يخوض الرئيس الأميركي دونالد ترامب سلسلة من المعارك في آن واحد، تزامناً مع دنو موعد الانتخابات الرئاسية؛ وبينما تتركز الداخلية منها على ما يعتبره إنجازات اقتصادية، وعلى انتقاداته وسخريته من منافسيه الديمقراطيين، فإنه يركز خارجياً على إيران وسورية وسلام الشرق الأوسط، كي يظهر نفسه رجلاً قوياً وقادراً على حل معضلات تاريخية مثل المسألة الفلسطينية.
تمتاز السياسة التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الشرق الأوسط منذ خريف سنة 2019، بأنها وثيقة الصلة باعتبارات انتخابية تتعلق بدخول بلده في سنة تطغى فيها معركة الرئاسة على جميع الاهتمامات السياسية مثلما يجري بانتظام كل أربعة أعوام، وهي مدة العهد الرئاسي في دستور الولايات المتحدة. وتقوم سياسة ترامب النشطة في الشرق الأوسط على محورين رئيسيين: محور النزاع مع إيران، ومحور الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
أمّا الحرب السورية، فتفضي الاعتبارات الانتخابية ذاتها إلى غسل ترامب يديه منها، وتجنّبه الوقوع في شركها، تفادياً لتعقيداتها وخطورة تفاعلاتها، الأمر الذي حداه على الانسحاب من المنطقة السورية المحاذية لتركيا، وترك الرئيس رجب طيب أردوغان يرتب أموره مع زميله الروسي فلاديمير بوتين. وفي الواقع، فإن أميركا غائبة تماماً عن الحرب الطاحنة التي تدور رحاها في منطقة إدلب عند كتابة هذه الأسطر، وإدارة ترامب لا تُبدي إزاءها وإزاء المأساة الإنسانية الناجمة عنها سوى الازدراء التام الذي عبّر عنه إقفال أبواب الولايات المتحدة أمام اللاجئين السوريين منذ تولّي الرئيس الأميركي الحالي سلطاته الرئاسية.
فيما يتعلق بالنزاع مع إيران، واجه ترامب تصعيداً في الاستفزازات التي دبّرتها طهران ردّاً على تصعيده الضغط الاقتصادي على "الجمهورية الإسلامية" منذ أن نقض في أيار / مايو 2018 الاتفاق النووي الذي كان سلفه باراك أوباما قد أبرمه معها. وقد أدى شدّ الخناق الأميركي على الاقتصاد الإيراني دوراً مهماً في مفاقمة الأوضاع الاجتماعية في جمهورية الملالي التي شهدت انتفاضة شعبية ضد حكمها في نهاية سنة 2017 وبداية سنة 2018. وفي مواجهة ذلك، رأت طهران أن تواجه الخنق الاقتصادي بتصعيد عسكري - سياسي ضد المملكة السعودية، حليفة أميركا التقليدية ومحميتها، وضد الوجود العسكري الأميركي في العراق.
بلغ التصعيد الإيراني ضد الرياض ذروة عظيمة الدلالة عندما تسترت طهران خلف حلفائها الحوثيين اليمنيين كي تقصف منشآت نفطية سعودية بتاريخ 17 أيلول / سبتمبر 2019 بواسطة صواريخ جوالة وطائرات مسيرة. وكانت العبرة من تلك الضربة جلية، إذ إنها أوصلت إلى الرياض وواشنطن رسالة فحواها أن إيران قادرة على شل الصادرات النفطية السعودية مثلما تشل واشنطن صادراتها هي. ولاحظ جميع المراقبين آنذاك كيف جاء الرد الأميركي خافتاً للغاية، لكن لا يصعب فهم سبب هذا الخفوت، فقد أدرك ترامب أنه لو رد على الاستفزاز الإيراني، لأدى تصعيد التوتر إلى التهاب أسعار النفط بما يسيء إلى الاقتصاد العالمي وينعكس على الولايات المتحدة نفسها، ولهذا آثر تخفيض التوتر.
