النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت
شفيق الغبرا
بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة "ذاكرة فلسطين"، 2018. 342 صفحة.
يقول موريس هالبواش (Maurice Halbwachs): "إن الحاجة إلى كتابة تاريخ فترة ما أو تاريخ مجتمع ما، لا تتيقَّظ إلّا بعد مرور زمن عليها، ويقلّ حظّ أن نجد حولنا عدداً من الشهود الذين يحفظون بعض الذكريات."[1] لكن، في التأريخ لأحوال المجتمع الفلسطيني، يبقى الشهود حاضرين، جيلاً بعد جيلاً، يحفظون ماضيهم وتاريخهم، ويعيدون إحياءه من خلال سردياتهم وتجاربهم المعيشة في أرضهم، وخارج حدودها أيضاً، في جميع بلاد الشتات، ليكون ذلك فصلاً من فصول المقاومة في وجه محاولات الإلغاء.
في كتابه "النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت"، يعود الباحث الكويتي / الفلسطيني شفيق الغبرا إلى سرديات الفلسطينيين وتجاربهم وتاريخهم الشفاهي، ليتقصى آليات الصمود والبقاء والحنين إلى العودة المعنوية والجسدية التي اعتمدوها منذ سنة 1948. ويعرض الوسائل التي مكّنتهم من إعادة التنظيم والبروز من جديد، في محاولة لفهم جانب مهم وغير موثّق من جوانب الشتات الفلسطيني وممراته المعقدة.
يقوم كتاب الغبرا على مقاربة دور روابط التضامن العائلي في الحفاظ على النسيج الاجتماعي الفلسطيني وإعادة بنائه في بلاد جديدة. ويرتكز الكتاب على عمل ميداني بدأ في صيف سنة 1948، ثم تعمّق بصور شمولية على مدى 3 أشهر في الكويت خلال صيف سنة 1985، وتضمّن نحو 110 مقابلات مفتوحة.
يعرض الكاتب طبيعة المجتمع الفلسطيني الذي اقتُلع من جذوره في سنة 1948، فيوضح أنه كان مجتمعاً موجهاً إلى حد كبير نحو العائلة، يمنح الأولوية للروابط الشخصية وغير الرسمية. ظلت العائلة في هذا المجتمع وحدة مؤثرة على الرغم من جميع التحولات والتغيرات التي شهدها، في ظل الانتداب البريطاني. وكذلك الأمر في إبان النكبة، وبقي دور العائلة محورياً "بصفتها المؤسسة المركزية لاستمرار الفلسطينيين في الشتات، وخاصة في المراحل الأولى للنكبة، بل ولمراحل طويلة مستمرة حتى يومنا هذا."
يشير الغبرا إلى أن الجالية الفلسطينية في الكويت مثّلت المجتمع الفلسطيني الأصلي بأكمله. فبين سنة 1948 ومطلع الخمسينيات، قصد الكويت كثير من نخبة الفلسطينيين المتعلمين أصحاب الخبرة، ذلك بأنها كانت "الأكثر انفتاحاً في منطقة الخليج في ذلك الزمن، والأكثر قومية وعروبة واستعداداً للتقدم والنهوض منذ عقود ما قبل النفط." لقد كانت الكويت، في الإطار التاريخي، المكان الأول للشتات الفلسطيني، وإعادة للمّ شمل الطبقة الوسطى ونشوئها ما بعد النكبة.
مع وصول النخبة المثقفة من الفلسطينيين إلى الكويت، برزت مجموعة من الأنماط التي ساعدت في قولبة البنية الكاملة للشتات الفلسطيني. فقد بدأ الفلسطينيون يسعون للتواصل فيما بينهم، ولبناء روابط أرست أسس مجتمع الصمود الفلسطيني الجديد. وكانت المعايير المهنية العالية والمستوى التعليمي هاجساً لهم، فضلاً عن لمّ شمل العائلة والأقرباء واستعادة الهوية الشخصية والثقافية والوطنية. وفي غضون أعوام، تَشكّل مجتمع جديد من النخبة الفلسطينية من المتعلمين والإداريين الذين كانوا من أوائل الوافدين الفلسطينيين إلى الكويت، وشغلوا مناصب مهمة في مختلف المجالات، وكان لهم دور أساسي في بداية نهضة هذا البلد.
