ولتمدده في الاتجاهات كافة، ملحقاً كل هذا الأذى، ودافعاً أرتالاً مليونية جديدة إلى الفقر والجوع وعدم القدرة على توفير حتى وجبة غذاء واحدة في اليوم. وإذا ما دققنا أرقام منظمة الأغذية والزراعة العالمية "الفاو" لأعداد الجوعى حول العالم ما قبل هذه الجائحة والمقدرة رسمياً بنحو مليار ومئتي مليون إنسان جائع، لنا أن نتصور الآن مع كل هذا الخراب المتواصل بفعل الأرتال الجديدة للجوعى المنضمة إلى الأرقام والنسب السابقة، الكارثة الإنسانية التي خلفها تفشي هذا الوباء على هذا النطاق غير المتوقع في ظل غياب الحد الأدنى من الاستعداد في معظم دول العالم، وخصوصاً الرأسمالية منها التي ظلت تولي صناعة الأسلحة ونشر الموت في مختلف أرجاء العالم أولوية قصوى على حساب الإنسان وصحته ومستقبله على هذا الكوكب.
كان لتفشي الوباء في فلسطين آثار كبيرة في مختلف نواحي الحياة، كما الحال في باقي أرجاء العالم. ومع إعلان الحكومة الفلسطينية حالة الطوارئ والإغلاق الكامل مطلع آذار/ مارس الماضي دخلت كل القطاعات الإنتاجية والخدماتية في حالة سكون وتوقف، وهو ما تسبب بارتفاعٍ حادٍ في نسب البطالة التي سجلت في سنة 2019 أرقاماً قياسية بلغت 25%. ومع بدء حالة الإغلاق الكامل، أشار بعض التقديرات إلى أن هناك نحو 150.000 عامل في طريقهم إلى فقدان عملهم، وإذا ما أضفنا إليهم أكثر من 9000 سائق مركبة عمومية منعوا هم أيضاً من العمل كإجراء وقائي لمنع التجمع والاختلاط، فإن نسب البطالة في الضفة الغربية حتما ستتجاوز حاجز الـ 40%، مع وضع أكثر قسوة في غزة التي بلغت نسب البطالة فيها نهاية سنة 2019 أكثر من 45% وفق بيانات المركز الفلسطيني للإحصاء.
القطاع الزراعي كغيره من القطاعات الإنتاجية، تكبد خسائر كبيرة جرّاء الإغلاق الكامل لكل نواحي الحياة، ويمكن القول إن مكونات القطاع الزراعي كافة تأثرت بسبب الأزمة، فمثلاً، قطاع الثروة الحيوانية الذي يشمل (مزارع أبقار الحليب، مزارع الدجاج البياض، مزارع الدجاج اللاحم، مزارع الأغنام)، تكبد خسائر كبيرة طالت بصورة خاصة منتجي حليب الأبقار المقدر إنتاجهم اليومي في الضفة الغربية بـنحو 520 طناً من الحليب الطازج كانت تحوّل إلى مصانع الألبان والأجبان التي يبلغ عددها في الضفة الغربية 14 مصنعاً تُشغل أكثر من 1000 عامل، والآن بعد انتشار وباء كورونا، ونتيجة حالة الإغلاق الكامل وتراجع مداخيل العدد الأكبر من الأسر، وهو ما انعكس على مستويات استهلاكها العام مسبباً تراجعاً في القوة الشرائية، قلصت مصانع الحليب والألبان طاقتها الإنتاجية إلى مستويات متفاوتة ما بين شمال الضفة وجنوبها. وكان التراجع في مستويات الإنتاج في مصانع شمال الضفة أكبر منه في جنوبها، فقد تراجعت قدرة المصانع على استيعاب الحليب المنتج يومياً بنسبة تقدر بنحو 40%، لتصبح أقل من 350 طناً يومياً، وهو ما يعني فائضاً يومياً في كميات الحليب المنتج تقدر بـ 170 طناً، والقيمة المالية لهذا الفائض من الحليب تقدر بـ 154.000 دولار. من أجل ذلك عمد عدد من صغار المزارعين، من منتجي الحليب، إلى سكب كميات كبيرة من إنتاجهم في الشوارع وأمام المصانع التي ظلوا لسنوات يقومون بتوريد إنتاجهم إليها بموجب اتفاق موقع بين الطرفين. ويقول صغار المزارعين أن أصحاب المصانع، وفي ضوء تراجع الطلب على منتوجاتهم، نكثوا بالاتفاق واستنكفوا عن استقبال الحليب الطازج الذي لا تتوفر بدائل أُخرى لحفظه أو إعادة تصنيعه منعاً لتلفه. وإذا ما أضفنا إلى هذه المشكلة اشتراط أصحاب مصانع الأعلاف على المزارعين الدفع النقدي قبل تزويدهم بحاجاتهم من الأعلاف وإعلان التوقف عن قبول الدفع بالأجل، فإن هذا يعني عجز المزارعين عن توفير أعلاف لمزارعهم، الأمر الذي يهدد بهلاك مزارع الأبقار والتسبب بكارثه ستنعكس أثارها على القطاع الزراعي ككل، وهو ما يعني أيضاً إخراج نحو 750 منتِجاً من صغار منتجي الحليب من دائرة الإنتاج، ليبقى فقط أصحاب المزارع الكبيرة مسيطرون على سوق الألبان والحليب لقدرتهم المالية على الدفع النقدي لموردي الأعلاف، بمعنى آخر يتحول هذا القطاع المهم إلى قطاع مُحتَكر من كبار المنتجين.
