تدابير المجتمع الفلسطيني في مواجهة أزمة فيروس الكورونا
التاريخ: 
08/04/2020

تواجه معظم دول وحكومات العالم اليوم جائحة فيروس كوفيد 19 "كورونا"، وهي تقف أمام أزمة عالمية لا تزال في طور انتشارها وامتدادها في ظل غياب العلاج اللازم له؛ وهو ما يعني أن معالم تشخيص آثارها وتقدير حجم تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ما زال مبكراً. وتشير بعض المؤشرات الأولية المستقاة من كيفية إدارة هذه الأزمة دولياً إلى هزال نظام العولمة السياسي والاقتصادي النيوليبرالي، وانفضاح عجزه في حماية المواطنين. فقد فشلت الدول الكبرى، التي استعد بعضها لحرب النجوم، في توفير الرعاية الطبية الأساسية اللازمة لمواطنيها، من أسرّة مستشفيات وأجهزة طبية وأمصال وقفازات وأقنعة طبية واقية، ووقفت مذهولة وعارية أمام هذ الجائحة الكونية. كما بينت هذه الأزمة أن الانسحاب التدريجي الدائم للدور الاجتماعي للدولة، وتقليص الخدمات الاجتماعية التي تقدمها والذي اتسمت به الحداثة كان خطأ فادحاً، فهذا الوضع يجرد الفعل الجمعي من كثير من آلياته، ويقوض الأسس الاجتماعية للتضامن الاجتماعي.

وكما أكد علماء الاجتماع، فإن العمران البشري أو المجتمع لا يمكن أن يواجه التحديات من خلال تفرق جهود الأفراد وتبعثرها؛ فالإنسان، ككائن اجتماعي، يدرك بفطرته ضرورة تعاونه وتماسكه مع الجماعة لتحقيق حاجاته وتعزيز أمنه. والحرية المطلقة للأفراد والجماعات تعني غياب القواعد المشتركة للسلوك الجمعي، والانحدار إلى حالة من اللامعيارية، وهو أسوأ مصير يمكن أن يواجهه الناس في خضم صراعهم من أجل البقاء أو النماء.  

لذلك يُلاحظ أنه وعلى الرغم من تهتك النسيج الاجتماعي الجمعي في ظل الرأسمالية المتوحشة، فإن المجتمعات، بوصفها الروابط الإنسانية الكلية التي تجمع المواطنين في أراضي دولها السيادية، لا تتوقف عن إعادة انتاج آلياتها الخاصة لحماية أعضائها من المخاطر في وقت الأزمات. ولا تتوقف جهود الأفراد والجماعات عن إعادة إصلاح وإحياء آليات التضامن بصيغها المحلية والشبكية من خلال مبادرات مجتمعية عديدة ومتنوعة. وكما يُقال "تظهر معادن الناس وقت الشدائد"، وقد كشفت لنا أزمة كورونا أن هذا ينطبق أيضاً على المجتمعات. فتزامناً مع إجراءات الحجر الصحي التي فُرضت على معظم مجتمعات العالم، برزت مبادرات اجتماعية واقتصادية وتعليمية وفنية مبتكرة وملهمة في العديد من المدن والبلدات حول العالم، والتي عبّرت عن أساليب تعامل المجتمعات وتكيفها مع جائحة فيروس كورونا المستجد.   

وقد عرف المجتمع الفلسطيني آليات تكيّف اجتماعية منذ عدة عقود، فسياق التجربة الفلسطينية تحت الاحتلال عزّز الشعور بأن التغير هو الثبات الوحيد، وأن اللايقين هو اليقين الوحيد. وقد كان المجتمع قادراً دائماً على استعادة إرادته، وإدراك قدراته على تقديم بدائل حياتية تحافظ على بقائه، وتعزز من صموده تكيّفاً مع التغيير. هذا المجتمع الذي ألف العيش في حالة من عدم الاستقرار، وعدم الأمان السياسي والاقتصادي في ظل غياب مؤسسات الدولة الفاعلة، اعتاد إطلاق مجموعة من الآليات المتمثلة في تعزيز علاقات التكافل غير الرسمي المستندة إلى الروابط القرابية، أو روابط الصداقة والزمالة والجيرة وما شابه. والمتمثلة أيضاً في تعزيز التماسك المجتمعي المحلي والجهوي في مواجهة الأخطار الخارجية، وهي علاقات تتخذ أشكالاً متعددة ومتنوعة.

