أين يذهب الأسرى، كيف يتداركون عدوى اللامرئي، وهم الذين طوّروا عيش الزمن في اللامرئي وتحت رقابته وأجهزته وأقاموا عالماً في مساحاته؟ في السجن وفي ظل واقع طوارئ قهري مستدام، يبني الأسير عالمه في الضيق وفي القلّة، وفي هدوء وصبر لأنه لولاهما لما استطاع بناء عالمه المؤقت وتوازنات الصمود الذاتي الضرورية.
حين حلّ موسم الكورونا القاسي، اكتشفت أنني أملك أدوات الأسرى التي تساعد في حالات الحظر والحجر والحذر. يقولون "صبر أيوب"، لكن صبر الأسرى لا يقلّ بل ربما يزيد، وليس في ذلك امتحان رباني بل واقع احتلالي استعماري استيطاني. الحجر الذي يعاني منه المجتمع عامة، هو حالة دائمة في السجون، لكن الضائقة تزيد بضائقة خانقة أكثر، وهو بمفهوم آخر حالة فلسطينية دائمة في واقع التجزئة والمعازل المستدام حالياً.
في أعقاب خطوة احتجاجية جماعية تمثلت برفض تلقي المواد التموينية والغذائية، ضغط الأسرى على إدارة السجون للقيام بحملة تعقيم واسعة. صحيح أنّ الحركة الأسيرة ليست بأحسن حال، ورغم هذا الحال فإنها وحين يتعلق الأمر بحياة الأسرى أو بقلقهم على عائلاتهم سرعان ما تُفاجىء في سرعة استعادة كلمتها الموحدة مصدر قوتها الدائم حتى في مراحل التراجع. وفي نضالات الأسرى، فإن اجتماع دورهم مع المساندة الخارجية المحددة ذات الأثر هما الشرط لتحقيق أي إنجاز.
خيراً فعلت بعض المؤسسات الحقوقية في لفت النظر إلى ضائقة الأسرى في سياق الكورونا، وفي توجهاتها الرسمية إلى مصلحة السجون تحملها، وتحمل الدولة المسؤولية عن مصير وسلامة الأسرى، وتضعها تحت عين الرقابة الخارجية، كما أنها طالبت بتعويض منع الزيارات العائلية بتوفير إمكانية تواصل هاتفي لكل أسير مع عائلته للاطمئنان المتبادل.
لكن هناك قلق تجاه الحياة اليومية المستجدّة، إذ كيف يحافظ الأسير على مسافة مترين بينه وبين زميله كي يتفادى انتشار الكورونا، في حين لا يتيح لهم المكان ذلك لا في النهار ولا في الليل، ولا تتيح الأسرّة ذات الطابقين هذا المعيار؟ أيّ خوف يساور أسيراً أصابته الانفلونزا العادية في نهاية الأسبوع، ولا من طبيب في السجن يشخّص وضعه؟ وما هو شعور ممثل المعتقل الذي يأتمنه الأسرى على تمثيل مصالحهم ومطالبهم، في حين لا تتيح له إدارة السجن ذلك بحجة الإجراءات، وفي حال وافقوا، ترتفع التوقعات ويعود خائباً ويغدو القلق إحباطاً جماعياً؟ ماذا يفعل حين ترد إدارة السجن طلبه بالحصول على مواد تعقيم وتنظيف مناسبة للأسرى؟
***
في الحديث عن الأفراد، تأتي التفاصيل الأكثر قساوة. منذ بداية انتشار الوباء وتحضرني وجوه الأسرى، أعرفهم في هدأتهم وفي توترهم وفي حالات القلق، وفي اندفاعهم وفي خوفهم، وفي فرحهم الأسير وفي حزنهم المكبوت. ليست الأرقام والتعداد هو ما يحضرني وإنما الوجوه وما أكثرها لكني أعدد بعضها:
وجه ابن عكا في السابعة والسبعين من العمر الذي يعاني من آثار الجلطة الدماغية وعملية قلب مفتوح، وينتظر الفرج بعد عدة أشهر، ومن السجن سيجري طرده مباشرة من البلاد إلى الطائرة لتنقله من رمضاء الكورونا الإسرائيلية إلى نار الكورونا اليونانية. وجه ابن الخامسة والخمسين صاحب الجسد النحيل الذي يعاني من مرض هشاشة العظام المزمنة، ويجتهد في الكتابة والرسم والشعر، لعل التعبير يخفف أوجاعه، ووجه ذاك الشاب النابلسي الذي حمل روحه على راحته ومزقت جسده عشرات الرصاصات الاحتلالية، ولا تزال بعضها مستقرة في فضاءات قلبه يحظر الطبُّ إخراجَها، ووجه شاب أعزب صغير السن استشهد والده وهو المعيل لأمه وإخوته وأخواته، ووجه من يواجه المرض العضال وتردي جهاز المناعة وهو في العقد الرابع من الأسر، ولا تراه يتذمر، وما أكثر الوجوه.
في اعتقادي أن الحركة الأسيرة سوف تتدبر أمورها داخل السجون، فقوتها الفعلية إذا استخدمتها هي أقوى من عنصرية أي حكومة أو وزير أو مسؤول، لكن في حالة الطوارئ تختلف الأمور، ورغم الحاجة إليها فهناك مؤشرات مقلقة، إذ أوعز وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي إلى مصلحة السجون باتخاذ الإجراءات والاحتياطات القمعية داخل السجون نتاج احتمالية انتشار الوباء. وذلك ليس من أجل توفير العلاجات وإنما للحيلولة دون تمرد الأسرى أو محاولات للهرب من الموت المغلق. وفي مثل هذه الحالة، فإن من سوف يتولى مثل هذا الأمر في حالات الطوارئ هو مصلحة السجون إسميًّا لكن مدعومة من الشرطة، وكذلك من الجيش، بتحميل قيادة الجبهة الداخلية مسؤولية إدارة الحياة المدنية الخاضعة لحالة الطوارئ، وهذا ينبغي رصده ومتابعته، لأن التوجه العام نحو الأسرى عدائي وانتقامي بشكل سافر.
رغم انشغال الناس في بلدنا كما في كل العالم بحياتها وقلقها على ذواتها وهذا طبيعي، تبقى قضية الأسرى مسؤولية الجماعة.