المالكي، مجدي وحسن لدادوة. "تحولات المجتمع الفلسطيني منذ سنة 1948 جدلية الفقدان وتحديات البقاء" (بالعربية)
النص الكامل: 

تحولات المجتمع الفلسطيني منذ سنة 1948: جدلية الفقدان وتحديات البقاء

مجدي المالكي (مؤلف ومحرر رئيسي)، وحسن لدادوة (مؤلف ومحرر مشارك).

بيروت ورام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2018. 600 صفحة.

 

يقدم هذا الكتاب، في فصوله الخمسة، رؤية شاملة إلى التحولات التي مر بها المجتمع الفلسطيني منذ أواخر القرن التاسع عشر، مع التركيز على المرحلة التي أعقبت نكبة الفلسطينيين في سنة 1948.

يعالج الكتاب في الفصل الأول، تحولات الفلسطينيين الاجتماعية منذ أواخر الحقبة العثمانية حتى سنة 1948، فيرى الكاتبان أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وإن استفادت منها الصهيونية، إلّا إنها ساهمت في صناعة نخب فلسطينية جديدة لم تكن موجودة من قبل. ففي مدن فلسطين الداخلية، كالخليل والقدس ونابلس، برزت نخبة سياسية مقاومة (ص 50)، ساهمت في التأسيس لنضال شعبي ضد الانتداب، برز في ثورة 1936 - 1939، مع تنظيم الفلسطينيين أنفسهم في جمعيات، بهدف مقاومة إجلاء السكان الأصليين من فلسطين (ص 60).

ويسلط الفصل الثاني الضوء على تحولات الفلسطينيين الاجتماعية في أعقاب النكبة داخل فلسطين وخارجها، إذ وضعت حالة الشتات، بعد تهجير أكثر من 700,000 فلسطيني، حزءاً منهم تحت حكم أنظمة سياسية واقتصادية مختلفة، مثلما هو الوضع في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقادت إلى تحولات اقتصادية واجتماعية متفاوتة ؛ فسكان الضفة تحولوا من التركيز على قطاع الزراعة إلى التركيز على قطاع الخدمات في إبان الحكم الأردني، بينما اهتمت الحكومة المصرية في السيطرة على الفلسطينيين، بتعزيز نفوذ عائلات على حساب عائلات أُخرى (ص 89). أمّا في الشتات، فقد عانى اللاجئون الفلسطينيون جرّاء سياسات التهميش في سورية والأردن ولبنان، والتي أدت إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة واليأس والاكتئاب (ص 117). وفي أراضي 1948، كانت معاناة الفلسطينيين أكبر بسبب وقوعهم تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، وخضوعهم لسياسات السيطرة والضبط والتحكم والأسرلة المباشرة.

ويخصص المالكي ولداودة، في هذا الفصل، قسماً لمناقشة مقاومة العرب التي أثّرت بشكل لا لبس فيه في إسرائيل، ويعرّج على خصوصية نضال الفلسطينيين، بانتقاله من "سياسة التعايش" إلى "سياسة الحقوق"، ومن التركيز على "الهوية" إلى "سياسات الهوية"، ومن التركيز على "سياسات تمثيل العرب" إلى "التمثيل السياسي"، وذلك سعياً لخلق فضاء سياسي عربي يجسد الهوية الفلسطينية (ص 162).

يتناول المالكي ولدادوة في الفصل الثالث تحوّل الفلسطينيين من أولوية التحرر إلى أولوية الدولة، ولا سيما بعد توقيع اتفاق أوسلو الذي يعتبره المؤلفان مفترقاً مهماً في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية انتقل بالفلسطينيين من التركيز على التحرر إلى التركيز على بناء المؤسسات.

