التعليم عن بعد يخدم جزئياً، وتبقى أدواته محصورة
التاريخ: 
30/03/2020
المؤلف: 

مع بداية أزمة كورونا وتعطيلها المؤسسات التعليمية والأكاديمية، عمِل كادر جامعة بيرزيت الأكاديمي والإداري بكل جهد وتفانٍ وتعاون للبدء بخطوة ريادية في عملية التعليم عن البعد. لم يكن الأمر سهلاً بالضرورة، ولم يتوانى الكادر عن تقديم التدريبات والنصائح والإرشادات، ومشاركة التجارب الجيدة منها أو السيئة على المنصة الإلكترونية المشتركة ما بين أعضاء الكادر الإداري والفني والأكاديمي.

 شخصياً، خُضت تجربة التعليم عن بعد كما الكثير من زميلاتي وزملائي في جامعة بيرزيت، بعد أن لزمني ما يكفي من الوقت للتعلم والتأقلم، وطرح العديد من الأسئلة، وخوض تجارب أولية تحمل الصواب حيناً والخطأ حيناً آخر.ولم يكن الأمر سهلاً، بوجود طفلٍ صغيرٍ في المنزل على وجه التحديد. إذ أضحت أهم أولوياتي الملائمة ما بين قيلولته خلال النهار ومواعيد بعض الحصص. لقد كان الأمر، وما زال مُرهقاً.

 في الوقت ذاته، حثت هذه التجربة الجديدة وأفرزت لدي الكثير من التساؤلات عن ماهية التعليم والتعلّم عن قرب أو عن بُعد، وعن فلسفة التفاعل الإلكتروني في التعليم، وما هو هذا الشكل الجديد للتفاعل، وما يُمكن كسبه أو خسارته في خضم هذه التجربة الجديدة. ولا شك في أن مبادرة التعلّم عن بعد هي تكتيك مرحلي جيد للعب "فن المُمكِن"، إن صح التعبير، في هذه الأوضاع القاسية. فمن خلال التعلّم عن بعد، استمر بشكل أو بآخر التواصل مع الطلبة، ولربما بعضهم، وتمكن جزء كبير من الكادر الأكاديمي من إعطاء ما أمكن من المواد التعليمية وتمريرها للطلبة بهذه الوسيلة الإلكترونية الجديدة، التي وإن ساعدت فيما سبق ذكره، إلاّ إنها كأي وسيلة تواصل حديثة لها حدودها وفلسفتها التقنية المحصورة بما يُسمى تفاعل، وأدواتها المضبوطة في التواصل والضبط والتحكم والتقييم.

فحين اخترع توماس أديسون المصباح الكهربائي سنة 1879 وأدخل بذلك النور الكهربائي إلى المنازل، والشركات والمصانع، وما تبعه من اختراعات للتلفاز والمذياع والحاسوب والإنترنت، أعيدَ تشكيل مفاهيم جوهرية كالتفاعل والتواصل، وطرق تلقي الخبر والمعلومة. فكل اختراع يجلبه البشر يعيد تشكيل وإعادة بلورة وصوغ علاقاتنا الاجتماعية، والكثير من مفاهيمنا، وهيكلية علاقات القوة والسيطرة ما بيننا، وتمكين أدوات ذاك الاختراع من النفوذ والضبط والسيطرة، إن جاز التعبير.

 لذا، وفي مرحلة التعليم عن بعد التي نخوضها حالياً، يتوجب علينا أن نُدرك بحرص، ونتواضع أمام محدودية هذه التقنيات الحديثة في التعلّم، وضعفها، وسلطتها علينا بأدواتها المضبوطة، وإن كانت الخيار الجيد والوحيد المتبقي أمامنا ضمن هذه الأوضاع القهرية. فهي تخدم نعم، لكن بجزئية ما، وضمن حدود أدواتها وإمكاناتها المحصورة، كما أن تقييمها كتجربة يجب أن يدور في مدى حدودها لا أكثر ولا أقل. فعلى سبيل المثال، بينما تستطيع هذه المنصات الإلكترونية استضافة ما يُقارب 300 طالب وطالبة في محاضرة واحدة، يصبح هذا التساؤل منطقياً: ما هو دور المحاضر/ة في هذه الحالة؟ وبماذا يختلف هذا الشكل من التعلّم عن بعد عن مشاهدة موضوع المحاضرة على يوتيوب مثلاً، فيوتيوب وسيلة للتعلّم أيضاً. من ناحية أُخرى، يطرح البعض أن التعلّم عن بعد يمكن أن يكون أنسب لحقول معرفية أكثر من غيرها. فمثلاً، له أن يتماشى وينسجم مع العلوم الطبيعية أكثر من العلوم الاجتماعية. في اعتقادي إن هذا الطرح خاطئ ويخدم فكرة حَصر مجالات العلوم الطبيعية وخنقها في النظرية والتجريد أكثر منه في التطبيق والتفاعل. ففي كتابه "حكايتي مع الرياضيات"، أكد الكاتب والتربوي الفلسطيني منير فاشة، الذي عمِل أستاذاً لمادة الرياضيات في جامعة بيرزيت، ارتباط الرياضيات بالزراعة والفن والموسيقى، وابتعاد مناهجنا عن تدريسه في سياقات حياتية مرتبطة بأمور الحياة وشؤونها اليومية. لذا فإن العلوم الطبيعية، كما العلوم الاجتماعية والإنسانية، تواجه صعوباتها كما باقي الحقول المعرفية، وهي بحاجة ماسة إلى تفاعل عضوي ما بين مادة التعليم ومعانيها وتطبيقاتها في مجالات الحياة الواسعة.

 من ناحية أُخرى، يمكن القول إن هذه التجربة الجديدة في التعليم عن بعد وضعتنا أمام أنفسنا وواجهتنا بعض الشيء بفلسفتنا ونهجنا في التعليم ما قبل أزمة كورونا. إذ إنها حقاً باغتتنا بتساؤلات مهمة، مثل، أين يكمن فهمنا لمسألة التفاعل داخل الصفوف وما بين طلبتنا؟ وإلى أي حد يؤخذ التفاعل كمجرد إضافة في المحاضرة العادية، أم إنه يُنتهج كفلسفة لإيجاد مساحات حُرة أوسع لتفاعل واستنباط جماعي أعمق، وتفكير نقدي وتفكيكي حُر أكثر، ليدعم ويصقل بذلك مهارات الطلبة المتعددة، الأكاديمية منها والحياتية؟ وإلى أي درجة نقوم نحن كأكاديميين بإقحام طلبتنا وتفعيل دورهم في المساهمة في سيرورة تعلّمهم، ومناقشتهم آراءهم وأفكارهم باستفاضة، وروية وحكمة وتأمل، لندعم نقدهم للكثير من مُسلمات التدريس والمناهج، كي يكتشفوا ما يكتشفوه في رحلتهم هذه، وليعيدوا النظر في مفاهيمها ومركباتها ومُسلماتها، ليجتهدوا في تقديم معنى ومعرفة أكثر قُرباً لهم ولهن.

 في النهاية، نُشكر جميعاً كأفراد أياً كنا في مجتمعنا الفلسطيني، وفي العالم ككل، لكل جهودنا المتعددة بقدراتنا المُتاحة التي نضخها يومياً لكي نستطيع سوياً العبور إلى مكان آمن أكثر.

عن المؤلف: 

أمل نزال: عضو هيئة أكاديمية في جامعة بيرزيت - دائرة إدارة الأعمال.