بَيد أن طهران لم تكتفِ بضرب المنشآت السعودية، بل انتقلت إلى إعداد ضربة لاحقة ضد القوات الأميركية المنتشرة في العراق. كانت واشنطن تحت رئاسة أوباما قد أكملت سحب قواتها من ذلك البلد في نهاية سنة 2011، إلّا إنها أعادت نشرها فيه عندما طلبت بغداد معونتها ضد تنظيم داعش بعدما اجتاح هذا الأخير منطقة شاسعة من الأراضي العراقية في صيف سنة 2014. وتم طلب المعونة الأميركية بضوء أخضر من إيران طبعاً، وهي الدولة الوصية على الحكم العراقي، في وقت كانت طهران تثق بحسن نيات الرئيس الأميركي. غير أن القوات الأميركية الموجودة في العراق غدت عقبة أمام تحكّم إيران الكامل في ذلك البلد بعد أن زال خطر داعش إلى حد بعيد، وانتقلت الرئاسة الأميركية إلى رجل يكنّ لإيران عداء سافراً يرتبط بتثمينه العالي للعلاقة بالمملكة السعودية، أول بلد زاره بصفته رئيساً.
إن إلحاح إيران على العراقيين من أجل التصدي للوجود الأميركي في العراق، كان أحد الأسباب وراء اندلاع انتفاضة شعبية في هذا البلد الأخير منذ بداية تشرين الأول / أكتوبر 2019 عبّرت بصراحة، وللمرة الأولى، عن استياء قطاع واسع من الشيعة العراقيين من تسلط طهران على بلدهم. فما كان من قاسم سليماني (قائد "فيلق القدس" في "حراس الثورة الإسلامية"، والمشرف على الامتداد العسكري الإيراني التوسعي في الدول العربية) إلّا أن أخذ يخطط لعمليات عسكرية ضد الوجود الأميركي تنفذها "كتائب حزب الله" وسواها من الميليشيات الطائفية العراقية الخاضعة لإيران. ويُرجّح أن سليماني اعتقد أن ترامب سيتجنب الصدام ويميل إلى سحب قواته من العراق مثلما سحبها من الشمال الشرقي السوري المحاذي لتركيا، وها هو يسعى وراء سحبها من أفغانستان. وما كان ممكناً للقائد الإيراني أن يتوقع أن ردة الفعل الأميركية ستصل إلى حد القضاء عليه هو بالذات، لكن هذا ما حدث في إثر حلقة تصعيدية ردت فيها واشنطن مرة أولى بقتل عدد كبير من رجال "كتائب حزب الله"، ثم قامت بتصفية سليماني ومرافقيه رداً على اقتحام تلك "الكتائب" لسفارتها في بغداد.
ما لم تفطن إليه طهران هو أن موقف ترامب من العراق يختلف كلياً عن موقفه من سورية، فالفرق بين البلدين جليّ: أحدهما غني بالنفط، والثاني مُفقَر ومدمر. وبينما أفصح ترامب مراراً عن نيّته سحب القوات الأميركية من سورية وأفغانستان، فإنه أخذ على سلفه سحبها من العراق من دون الاستيلاء على ثروته النفطية مكافأة لما بذلته أميركا من مجهود حربي فيه (كأنه مجهود تم بذله لمصلحة الشعب العراقي!). يضاف إلى ذلك أن العراق حلقة من حلقات الانتشار الأميركي في منطقة الخليج التي يرى فيها ترامب مصدراً كبيراً للمنفعة الأميركية. وقد جاء ردّه على التصعيد الإيراني حاسماً رادعاً، غايته تبليغ طهران أنه سيرد الصاع صاعَين في كل مرة، لكن من دون الذهاب إلى حد حرب واسعة النطاق لا مصلحة لديه في إشعالها في سنة انتخابية، مثلما لا مصلحة لطهران في تفجيرها، ولا سيما أنها تتخبط في صعوبات اقتصادية، وقد شهدت انتفاضة شعبية ثانية أكبر حجماً من السابقة، اندلعت في منتصف تشرين الثاني / نوفمبر 2019.