يحدد المؤلفان سبع سمات رئيسية تفسر التحولات التي مر بها المجتمع الفلسطيني منذ أوسلو: أولاً، الشكل الجديد للنظام السياسي الفلسطيني، بانتقاله من نظام مقاوم إلى نظام مهتم بخطط التنمية وبناء المؤسسات؛ ثانياً، تهميش دور منظمة التحرير الفلسطينية وتحييدها، وإيلاء السلطة الفلسطينية مهمات إدارة وتمثيل شؤون الفلسطينيين (ص 227)؛ ثالثاً، المركزية الإدارية والسياسية وحصرها في يد السلطة التنفيذية، وتضخّم القطاع الحكومي، وانتشار الفساد في المؤسسات العامة (ص 234)؛ رابعاً، تحكّم حركة "فتح" بصفتها الحزب الحاكم في تحديد طبيعة النظام السياسي الفلسطيني، وتهميش غيرها من الفصائل الوطنية والإسلامية؛ خامساً، انتقال حركة "حماس" من موقع معارضة الحكم إلى الحكم نفسه، واندثار الأحزاب اليسارية التي لم تتمكن من الجمع بين مهمات التحرر الوطني ومهمات النضال من أجل الديمقراطية (ص 247)؛ سادساً، نشوء نظام اقتصادي معتمد على المنح والمساعدات الدولية، الأمر الذي فسح المجال لانكشاف الحقل السياسي الفلسطيني أمام التأثيرات الخارجية، وسمح لإسرائيل والمجتمع الدولي بابتزاز السلطة الفلسطينية (ص 254)؛ سابعاً، تشتت المجتمع المدني بسبب نمط العمل الذي يتبنّاه، وغياب المساءلة والشفافية، والخضوع لأجندة المانحين (ص266).

يبحث الفصل الرابع في سياسات الاحتلال منذ سنة 1967 التي قوضت حياة الفلسطينيين الطبيعية، ومسّت مقومات وجودهم. فقد اعتمدت إسرائيل منذ احتلالها الضفة والقطاع على "وسائل الإخضاع" كالقوانين والأوامر العسكرية، ثم انتقلت إلى "سياسة الدمج والفصل" بعزل الفلسطينيين وتفتيتهم وفصلهم بعضهم عن بعض، وعملت على تغيير ملامح المدينة والقرية الفلسطينية وانتقالهما من التركيز على النشاطات الاقتصادية الإنتاجية، كالزراعة، إلى الاعتماد على النشاطات غير الإنتاجية، كالخدمات. وبالتالي فسحت هذه السياسات المجال أمام مجموعة من التحولات برزت مع ظهور شريحة جديدة، كالمقاولين والتجار والوكلاء المتعاونين مع إسرائيل، وذلك بدلاً من شريحة ملّاك الأراضي (ص 308).

يؤكد الكاتبان أن الفلسطينيين لم يقفوا صامتين تجاه هذه السياسات، فقد شكلت الانتفاضة الأولى صدمة للاحتلال الإسرائيلي، بسبب فشل محاولات الضم والتطبيع والتحكم في السكان، فضلاً عن صدمتهم من تضامن الفلسطينيين وتجانسهم الطبقي والجهوي. وهذه الصدمة المصحوبة بأضرار اقتصادية على الاقتصاد الإسرائيلي، جعلت إسرائيل تفكر في الاحتلال غير المباشر بدلاً عن المباشر، بصفته احتلالاً بتكلفة أقل (ص 315).

يلاحظ المؤلفان أن الاحتلال غير المباشر الذي ولد مع اتفاق أوسلو، عزز مجموعة من التحولات الجديدة في المجتمع الفلسطيني: ارتفاع أهمية الروابط الأسرية والعشائرية التقليدية على حساب الروابط الوطنية، والتي شكلت ملاذاً لتأمين حاجاتهم وتوفير الحماية الاجتماعية، في ضوء غياب جهة وطنية تعزز الديمقراطية والمشاركة. وهذا الأمر فسح المجال أمام تكريس نظام الريع الاقتصادي، والشرذمة الاجتماعية، وزيادة معدلات البطالة والفقر، والفساد الحكومي، وتضخم القطاع العام. وقد برز ذلك مع مساعي السلطة لتوسيع التوظيف في المؤسسات الحكومية، بصفته آلية لكسب ود الناس وولائهم للسلطة وحركة "فتح" بصفتهما المتحكّمين في شؤون الفلسطينيين (ص 335)، بحيث تراجعت مكانة الطبقة الوسطى التي تمركزت بالقرب من مؤسسات السلطة والمؤسسات غير الحكومية، سعياً منها للحصول على مكاسب سياسية واجتماعية واقتصادية.

