قراءة في نص "لست وحدك" للأسير علي جرادات: شجاعة المعاناة في فلسفة المواجهة خلف القضبان
التاريخ: 
16/03/2020
المؤلف: 

"لست وحدك، ذاكرة حرية تتدفق" كتاب صادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية للصحفي الأسير علي جرادات الذي قضى أكثر من 14 عاماً داخل سجون الاحتلال وما زال يقبع في السجن. إنه نص توثيقي وشهادة تاريخية صادقة وحقيقية عن واقع الأسرى في سجون الاحتلال من خلال تجربة شخصية ناطقة باسم الهم الجماعي للأسرى والأسيرات تجمع بين التاريخ الشفوي والشهادة الحية في مواجهة أضاليل الرواية الإسرائيلية وعنصريتها والتي تتجسد بكل وحشية خلف القضبان، في تلك الجبهة الخلفية التي تسمى ساحات السجون، حيث تدور الحرب الطاحنة والصامتة لتدمير إنسانية الإنسان الأسير.

النص هو شهادة دفاع ملحمي عن حرية الأسرى وكرامتهم من خلال ذاكرة تحولت إلى محاكمة ضمير إنسانية صارخة للاحتلال وجرائمه وطغيانه بحق شعبنا وأسرانا، فالنص رفع الضحية إلى مرتبة السمو، الضحية تتكلم وتشير إلى دولة الاحتلال كدولة فوق القانون تنتهك كل القيم والأعراف الإنسانية والأخلاقية، الضحية تلاحق المجرمين الإسرائيليين بقوة إرادتها وإيمانها بعدالة القضية التي ضحت في سبيلها، الضحية لا تنسى، الضحية على موعد مع القتلة في المحاكم الدولية.

لست وحدك هو نص ثقافي أدبي وجزء من فكر المقاومة الفلسطينية، يكشف بطولات وإبداعات الأسرى وتضحياتهم الكبيرة والذين استطاعوا في كل الظروف المريعة أن يحولوا السجن من مقبرة إلى متراس وجامعة ومدرسة، لتصبح السجون في مرحلة من المراحل منطقة استقلال ذاتي محررة، يقول علي: "أصبحنا نسكن السجن ولا نسمح له أن يسكن فينا."

يتناول نص "لست وحدك" عدة قضايا أبرزها التعذيب كجريمة حرب مستمرة وممنهجة يتعرض لها الأسرى على يد المحققين الإسرائيليين، أساليب وحشية وسادية وانتقامية كشفها الكاتب في هذا النص بقوله: "أدركت أنني أمام وحوش في هيئة بشر"، ويتطابق وصف الكاتب مع ما قالته المذيعة الإسرائيلية كوتلر في القناة العبرية 13 يوم 16/2/2019 في وصفها جنود الاحتلال خلال تنكيلهم وتعذيبهم الأسرى وهم مكبلين بأن الاحتلال يحول الجنود إلى وحوش بشرية.

المحققون الذين يمارسون التعذيب من أجل التعذيب وصفهم علي جرادات بالهمج الذين يعبرون عن صورة دولة الاحتلال البربرية والبهيمية الغارقة في العدوانية والفاشية، تنطبق عليهم نظرية داروين في التطور. قال علي للمحقق: "إن الكائنات الحية كلما ارتقت في سلم التطور يزداد لديها استخدام دماغها ويقل استخدامها لأطرافها." ويقصد علي أن المحققين يتصرفون كالبهائم بالضرب والركل والرفس والبصق والشتم واللطم والهز، وهذا ما يسقط ادعاء إسرائيل بأنها دولة ديمقراطية ومتطورة وحضارية في المنطقة.

74 محققاً مروا على علي في مسالخ التعذيب خلال فترات اعتقاله، جاؤوا من عصور ما قبل التاريخ، لا تنقصهم سوى جلود الحيوانات، وكانت أهدافهم تغيير هوية المعذب من متمرد إلى خاضع وإلى إيصال الضحية إلى أقصى حالات الضعف والتذلل وتجريدها من الصفة الإنسانية، وعلى مدار 14 عاماً في مسالخ التعذيب كان علي يقول للمحقق: "إننا نحن الأسرى لا نسمح بأن تمس كرامتنا حتى لو كلفنا ذلك حياتنا."