يبقى القول أن توقف بعض المصانع ومحلات الحلويات عن استخدام الحليب الصناعي" البودرة" التي تُستخدم على نطاق واسع من جانب كثيرين، يساهم في حل جزء كبير من فائض الحليب، ويشكل حماية لصغار المنتجين.
لا يختلف واقع مربّي الأغنام والضأن كثيراً عن قطاع منتجي الحليب ومربّي الأبقار، إذ يعتمد ما يربو على 18.000 مزارع صغير بصورة كاملة في دخلهم على تربية الأغنام. ويعصف فيروس الكورونا بهذا القطاع ويهدد بتدمير موسم إنتاج الألبان البلدية (الأجبان والزبدة والجميد) الذي تُعتبر ذروة إنتاجه الموسمي في هذه الأيام، وتقدر الكمية السنوية المنتجة من مشتقات حليب الأغنام في محافظة الخليل بنحو 24.000 طن، وتقدر قيمتها المالية بـ 840 مليون دولار بالإضافة إلى إنتاج ما يقرب من 5000 طن من اللحوم الحمراء التي تقدر قيمتها المالية بـ 355 مليون دولار، وتبلغ قيمة الأرباح الصافية لهذا القطاع 150 مليون دولار سنوياً. وقد عبّر مراقبون وخبراء عن شكوك حقيقية بشأن قدرة هؤلاء المربّين على التعامل مع تبعات الإغلاق الكامل وتراجع الإقبال على منتوجاتهم وهو ما تسبب في تدني أسعار منتوجاتهم إلى ما دون النصف. فمثلاً، انخفضت أسعار الجبنة البلدية من 24 شيكلاً إلى 12 شيكلاً، وكذا الحال عند الحديث عن أسواق اللحوم الحمراء، إذ تراجع الإقبال والطلب عليها بشكل كبير في ظل تراجع القوة الشرائية لدى آلاف الأسر الفلسطينية، ولوحظ ارتفاع في الطلب على لحوم العجول المستوردة التي لا تتوفر في الأسواق الفلسطينية كميات كافية منها لأكثر من أسابيع معدودة.
كذلك يعاني مزارعو الأغنام والضأن بسبب مشكلة توفير حاجاتهم من الأعلاف، وهي المشكلة ذاتها التي يواجهها مزارعو الأبقار، إذ يعجز هؤلاء المزارعون عن الدفع النقدي لموردي الأعلاف. لكن يبقى الأخطر بالنسبة إلى قطاع الثروة الحيوانية الفلسطيني، في حال بقيت حالة الإغلاق على حالها خلال شهر رمضان المقبل، إذ تشير التقديرات إلى أن الإقبال على شراء اللحوم الحمراء لن يتجاوز الـ 20%، وهو ما يعني فشل مربّي الثروة الحيوانية في تسويق أغنامهم وتركها فترة أطول في المزارع الأمر الذي يعني ارتفاع أوزان الأغنام والضأن ليصل المعدل إلى 70 كغ فأعلى، وهو وزن غير مرغوب فيه لدى معظم التجار والمستهلكين، وهو من شأنه أن يكبد هؤلاء المزارعين خسائر فادحة تقدر بعشرات ملايين الدولارات.
أمّا قطاع الدواجن فقد لحقت به أيضاً خسائر، فمن المعروف أن إنتاج المزارعين من الدجاج اللاحم وبيض المائدة يتعدى قدرة السوق المحلية على استيعاب الكميات المنتجة، لذا يلجأ بعض المنتجين إلى تسويق جزء من إنتاجه في السوق الإسرائيلية. وقد تسبب الإغلاق في عجز أعداد كبيرة من المزارعين عن تسويق إنتاجهم خارج مناطق سكنهم، فلجأوا إلى التسويق المحلي في مناطقهم، وهو ما أدى إلى إغراق الأسواق بكميات تفوق حاجتها، وبالتالي تراجعت الأسعار بشكل كبير مع نجاح محدود في تسويق كميات من البيض في السوق الإسرائيلية وهو ما يفسر ارتفاع أسعار البيض في بعض الفترات خلال الأزمة.