يُعدّ الفصل الخامس والأخير مساهمة مهمة في مجال دراسة الإنتاج الأدبي والفني الفلسطيني، ويشارك فيه الباحثان جمال ظاهر وعبد الكريم البرغوثي اللذان أظهرا تجليات الثقافة الفلسطينية في ضوء تحولات الهوية الوطنية. في الجزء النظري، يقول الباحثان: لا بد من التعامل مع الثقافة، كمركب ذي علاقات خارجية وأُخرى داخلية، تؤثر وتتأثر بتحولاتها، وضمن قوانين حركة خاصة بها (ص 429). وهذا يُفسر حركة التحولات والتأثيرات المتبادلة التي أثرت في الوعي الفلسطيني الذي نشأ ضمن وعي شامي – قومي منذ أواخر الثامن عشر. ويدلل الباحثان على ذلك بالأغاني الشعبية، ولا سيما أغنية "غزالي غزالي" المصنفة تارة على أنها تركية، وطوراً على أنها فلسطينية، ومرة أُخرى على أنها سورية، وكذلك أغنية "ع الروزانا" التي تحمل الجدل نفسه بين أصولها الفلسطينية أو السورية. هذا الجدل يؤكد أن هذه الأغاني جسدت التراث الشعبي الشامي أكثر من تجسيدها التراث الفلسطيني أو السوري أو اللبناني فقط، وهذا ما حدث بالضبط أيضاً مع الفن التشيكلي والأدب قبل نكبة 1948 (ص 440).

بعد ذلك يعرض الباحثان التحولات التي مرت بها الثقافة الفلسطينية، بدءاً من الانفصال الفلسطيني عن البعد العربي، والمتجسد في "المؤتمر الفلسطيني العربي الثالث" الذي عُقد في حيفا في سنة 1920، حيث استخدمت صحيفة "الشورى" عبارة "إعدام أبناء فلسطين الثلاثة – الآن أصبح لفلسطين شهداء" [عطا الزير، ومحمد جمجوم، وفؤاد حجازي] (ص 453)، مروراً بالتحولات في إثر نكبة 1948 التي أعطت الثقافة الفلسطينية أبعاداً متمايزة من بعضها، بدخول مفاهيم كالتشتت والتجزئة وغير ذلك، ومروراً أيضاً بالظروف الاستثنائية والمضايقات التي يتعرض لها الكتّاب الفلسطينيين في المهجر، وصولاً إلى التحولات الثقافية التي أعقبت اتفاق أوسلو. هذا العرض التاريخي يستحضره الباحثان لتأكيد دور الأحداث السياسية في صناعة التحولات الثقافية في فلسطين (ص 498).

ختاماً، لا بد من تأكيد أمرين: أولاً، أن الكتاب يزخر بالمعلومات القيّمة عن المجتمع الفلسطيني. فقد اجتهد المؤلفان، والباحثان المشاركان، في تتبّع التحولات التي مر بها المجتمع الفلسطيني في الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية، منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبطريقة يصعب أن تجدها في مؤلف واحد؛ ثانياً، يتضمن الكتاب، مراجعة مهمة لأدبيات الصراع العربي – الإسرائيلي، مع لمحة موفقة لبعض التطبيقات النظرية المستوردة التي استسهل الباحثون الفلسطينييون تقديمها، من دون التحقق من مواءمتها مع حيثيات الصراع مع المستعمِر الإسرائيلي.

لكن، في المقابل، لم يجب الكتاب عن سؤال: هل يمكن الحديث عن مجتمع فلسطيني حقيقي في ظل الشرذمة والتشتت الجغرافي الواقع منذ سنة 1948؟

إن استبعاد التعامل مع خصوصية الفلسطينيين على أنهم لا يعيشون في مكان جغرافي واحد، ولا يرتبطون فيما بينهم بعلاقات اجتماعية متماسكة، ولا يشكلون كتلة واحدة، ولا يخضعون لمنظومة قوانين موحدة، يصعّب علينا إطلاق صفة مجتمع على الفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها.

ومع أن الكتاب لم يحمل أي جديد، إذا ما قورن بالمساهمات البحثية المقدمة من علماء اجتماع فلسطينيين في دراسات سابقة، إلّا إن هذا لا يقلل من أهميته على الإطلاق، لأن الكتاب لم يدّعِ أنه سيقدم شيئاً جديداً. فضلاً عن ذلك، يُحسب على الكتاب أثره في تعميق القناعة بالوضع الراهن، وهو أثر خاضع للجدل في حد ذاته، ولا سيما مع ظهور مقاربات جديدة، باعتبار القضية الفلسطينية مسألة استعمار استيطاني، وليس مسألة احتلال، الأمر الذي يستوجب من الباحثين الفلسطينيين توحيد الإطار أو المدخل المفاهيمي. فقد أصبح واجباً بحثياً إعادة النظر في الدراسة بشأن الصراع العربي – الإسرائيلي، والانتقال من اعتبار إسرائيل، دولة احتلال أو فصل عنصري، إلى اعتبارها نظام استعمار استيطانياً إحلالياً عنصرياً، يهدف إلى إحلال شعب محل شعب.

السيرة الشخصية: 

إيهاب محارمة: باحث فلسطيني