كتاب لست وحدك يتعرض للاعتقال الإداري التعسفي الذي قضى علي تحت طائلته 12 عاماً، ويتعرض كذلك لاعتقال الأطفال القاصرين ويكشف تواطؤ القضاء الإسرائيلي الذي وصفه علي مجرد ديكور لتغطية جرائم وانتهاكات الاحتلال وهذا ما قاله الكاتب للمستشار القانوني لدولة الاحتلال إليكيم روبنشتاين خلال زيارته للسجن: "قضاؤكم مجرد ديكور وختم مطاطي لتبييض صفحتكم السوداء ولتزيين جرائمكم تحت شعار القانون."

نص لست وحدك أكثر من كتاب توثيقي، إنه يبرز شجاعة المعاناة في فلسفة المواجهة خلف القضبان، بطولات وتضحيات، شهداء ودماء سجلها تاريخ الحركة الأسيرة من أجل الحرية والكرامة، قال المحقق لعلي: "أنتم العرب تولدون وأيديكم إلى الخلف"، رد علي: "بل تلدنا أمهاتنا أحراراً."

شجاعة المعاناة في نص لست وحدك أسقطت نظرية السجن بالمفهوم الإسرائيلي: القدرة على اجتياز الألم، للمعاناة معنى وحياة، فالأسرى احتفظوا بحريتهم الروحية رغم أهوال السجن وظروفه القاسية، هذه الحرية الروحية التي لم يستطع السجانون سلبها من الإنسان الأسير، لهذا رأى علي عيني ابنته الصغيرة سجى في الصورة التي وصلته إلى السجن تتحركان وتقول له: "أنا الحياة أنا الحياة"، وفي ذات الوقت رأى السجانين ليسوا أكثر من آلات ومعسكرات وبنادق وأبراج ومنظومات قمع كأنهم محشورين في منازل للأموات.

شجاعة المعاناة علمت الأسرى درساً هاماً في المواجهة يتمثل كما يقول الكاتب بأن الصمود يبدأ قبل الذهاب إلى مسالخ التعذيب، وذلك بتحصين الذات والعقل والانتماء بالوعي السياسي والفكري والثقافي وبأساليب ووسائل مقاومة الاعتقال والتحقيق، هذا الوعي المقاوم هو سلاح الأسرى على مدار كل السنوات السابقة في الدفاع عن إنسانيتهم ومواجهة غطرسة الاحتلال وأساليبه القمعية.

شجاعة المعاناة في نص لست وحدك هي سيرة الأبطال الأسرى الشهداء والأحياء الذين هم ليسوا وحدهم لأنهم ملتصقون بالتاريخ والهوية ومسيرة شعبنا المناضل، إنها ثقافة الحرية والمقاومة التي يمثلها الأسرى كرموز لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، والكاتب هنا لا يعرف الأسرى بالمسجونين وإنما هم الأسرى الأحرار الطليقين في الإنسان وفي الكون، هم صوت كل مظلوم هب لرفع الظلم، كل مستعبَد انتفض على مستعبِد، المطلوب حمايتهم والسعي لأجل حريتهم والحفاظ على مكانتهم القانونية والإنسانية من الاستهداف الإسرائيلي الذي يسعى إلى تحويلهم إلى إرهابيين وتجريم نضالهم الوطني وقتل روحهم الطليقة.

لست وحدك هو نص قانون نضال الجماعة: حين تتلاقى الأرواح الحالمة يصبح تحقيق الحلم في عداد الممكن، وحين تتلاقى الأرواح العطشى ينهمر المطر، لست وحدك وأنت السجين من أجل حرية فلسطين التي تسير في دروب الجلجلة، فمعك كل الحالمين من البشر بزوال عتمة طالت، معك كل إنسان يسيل من وجعه أغنية للفجر.

عن المؤلف: 

عيسى قراقع هو وزير شؤون الأسرى والمحررين السابق.