الكورونا والتعليم الإلكتروني في زمن العزلة
التاريخ: 
30/03/2020
المؤلف: 

في غرفتي التي باتت تشكّل قاعة المحاضرة الصفيّة يبدو المشهد غريباً، كوب من القهوة، وجهاز لابتوب، وكثير من الدعاء بأن لا تنقطع الكهرباء، أو يتعطّل شاحن اللابتوب خاصتي. في بقية غرف البيت، أصوات أطفال، وصهيل طنجرة ضغط، وألحان غسّالة، هذا ما يبدو عليه مشهد التعليم الإلكتروني في زمن الكورونا. في بيت آخر قد يبدو المشهد أكثر قساوة، ولا سيما لدى العديد من الطلبة الذين أعرفهم ولا يمتلكون وسيلة للتواصل، أو أن عائلاتهم لم توفر لهم خدمة الإنترنت، وهو ما جعل من محاضرة اللامساواة الاجتماعية تقف أمام تلك المعضلة، حائرة، غير قادرة على احتواء ذوات موضوعها.

 خلال المحاضرة الإلكترونية أجدني مشتاقاً إلى العودة إلى مقعدي في الجامعة، إلى العودة إلى الروتين السابق، إلى متعة النقاش الحقيقي، وليس ذلك النوع من التلقي الزائف الذي تمنحنا إياه شاشات الحاسوب. أشعر بالحنين عند تذكّري انفعالات زميلي الماركسي الذي كان يصرّ دائماً على أن فيبر ما هو إلّا خيال ماركس، على الرغم من كونه لم يقرأ لفيبر ولو نصاً واحداً.

يقوم أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة بيرزيت مصلح كناعنة، بتوصيف هذا النمط من التعليم توصيفاً دقيقاً، إذ يعتبره مجرد "خدعة تكنولوجية" قد تنجح في العلوم الطبيعية، لكنها لن تنجح في العلوم الإنسانية، وهذا صحيح، فطبيعة العلوم التي ندرسها تعتمد بشكلٍ كبير على المحاججة، والنقد المستمر، وبالتالي فموقع الأستاذ داخله لا يحتمل نمط التعليم البنكي (متلقٍ ومستقبِل، ومجموعة من البيانات)، بل إنها عملية محاورة مستمرة، تستوجب الحضور المباشر، وتحمل معها مجموعة من الشيفرات الاجتماعية، التي لا نجدها في شاشات الحواسيب الصامتة.

لا أنكر أن التعليم الإلكتروني اختصر علينا بعض المسافات الزمنية، فلم أعد مجبراً على الانتظار في أزمة قلنديا المقيتة، أو الصعود في مركبة عمومية سائقها يدخن سيجارته دون اكتراث، أو التفاجؤ بحاجز عسكري قرر جندي إسرائيلي وضعه للتسلية المحضة، ولقضاء أوقات الخدمة الإجبارية. كما أن المحاضرة التي كانت تأخذ كل هذا العناء صارت عبارة عن كبسة زر على تطبيق الزوم، ولم أعد بحاجة إلى الهروب من عزلتي وشخصيتي غير الاجتماعية. لكن وعلى الرغم من كل ذلك، فإنها قامت أيضاً باختصار المسافات المعرفية، كالمؤتمرات العلمية وحلقات النقاش ومجموعات القراءة والمكتبات وغيرها، وجعلتنا سجناء عالمها الافتراضي، الذكي والمتحايل.

في مرحلة البكالوريوس المبكرة، كنت متلهّفاً لسماع أستاذي يتحدث عن أسلوب التعليم التعاوني، النقيض والحل السحري للخروج من نمط التعليم التنافسي، حيث لا وجود للعلامات، وعلى جميع الطلبة التعاون للنجاح. اليوم وبعد إعلان جامعتي "جامعة بيرزيت" قرارها الجديد بمنح جميع الطلبة الذين يقومون بالحد الأدنى من متطلبات المساق علامة "ناجح"، أي وبعبارة أُخرى نجاح للجميع "نجاح دون مقابل"، أجدني منحازاً إلى المنافسة، مستذكراً نشوة الحصول على أفضل تقييم، وعلى امتداحات الأساتذة، وتوبيخهم في أحيان أُخرى.

أمام جائحة الكورونا التي تغزو العالم، وخلال هذه الأيام التي تخبئ لنا المجهول، بالتأكيد لا نعلم إن كنا من ضحاياها الجسديين، لكننا جميعاً من ضحاياها النفسيين. لقد أصابتنا بفوبيا الأخبار، وجرّدتنا كثيراً من الأدوات التي كانت متاحة ولم نعلم أهميتها، لكنها في الوقت ذاته منحتنا العزلة، وكانت أكثر لطفاً من الإنسان فلم تمنعنا من حرية الكتابة والتفكير والمعرفة. في كل مرة نشعر فيها بالإحباط من هذا العالم ومن نمط التعليم الإلكتروني، علينا تذكّر المقولة الصينية جيداً، والتي تقول "يمكن للأستاذ فتح الباب لكم، لكنكم دائماً مطالبون بالسير فيه."

عن المؤلف: 

عمر التميمي: طالب ماجستير في جامعة بيرزيت.