قطاع الإنتاج النباتي هو الآخر تضرر، ويكافح مزارعوه من أجل الاستمرار وتسويق منتوجاتهم الزراعية، ولا سيما أن الموسم الزراعي في أوجه، وقد لجأ عدد من مزارعي جنين والأغوار الشمالية، العاجزين عن تسويق منتوجاتهم من الخضروات، إلى حرثها أو رعيها قبل حصادها لتقليل الخسائر وتوفير أجرة العمالة في محاولة للحد من الخسائر المتصاعدة.
وقد تسبب الإغلاق ومنع وصول مدخلات الإنتاج إلى مئات المزارع في رفع أسعارها بصورة غير مسبوقة، فقد سُجل ارتفاع حاد في أسعار الأسمدة بنسبة تعدت الـ 100% في بعض الأحيان، فبعد أن كان يُباع طن السماد بـ 1200 شيكل قبل الأزمة الحالية، تخطى الآن حاجز 2300 شيكل، مع أهمية الإشارة الى أن هذا السعر مشروط بالدفع النقدي، وهو ما يعني عجز المزارعين عن توفير مدخلات إنتاجهم في الوقت الملائم.
هذا الواقع ينذر بأزمة غذاء مقلقة خلال الفترة القادمة في حال امتدت الأزمة أشهراً أُخرى، وهو ما سيؤدي إلى مزيد من الصعوبات التي ستواجه مئات المزارعين وتحد من قدرتهم على مواصلة عجلة الإنتاج الزراعي في ظل الأوضاع الحالية، لذا لجأ اتحاد لجان العمل الزراعي ومعه مؤسسات الائتلاف الزراعي إلى تفعيل العمل بنظام الطوارئ، وهو ما يعني تحويل كل الإمكانات والموارد المتاحة وكل الطاقات للحد من الآثار الكارثية الناتجة من تفشي الوباء، ولحماية القطاع الزراعي الذي يُعتبر من أهم القطاعات الإنتاجية، إذ تزداد الحاجة إلى هذا القطاع في هكذا أوضاع كونه القطاع المسؤول عن توفير غذاء مئات آلاف الأسر في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وعلى مدار السنوات العشر الأخيرة، رفع اتحاد لجان العمل الزراعي شعار تعزيز مبادئ ومفاهيم السيادة على الموارد، وفي مقدمتها السيادة على الغذاء كضامن لبقاء سيطرة المنتجين من صغار المزارعين على وسائل إنتاجهم، وامتلاكهم قرارهم كاملاً في كل ما يتعلق بعمليات الإنتاج الزراعي، وقد جاءت هذه الأزمة لتبرهن بشكل عملي أن الفلسطيني يحتاج إلى أن يولي مفهوم السيادة أهمية مختلفة، ويقدمه على المفاهيم الأُخرى وتحديداً الأمن الغذائي الذي يقوم على توفير الغذاء للمستهلكين معتمداً في ذلك على مصادر خارجية غير وطنية لتوفير الغذاء، وهو ما يعني ترك الأرض والاعتماد في مصادر غذائنا على الخارج وعلى المستورد، وخصوصاً السوق الإسرائيلية.
جاءت هذه الأزمة لتعيد الاعتبار إلى القطاع الزراعي، إذ كان لافتاً لجوء عشرات آلاف الأسر الفلسطينية إلى الزراعة لتوفير غذائها في ظل حالة الخوف والهلع التي سادت بين الناس، والعجز عن معرفة نهاية هذه الجائحة. ففي ظل توقف العمل في كل القطاعات الأُخرى ظل القطاع الزراعي يعمل بوتيرة عالية، وعلى العكس من ذلك انضمت آلاف الأسر بصورة كاملة أو جزئية إلى العمل الزراعي من خلال زراعة أكثر من 10.000 حديقة منزلية خلال أيام معدودة، وتوجه الناس إلى الأرض بشكل غير مسبوق في مختلف المناطق والتجمعات السكانية، وحتى تلك المناطق التي لم يُسجل في تاريخها نشاط زراعي من قبل، كان بمثابة الجانب الوحيد المشرق في هذه الأزمة، فلجأت أعداد كبيرة من سكانها إلى الزراعة، إذ سُجل بين سكان المدن التي اشتهرت فترات طويلة بالصناعة والتجارة والمخيمات المحاصرة ومحدودية الأراضي، إقبال هائل على المشاتل والمؤسسات الزراعية للحصول على شتول ومعلومات عن كيفية زراعة المتاح من حيز في محيط منازلها، أو على شرفات شقق العمارات ونوافذها، ويمكن القول إن الفلسطيني يعود إلى الأرض عند كل أزمة، لأنها تشكل مكاناً آمناً يشعر فيه بالحماية والراحة والهدوء.