ويرى الغبرا أن هؤلاء المتعلمين والوافدين الأوائل، شكلوا النماذج الأولى في سياسة التماسك العائلي الفلسطيني. وكانت النزعة العائلية المتجددة التي ظهرت بعد وصول الفلسطينيين إلى الكويت، هي الجسر الذي أقاموه لتسهيل وصول شبكاتهم العائلية وأصدقائهم، حتى إنهم استطاعوا إعادة بناء الشبكة الاجتماعية والعائلية على مستوى أكبر. وشكّل الفلاحون الفلسطينيون المجموعة الكبيرة الثانية التي وصلت إلى الكويت، والذين مع وصولهم، بدأوا يبحثون عن أقاربهم وأبناء قراهم الذين وصلوا قبلهم بأشهر. وأحضر الوافدون الجدد عائلاتهم إلى الكويت، وأخذوا على عاتقهم تعليم إخوتهم، ومع مرور الوقت، أنشأت كل عائلة شبكتها الخاصة هناك، مستندة في استراتيجيتها الأولى للبقاء إلى الشبكات القروية والعائلية الشخصية.
يعتبر الغبرا العائلة نقطة الارتكاز الأساسية في اتخاذ قرار قدوم الفلسطينيين إلى الكويت، وعبور طريق التهريب الخطرة وتجارب التأقلم الأولى. ويضيف أن البعد الأهم في هذه التجربة، ارتبط بمقدرتهم على التفاعل وطنياً مع النخبة المتعلمة التي سبقتهم إلى الكويت. وقد أدى هذا التفاعل إلى نشوء بنيان اجتماعي اقتصادي معنوي فلسطيني جديد جعل الشتات الفلسطيني الأول يتطور.
ويشير المؤلف إلى أنه لا يمكن فهم كيفية تعامل المجتمع العربي الفلسطيني مع النكبة وأثرها، بعيداً عن العائلة الفلسطينية وروحيّتها الجاذبة للتضامن، وشبكة العلاقات التي وُجدت فيها. فمع أن نمو الشتات الواسع عبر عدة دول ومجتمعات وأوطان كان من أبرز نتائج النكبة، إلّا إن في قلب هذا الشتات، تطورت العائلة الفلسطينية بصفتها منظومة عابرة للأوطان.
ويُظهر الكتاب، استناداً إلى تجارب وشهادات فلسطينية، كيف اتّبعت كل عائلة استراتيجيات للبقاء، عبر توظيف جميع العلاقات الممكنة والدعم العاطفي (الزواج والزيارات)، وكذلك الدعم المادي، من خلال إنشاء صناديق (مؤسسة أو جمعية) هدفها مساعدة العائلة في التعامل مع أزمة الشتات. ومن هنا، شكلت العائلة في الكويت، وفي مناطق الشتات، أكثر كثيراً من مؤسسة للبقاء الفردي، بل تحولت إلى مؤسسة تحمي النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وتعيد اللحمة إليه في الشتات، ليكون للفلسطينيين وجود متماسك على المستوى الجماعي.
وثَّق الكتاب الأنماط الأولية لاستراتيجيات البقاء التي انتهجها الفلسطينيون في الكويت، قبل "الغزو العراقي للكويت" الذي شكّل محطة مفصلية في حياة الفلسطينيين. وفي هذا المجال، ركّز الغبرا على نتائج "تلك الكارثة"، ليس على الكويت وشعبها فحسب، بل بصورة مفصلة على الجالية الفلسطينية هناك أيضاً، وتناول تجربتهم بين سنتَي 1990 و1991، وطبيعة العلاقة التي نشأت بينهم وبين الشعب الكويتي في إبان الأزمة، تمهيداً لبداية نهاية وجودهم في ذلك البلد، ليصبحوا أقلية صغيرة بعد أن غادر أغلبيتهم الكويت مع تحريرها، ويكونوا جالية بلا تأثير، بحسب وصفه.
ختاماً، يُظهر الكتاب كيف دفع الفلسطينيون أولاً ثمن النكبة التي ألمّت بهم، وثانياً "ثمن الغزو العراقي للكويت"، لتبدأ مرحلة جديدة من الشتات، غير أن العائلة تظل هي الأساس وحجر الزاوية في قدرتهم على إعادة التنظيم وإنشاء شبكاتهم، وشبكة الروابط التقليدية في الإجمال تبقى هي الآلية لحلم العودة والسعي للحفاظ على الحقوق واستعادتها. ويخلص الكتاب إلى أن صفات المجتمع المشتّت، ووجود الروابط العائلية، كانا، وما زالا مستمرَّين كواحد من أبرز عوامل الزخم التي تساهم في الحفاظ على المجتمع الفلسطيني في شتاته الطويل.
[1] موريس هالبواش، "الذاكرة الجمعية"، ترجمة وتحقيق نسرين الزهر (دمشق: بيت المواطن للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2016)، ص 98.