هكذا انتهى الأمر باتفاق ضمني بين واشنطن وطهران قضى بأن تقصف إيران الانتشار الأميركي بعد التحذير بحيث لم يسقط أي قتيل، بل أي جريح، باستثناء الصدمات العصبية الناجمة عن مفعول القصف على الموجودين في الملاجىء. وهكذا حفظت طهران ماء الوجه، مع أن ضربتها جاءت هزيلة قياساً بتلك التي تلقّتها بقتل سليماني، واستطاع ترامب أن يوظف ضربته أمام جمهوره الانتخابي بتأكيده قدرته على حماية هيبة بلده العسكرية من دون الانزلاق إلى مستنقع حرب مديدة جديدة.
أمّا بالنسبة إلى ملف النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، فقد قدّم ترامب "صفقة القرن" التي كان التزم بتقديمها باكراً في عهده، جاعلاً إياها أحد الاستحقاقات البارزة التي توجب عليه تسديدها استعداداً لمعركة تجديد ولايته الرئاسية. ومثلما كان متوقعاً ضربت "الصفقة" عرض الحائط بأهم أركان السياسة الأميركية الرسمية التقليدية إزاء النزاع المذكور، ومنحت الحكم الصهيوني ضوءاً أخضر كي يستكمل نكبة 1948 بضمّه رسمياً المساحات الاستراتيجية ومناطق انتشار المستعمرات في أراضي الضفة الغربية المحتلة منذ سنة 1967. وبذلك دغدغ ترامب مشاعر قاعدته الانتخابية الإنجيلية من "الصهيونيين المسيحيين" الذين يمثلهم في إدارته وزير خارجيته مايك بومبيو.
غير أن الرئيس الأميركي خشي من أن تبدو مناورته وثيقة الصلة بمصلحة انتخابية أُخرى، هي مصلحة صديقه بنيامين نتنياهو، بحيث ترتد ضده لو سقط نجم هذا الأخير في انتخابات الكنيست المقبلة، أو بسبب غير ذلك من التطورات السياسية والقضائية على الساحة الإسرائيلية. ولذا حرص ترامب على إشراك منافس نتنياهو الرئيسي، بيني غانتس، ومنعت إدارته رئيس الحكومة الإسرائيلية من إجراء الضم قبل أن ينقشع ضباب الوضع السياسي في دولته وتسفر الانتخابات المقبلة عن حكومة أكثر ثباتاً من تلك التي تعاقبت على تسيير الدولة الصهيونية في الآونة الأخيرة.
ومن المفارقات الكبرى وسخريات التاريخ أن يكون الأمل الأكبر لدى الشعب الفلسطيني متمثلاً اليوم في رجل يرجَّح أن يكون أول سياسي يهودي يخوض معركة الرئاسة الأميركية. هذا الرجل هو بيرني ساندرز الذي كان يتقدم على منافسيه في "الحزب الديمقراطي" عند كتابة هذه السطور، بما يدل على احتمال فوزه بترشيح الحزب في مواجهة دونالد ترامب. فلو تحقق ذلك، فإن انتخابات تشرين الثاني / نوفمبر المقبل ستشهد مواجهة بين أكثر الرؤساء الأميركيين عداء للقضية الفلسطينية في التاريخ، وأكثر مرشحي الرئاسة تعاطفاً مع تلك القضية في التاريخ أيضاً. وأياً تكن نتيجة المواجهة الانتخابية المقبلة، فلا بد من أن يستعيد الشعب الفلسطيني الزخم الثوري العظيم الذي جسّده في أعظم محطات نضاله حتى اليوم، وهو "الانتفاضة" التي هبّت في آخر سنة 1987 وبلغت ذروتها في العام التالي، متسببة بأكبر أزمة عرفها المجتمع الصهيوني إلى الآن. بهذا الشرط وحده يصبح من الممكن إعادة وضع القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني في أولويات جدول أعمال القوى العالمية.