فمنذ بداية أزمة الكورونا، شكلت العائلة وشبكات العلاقات القرابية حاضنة يجري من خلالها مواجهة التداعيات المترتبة على التوقف عن العمل، وانقطاع الدخل في ظل حالة الطوارئ والإجراءات المرافقة للحجر المنزلي المفروض على الأسر الفسطينية كافة. وكما جرت العادة، بدأت الأسرة  بإعادة تكيفها مع الوضع غير المستقر، من خلال إعادة توزيع الأدوار داخلها، واستخدام مواردها المتاحة، بما فيها شبكة علاقاتها المتعددة لتوليد آليات تسمح لها بالاستمرار، وبدأت بتفعيل دورها في توفير الحماية الاجتماعية غير الممأسسة من خلال شبكة تبادل المنافع على مستوى المجموعات القرابية والمجتمع المحلي.

وإلى جانب التكافل القرابي، برزت عشرات الحملات التكافلية الشعبية غير الرسمية على المستويين المحلي والوطني. فظهر العديد من شبكات الدعم غير الرسمية في المدن والقرى ومخيمات اللاجئين، والتي بادرت إلى تقديم مساعدات عينية ومالية من خلال جمع التبرعات المالية الفردية والمؤسساتية، وتوزيعها على المحتاجين والعاطلين عن العمل. وكان خلف هذه المبادرات شرائح ومجموعات اجتماعية متنوعة، كالمجموعات الشبابية، والتنظيمات السياسية، والمؤسسات الأهلية، واللجان الشعبية والأندية، التي اتخذت في مجملها طابعاً خيرياً موقتاً مثل حملات التبرعات في بيت لحم والخليل وبعض المخيمات والقرى في محافظتي رام الله ونابلس. وقد عكست مسميات هذه المبادرات سماتها الخيرية، مثل "براعم الخير"، و"فينا الخير"، و"قادر إذاً بادر"، و"علق ربطة خبز"، و"إيد بإيد والصحة من حديد"، وغيرها من المبادرات المؤسساتية. كما قام العديد من المؤسسات بتقديم الخدمات الطوعية كالمساهمة في مساعدة البلديات والمجالس القروية وبعض أجهزة السلطة في تنظيم العديد من الأعمال الطوعية، كحملات التوعية وتعقيم الأماكن العامة وتوزيع المساعدات العينية، ومساعدة بعض الأُسر في توفير حاجاتها. وإلى جانب هذه المبادرات برزت مبادرات خيرية فردية قام بها بعض التجار وأصحاب المطاعم بتوزيع بضائعهم من المواد التموينية على المحتاجين مجاناً، كما بادر بعض ملاّك البنايات بإعفاء المستأجرين لديهم من أجرة مساكنهم لعدة أشهر. وقدم بعض الملاّك فنادقهم لتحويلها إلى مراكز للحجر الصحي.

كذلك برزت مبادرات من البنوك وشركات القطاع الخاص، لتشكيل صناديق دعم للمحتاجين ولتعويض العاملين العائدين من سوق العمل الإسرائيلي، كصندوق "وقفة عز". ولم تقتصر المبادرات المجتمعية على حملات الدعم المادي فقط، فقد برزت مبادرات ثقافية عديدة قام بها بعض البلديات والمؤسسات الثقافية كمؤسسة الكمنجاتي، ومعهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، ومهرجان الرقص في سرية رام الله الأولى، ومركز الفن الشعبي، وغيرها من المؤسسات.

ولا شك في أن حالة الاستنهاض المجتمعي هذه التي شهدها المجتمع الفلسطيني منذ بداية الأزمة تتسم بمحدودية فعاليتها، على الرغم من تصاعد وتيرتها، وذلك مقارنة بحجم الحاجات المجتمعية التي برزت بسبب توقف عجلة الحياة الاقتصادية، وانكشاف فئات واسعة ومتزايدة في المجتمع الفلسطيني. وهو ما يؤكد أهمية دور السلطة الفلسطينية في رعاية مواطنيها وتوفير الحد الأدنى من حاجاتهم الصحية والاقتصادية انطلاقاً من حقوقهم كمواطنين، وليس كمَكرِمات رئاسية خيرية. فالمسؤولية الأكبر تقع على عاتق السلطة الفلسطينية في الاستجابة السريعة لمتطلبات الواقع الجديد، وعدم الاكتفاء بالدور الإعلامي والتنظيمي والتنسيقي في إدارة الأزمة، بل الاستعداد الجاد لمواجهة الجائحة طبياً، والعمل على إعادة ترتيب أولوياتها الاقتصادية، وسياساتها التنموية بما يتلاءم مع حجم تداعيات هذه الأزمة التي قد تصبح كارثة صحية واقتصادية وسياسية.

عن المؤلف: 

مجدي المالكي: باحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية.